الاثنين 16 سبتمبر 2024 الموافق لـ 12 ربيع الأول 1446
Accueil Top Pub

عن الاستثمار في المجال الثقافي


تجدّدت في الآونة الأخيرة في المشهد الثقافي الجزائري، أحاديث حول أهمية "الاستثمار في القطاع الثقافي"، أحاديث مختلفة في هذا السياق، فتحت أبواب الجدل والنقاشات على مصراعيها: فهل يمكن حقاً الاستثمار في هذا المجال الحساس أم أنّ الأمر لن يكون إلا مُغامرة غير معلومة التفاصيل ولا محمودة العواقب. وهل هناك فعلاً إمكانية حقيقية لاستثمار الخواص في الحقل الثقافي، وهل يمكن أن يجد هذا الحقل بعض المستثمرين الذين يؤمنون بالثقافة وبخدمتها، وهل ستشهد الساحة الثقافية في الجزائر نقلة أو حركيّة نوعية في هذا النوع من الاستثمار الاقتصاديّ في قطاع الثقافة (الذي ظلّت الدولة ترعاه وتغدق عليه)، أم أن الأمر ضربٌ من الخيال؟ ولا أحد سيغامر صوب الثقافة ويضع أمواله أو أفكاره ومشاريعه فيها. حول هذا الموضوع "الاستثمار الثقافي"، يتحدث بعض الكُتاب والأدباء في ندوة "كراس الثقافة" لهذا العدد.

إستطلاع/ نوّارة لحـرش

أحمد دلباني/ كاتب وباحث أكاديمي
الاستثمار في عالم الثقافة لا يمكن أن يتم  بإجراء قانوني
إنَّ للاستثمار في مجالات الثقافة والإعلام، بكل تأكيد، شروطا ثقافية وسياسية وسوسيولوجية معقدة جدا ولا يُمكن، بحال، اختزالُ ذلك في قرار قانوني قد يفتتحُ عهدًا جديدًا لحياةٍ ثقافية غنية تعكسُ ديناميكية المُجتمع في الإفصاح عن نفسه وعن إبداعيته أو في التعبير عن مُشكلاته وقضاياه. فلا يخفى أبدًا أنَّ دولة الرقابة لا زالت ذات حضور وسطوة من خلال الاحتكار والمُراقبة من المُحيط إلى الخليج. بل إنَّ بعض البلاد العربية لا تزال تعيشُ العصورَ الوسطى بآلتها القمعية ومُمارسات الوصاية الدينية والحظر الذي يطال المُبدعين والمُدونين كما هو سائدٌ في بلدان الوفرة المادية والرَّيع النفطي. فعن أي استثمار ثقافي وإعلاميّ نتحدث؟ أما بالنسبة للجزائر فأنا أرى شخصيا، أننا لم نلج، بعدُ، عالم الاستثمار الحقيقيِّ في هذه المجالات ما دامت الصحافة الحرة تتعرض للمضايقات والحرمان من الإشهار على سبيل التمثيل، وما دامت المنابر الثقافية والإعلامية لا تتمتعُ بالاستقلالية الفعلية عن دوائر السلطة وتجاذباتها. هذا ما يجعلني أتحدثُ، دوما، عن قصور بنيوي في نظامنا الاجتماعي والسياسي معا يقفُ حجرَ عثرةٍ أمام انبثاق "المُجتمع المفتوح" بكل الدلالة العميقة التي يحملها هذا المفهوم.
أعتقدُ أنَّ الاستثمارَ في عالم الثقافة والإعلام عندنا لا يُمكنه أن يترسَّخ إلا في ظل حياةٍ ديمقراطية وتقدم اجتماعي وازدهار ثقافي شامل. يبدو أنَّ هناك عائقا رهيبا يقفُ تنينا في وجه الإنعتاق من الشلل العام وجهاه البارزان هما الاحتكار السياسي من جهةٍ أولى، والزمن السوسيو- ثقافي الرَّاكد من جهةٍ أخرى. هذا ما جعل من إعلامنا استهلاكا مُبتذلا واستثمارًا لا يُعبِّرُ عن حيوية المجتمع وديناميكيته. وربما أمكننا أن نقول إنَّ الحديث عن الاستثمار في قطاع الإعلام والثقافة في بلدنا هو كالحديث عن العنقاء ما دمنا لا نجدُ استثمارًا فعليا في الكِتاب والمسرح والسينما والإعلام الثقافي. لا زلنا نعيشُ على فضائل ريع الدولة في عالم النشر مثلا ولا نملك ثقافة إنتاج وتسويق الكِتاب. فهل يُمكنُ مثلا، لناشر يحترمُ نفسَه أن يعيشَ على بركة "صناديق دعم الإبداع"؟ ليس لدينا مؤسَّسات إنتاج سينمائي. نفتقرُ بصورةٍ تامة إلى دور سينما ومسارح احترافية. بل نفتقرُ، قبل ذلك، إلى ثقافة تحرير المُبادرة من الاستجداء والانتهازية التي عرفت دولة الاحتكار كيف تستثمرُ فيها جيدا. فهل يُمكنُ الحديث، بعد هذا، عن حياةٍ ثقافية أصلا؟ ما أردتُ أن أقول –في كلمةٍ– هو أنَّ الاستثمارَ في الثقافة والإعلام لا يقوم على فراغ وإنما على قاعدةٍ سوسيو-ثقافية متخلصة من بنيات الفكر الأحادي والمُمارسات التي لا تزال تنهل من ثقافة الوصاية والرقابة. ما يحتاجُ إليه الاستثمارُ في الثقافة هو استقلال المُجتمع المدني وانعتاقُ دائرة الثقافة والإبداع من السلطة السياسية.

محمد رابحي/كاتب وناقد
علينا أن نُخرج الثقافة إلى السوق لتؤدي وظيفتها الطبيعية
جميل أن تسمع من وزير في بلد كالجزائر ضرورة إشراك رجال المال والأعمال في "اللعبة الثقافية". لكن كلام الوزير بقدر ما هو جميل بقدر ما هو مناف للواقع. أو لنقل بأنه يتعامل مع لون واحد من مكعب.
لنسأل كيف يمكن تنفيذ مثل هذا الأمر؟ بإصدار تعليمات أم بسن قوانين؟ الثقافة لا تحتاج إلى إشراك "مستثمر" لإنعاشها. فذلك يعني أننا نُدخل "المؤسسة الاقتصادية" إلى حقل الثقافة بينما الأصح في المعادلة أن نُخرج الثقافة إلى السوق وتسليعها لتؤدي وظيفتها الطبيعية ضمن منظومة متكاملة. وتاليا تقوم بتمويلها الذاتي. كم بشع أن تظل الثقافة كامرأة شرقية "محجوبة" تنتظر رجلها "الغودو"، قد يأتي وقد لا يأتي. علينا أن نمنح الثقافة استقلالها الكامل والنهائي، حتى تكتسب مرونتها وأدواتها الخاصة لتكون فاعلة وايجابية.
إن الجزائر التي فشلت منذ 88 في أن تدخل السوق وتحرر اقتصادها، هل في وسعها أن تحرر ثقافتها؟. فالثانية مرتبطة بالأول. إن الدولة الوطنية التي اجتهدت لتأميم المحروقات وأممت معها الثقافة غداة الاستقلال، هي الآن في مرحلة حرجة من مسارها لا يسمح بمثل هذه المبادرات، فبعد أن "باعت" مركب الحجار عادت واسترجعته. وهي اليوم في حاجة ماسة إلى الثقافة لتسندها. فإذا كانت السلطة وفق فوكو لا وجود لها، فحتما هي توجد بفضل المؤسسات الظاهرة العسكرية والدينية والرياضية والثقافية... على ذلك ظهر عندنا مديريات الثقافة، صندوق دعم الإبداع، ثم المجلس الأعلى للفنون،، وزادت ميزانية الوزارة الوصية. وزادت ثقافتنا إذاك تخلفا عن سنوات الـ60 والـ70.
طبعا هذا الرأي يبدو منطقيا وأكثر جمالا، لكنه هو الآخر غير واقعي بل متطرف بالنظر إلى ما هو قائم ومتجذر. ذلك لأن العمل به يقتضي الاشتغال على منظومة بأكملها تتطلب الوقت بقدر ما تتطلب الجرأة. وحسب ظني تبدأ اللعبة من جانبنا نحن مثقفي الجزائر، هل نحن على استعداد للاستغناء عن صندوق الدعم؟.

عز الدين جوهري/ شاعر وناقد
تعترض طريقه عوامل كثيرة متشابكة ترتبط أساسا بالأشخاص
إن كلّ رغيف خبز يومي لا يتبعه رغيف ثقافي لا يمكننا من إنجاب مجتمعا واعيا ومحصنا من كل الهجمات الشرسة التي تطاله من الحد إلى الحدِّ. وإن كلّ ركود سياسي واقتصادي وصناعي، إلا ورافقه ركودا ثقافيا وفكريا. وكل هزيمة صناعية وسياسية واقتصادية إلا وهي مسبوقة بهزيمة ثقافية وفكرية وإبداعية. من هنا كانت الحاجة مُلحة للحديث عن هموم الثقافة و أوجاعها، وتغييبها من منصاتنا ومن برامجنا ومن مشاريعنا التي وأدت كل نفس ثقافي في مهده. فالتجربة عندنا في الجزائر مريرة وقاسية، ومعقدة لخلوها من أي مشروع ثقافي وفكري وتربوي يهدف إلى ترقية الذوق العام، وتصويب الرؤى والقناعات التي أفرغت الإنسان من محتواه، وأسلمته لوعي زائف وقناعات تافهة حطمت بداخله كل ذوق وحس، ولعل مسألة الاستثمار في المجال الثقافي جاءت كأولوية، وكمدخل مهم يمكِّن من تحقيق مقاصدنا النبيلة وغاياتنا في تحريك عجلة التنمية الثقافية التي أصبحت إستراتيجية خصصت لها دول الغرب ميزانيات ضخمة لتنشيط الحركة الثقافية وفتح الباب أمام رجال الأعمال الذين يضعون نصب أعينهم الثقافة التي لازالت رهينة إشباعات مادية على حساب غذاء الروح.
ومسألة الاستثمار في المجال الثقافي من قِبل الدولة والخواص طرح معه إشكالات حقيقية مرتبطة برغبة الدولة في فتح حوار وطني جاد وشامل حول تخصيص آليات للاستثمار في المجال الثقافي، وكذا إلصاق المال بالثقافة وإنشاء مؤسسات ثقافية مُنتجة، تضيف للدولة مكاسب معتبرة، في السينما، والكِتاب والألعاب الترفيهية الثقافية، والمسرح، والأفلام المختلفة التي أصبحت تُدر أموالا طائلة على خزينة الدول التي راهنت على بُناها الثقافية في تحصيل المال الذي يوجه لصيانة الأمن القومي وحمايته من الوعكات التي قد تسلمه لأزمات مستعصية.
أحمال ثقيلة ملقاة على عاتق القائمين على الثقافة وشؤونها، والراغبين في الاستثمار بحقلها، والمنخرطين في همومها، ووحده الزمن كفيل بالإجابة عن مدى قدرتنا على جعل الفعل الثقافي حقلا منتجا معرفيا واقتصاديا.
تعد مسألة الاستثمار في المجال الثقافي من أعقد المشكلات التي تم طرحها في الآونة الأخيرة كونها مشروعا بديلا للفشل الذي لحق ببعض الاستثمارات الأخرى التي رافقها انحدار مرعب على كافة الأصعدة الحيوية التي تعتبر رافدا مهما من روافد الدولة، ولعل الاستثمار في الجانب الثقافي تعترض طريقه عوامل كثيرة متداخلة ومتشابكة فيما بينها ترتبط أساسا بالأشخاص الذين لديهم النية في القيام بمثل هذه الاستثمارات وكذا سياسة الدولة التي أهملت السؤال الثقافي وأسقطته من أجنداتها واستراتيجياتها، ناهيك عن تعقيدات أخرى مرتبطة أساسًا برجال الأعمال الخواص الذين لا يطمئنون كثيرا على أموالهم التي سينفقونها في مشاريع ثقافية قد تكلفهم خسائر فادحة تجعلهم يتوجسون خيفة من الإنخراط في هكذا مشاريع.
رهانات كبرى تنتظر الثقافة، وتنتظر الدولة وتنتظر الأفراد والمؤسسات لأجل رد الاعتبار لما أُهدر من دم ثقافتنا التي سقطت من خرائطنا ومشاريعنا الكبرى التي لن تقوم لها قائمة إلا بتظافر الجهود العامة والخاصة في تحقيق قفزة ثقافية تريحنا من سطوة السؤال السياسي الذي أزكم الأنوف والعقول.
على رجال الأعمال، أن يضخوا قليلا من مالهم لخدمة الثقافة عن طريق إنشاء مؤسسات ثقافية وكذا جرائد وقنوات، ومسارح، ودور نشر، ومدن إعلامية لإنتاجٍ مختلف، ومراكز دراسات وأبحاث تساهم في الإقتصاد الوطني الذي تتهدده مخاطر كبرى تكاد تعصف بمقوماته وركائزه.

علاوة كوسة/ كاتب وناقد
مبادرة حسنة لكن هل نملك ثقافة صناعة الثقافة؟
ترددت في المدة الأخيرة مقولات عن الثقافة والناس لعل أهمها "ارموا بالثقافة إلى الشارع يحتضنها الناس" وذلك للحاجة الماسة إلى الثقافة والمثقفين في هذا العصر، وينبغي التنبيه إلى أن من القلائل الذين تناوبوا على وزارة الثقافة وفكروا في إستراتيجية الاستثمار في مجال الثقافة هو الوزير الحالي، الذي نادى بالفكرة منذ توليه الحقيبة الوزارية التي كانت مثقلة بالملفات الهامة والاستراتيجيات العاجلة للنهوض بقطاع الثقافة في هذا الوطن الذي أنهكته الأزمات الأخيرة وكنا بالفعل بحاجة إلى تحقيق أمننا الثقافي والرقي به ليكون في مستوى طموح مثقفينا ومحبي الثقافة.
لقد عُقدت جلسات عديدة بين المسؤولين على المجال الثقافي ورجال الأعمال وذلك من أجل تدارس مجالات التعاون بين الجهات الفاعلة للاستثمار في قطاع الثقافة، والتأسيس لتقاليد جديدة في صناعة الثقافة في هذا الوطن على غرار بلدان عربية وغربية سبقتنا في التجربة، إلى حد الآن وبصفة نظرية أولية فمجرد التفكير في إقحام المستثمرين في المجال الثقافي تعد مبادرة حسنة ورائده في هذا البلد، لكن السؤال المطروح: هل نملك ثقافة صناعة الثقافة؟ وهل لدى رجال الأعمال الجزائريين ثقافة الاستثمار في الثقافة والغالب أن نظرتنا إلى الثقافة بوصفها قطاعا غير منتج؟.
شخصيا سألخص القضية في تخمينات مؤسسة على معطيات، لعل البداية من كون المستثمرين يعدون مستفيدين من كل تمويل لنشاط مهما كان نوعه وذلك من وجهة نظر ضريبية حيث يستفيدون من كل مرافقة مالية تمويلية لأي نشاط بتخفيض ضرائبهم لذلك فإن توجههم للاستثمار في الثقافة أو في أي مجال آخر هو ذو منفعة ذاتية بصفة أولى، وفي هذه الحالة فهناك مصلحة محققة للطرفين، ولكن الحالات الأفضل والتي أجزم أن وزارة الثقافة تراهن عليها هي فئة المستثمرين الذين يخوضون تجربة استثمارهم في صناعة الثقافة وتقديمها في صور مختلفة وجميلة وبوعي وثقة ومسؤولية ودعني أقل وطنية، حيث يعتقد هؤلاء بالفعل أن خدمة ثقافة بلد إنما هي واجب وطني، كما يقع في دول عربية وغربية كثيرة، خاصة إذا تعلق الأمر الإيمان بمشروع ثقافي هام يُراهن عليه في قطاع الثقافة رفقة الشراكة الفعالة للجمعيات الثقافية والفنية الكثيرة والتي لن تبخل عن المشاركة في هذا المشروع الثقافي الهام الذي ينادي به القائمون على الشأن الثقافي في هذا البلد. شخصيا أرى أن الاستثمار في الثقافة ليس ضربا من الجنون كما يشك البعض، إنما فكرة يجب أن يؤمن بها الجميع للنهوض بالثقافة التي لا تخص الهيئات والمؤسسات الثقافية والدوائر الرسمية فحسب، بل تهم المجتمعات كلها على اختلاف الفئات والتوجهات والتخصصات.

بوداود عميّر/ كاتب ومترجم
الثقافة بالنسبة للقطاع الخاص  لا تعدو أن تكون مجرّد ترف
لا يمكن بين عشيّة وضحاها تغيير بوصلة الوعي وسط القائمين على القطاع الخاص في الجزائر، نحو أهمية الاستثمار في المجال الثقافي بوصفه خدمة عمومية، لا تحقّق بالضرورة عائدات مادية، من شأنها أن تعود بالفوائد على شركاتهم. هاجس الخواص المركزي، بات يرتكز أساسًا في عقد صفقاتهم، وتعاملاتهم الاقتصادية، على تحقيق الربح، وتجنّب الخسارة، بأي ثمن، وبكل الوسائل المتاحة، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، ليس هذا فحسب، انتقل الخواص عندنا إلى مرحلة أخرى، أخطر فيما يبدو، وهي مرحلة الربح السريع، ومن ثمّ تورطوا في تبنّيهم، من حيث لا يدرون، النظرة الميكيافلية للأشياء، حيث الغاية تبرر الوسيلة، وبالنتيجة، لم تعد الثقافة وحدها المستهدفة في صدارة إقصائهم، باتت مستهدفة أيضا القيّم الأخلاقية، والعمل الخيري، بعد أن أغلقوا على أنفسهم داخل قفص البراغماتية، بين تخوم فهم محدود الأفق.
الثقافة بالنسبة للقطاع الخاص الجزائري، لا تعدو أن تكون مجرّد ترف، ليس إلا، يختصر مفهومها، في فلكلور بدائي، أو كِتاب لا يقرأه أحد، أو بضاعة كاسدة، لا تؤدي وظيفتها في اقتصاد السوق، بين معادلة العرض والطلب، بعيدا عن المفهوم الفلسفي للثقافة، كمنتجة للوعي، وتوازن الإنسان في إدراكه السويّ للأشياء من حوله. صار الخواص الجزائريون الآن، يستثمرون في الرياضة كتسيير مادي، في صفقات بيع وشراء اللاعبين، وليس في التربية أو التكوين، أو "يستثمرون" في شؤون السياسة لضمان هالة ما، سعيًا منهم لتحصين أسوار محيطهم من شبهات "تكديس" الثروة. ثم لم يلبث أن تفطنوا، متأخرين، لأهمية الإعلام وخطورته، في تلميع صوّرهم، أمام الرأي العام، والسعي نحو ترتيب مطيتهم في السياسة والأعمال.
في التسعينيات بادر مدير عام جريدة خاصة نجحت في تحقيق عائدات مالية، إلى مشروع إصدار صحيفة أسبوعية تُعنى بشؤون الثقافة، استمرت مدة معيّنة من الزمن، لكنه سرعان ما أوقف مشروعه مبررا إجراءه المفاجئ بعدم إقبال القارئ على اقتناء الأسبوعية الثقافية، الأمر الذي تسبب في شحّ موارد الإشهار، وهروب المموّلين مشيرا بتهكم إلى أنها كانت عقبة أمام رواج الجريدة الأم، مما استدعى التعجيل "بإعدامها". نحن نتحدّث عن مؤسسة إعلامية من المفترض أنها قريبة الصلة بالثقافة فما بالك بالمؤسسات الاقتصادية الخاصة! في العالم المتحضّر، تقوم الشركات الخاصة الكبرى، في إطار إعداد ميزانياتها السنوية على أساس تخصيص نسب محددة، للإشهار نصيبه، وللأعمال الخيرية وللثقافة نصيبها أيضا. "بيل غيتس" مؤسس شركة ميكروسوفت، وأحد كبار الأثرياء في العالم استطاع أن يصدّر صورة جميلة عنه، محببة لدى الأمريكيين، بعد أن كادت تفسدها ثروته الطائلة وهكذا تفرّغ لتأسيس منظمة خيرية، قام بتمويلها من ثروته، وأصبحت أكبر جمعية خيرية في العالم أين بات اهتمامه مركزا على جمعيته الخيرية، أكثر من شركته العملاقة.
وقس على ذلك شركات كبرى من قبيل مؤسسة فورد، أو روكفيلير، تبرّعت بثروات طائلة، ساهمت في بناء جامعات، وإنشاء متاحف، ومراكز البحوث ودعم الكِتاب.
الأثرياء في العالم، يعرفون بحكم الممارسة والتجربة أن أكثر الأشياء الكفيلة بتسويق صورتهم أمام الناس، وتخلدهم عبر التاريخ: الاستثمار في العمل الخيري، والاستثمار في الثقافة. وكما يُقال "إذا عرف السبب بطل العجب"، لقد تشكلت ثروات هؤلاء، في إطار تقاليد ارستقراطية راسخة، ضاربة في جذور التاريخ، جمعوا أموالهم، بمثابرة وتضحيات في خدمة بلدهم والإنسانية، في حين برز عندنا، على حين غرة، أثرياء جُدد جمعوا ثرواتهم عن طريق المضاربة، الاحتكار، وجميع أشكال التحايل.

عبد السلام فيلالي/ كاتب وشاعر
لا يمكن الحديث عن استثمار إذا لم يكن طموح الكاتب يتجاوز صدور ألف نسخة من كتابه
أسس المجتمع الجديد في أوروبا الثورة الصناعية لقيمه الجديدة التي تقوم على ميراث عصر النهضة وبدا أن البرجوازية تؤسس لهيمنتها بأن ترسخ قيمها الجمالية على أنقاض قيم الأرستقراطية. كان مجال هذا التأسيس الصالونات التي تتنافس على جذب الفنانين والكُتاب والفلاسفة إليها، وفي التسابق نحو تثمين استيطيقا تؤرخ لها. فساهم هذا في تشجيع الإبداع وصار بإمكان الفنانين والكُتاب أن يعيشوا على إنتاجهم. لقد تحول هذا النمط في إضفاء الجمال ورعاية الفنون إلى ثقافة ترسخت في المجتمعات الغربية، من حيث أن سيطرة البرجوازية على الدولة قد كرس هذا التوجه في الرعاية وتثمين الأعمال الفنية والإبداعية.
وكان الرقي الاجتماعي لمختلف الطبقات الاجتماعية وانتشار التعليم مما شجع هذا التوجه، وهو ما يعني أنه لم يعد مطلبًا بالنسبة للفنانين والمبدعين بل أيضا حاجة اجتماعية. وهو ما أضفى فيما بعد الطابع الاقتصادي على هذه الحاجة من حيث تحولها إلى سلعة لها سوقها الرائجة. برز هذا في سوق الكِتاب والموسيقى والفنون التشكيلية والمسرح والسينما، فصارت الدعاية والتسويق كفيلة بترقية هذه الصناعة وبالتالي الاستثمار فيها.
في مجتمعاتنا شبه الحضرية لا يمكن الحديث عن استثمار إذا لم يكن طموح الكاتب يتجاوز صدور ألف نسخة من كتابه، وأن يرى المخرج السينمائي فيلمه يعرض في عشرات أو مئات دور العرض. فالمشكلة تكمن في عدم وجود حاجة عريضة تتطور إلى سوق. وأما ربط المشكلة بدور الدولة فهو لا يحلها. ولا يمكن رمي أصحاب رؤوس الأموال بعدم اعتناءهم بالمجال الثقافي، فلا يوجد عاقل يمكن أن يصرف الملايين أو الملايير على فيلم لن يكون له سوق وبالتالي ربح.
إنها معضلة التلقي، معضلة ذوق بالأساس. وهو ما يعني أن الطريق لم يُقطع كله في سبيل ترسيخ القيم الحضرية التي هي وحدها كفيلة بتثمين وترقية الثقافة، وتحول نتاجها إلى سلعة لها سوقها الرائجة.

 

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com