العربية لم تكن يوما سببا في الانحطاط العام أو التراجع الحضاري
احتفلت نهاية الأسبوع المنصرم(وتحتفل هذه الأيام) البلدان العربية ومعها الجزائر باليوم العالمي للغة «العربية»، الذي يصادف ـ18 من ديسمبر، من كل سنة، هذا اليوم الذي أقرته وأعتمدته هيئة اليونسكو، حيث أعلنت في العام 2012 عن تاريخ للإحتفال باليوم العالمي للغة العربية واختارت من الأيام الثامن عشر من شهر ديسمبر. وهذا تقديرا وتثمينا للغة العربية، ولمكانتها بين اللغات في العالم.إذ تعتبر إحدى أكثر اللغات انتشاراً في العالم، وهي من اللغات السبع المستخدمة على شبكة الإنترنت وتأتي بعدها اللغة الفرنسية والروسية. وهي أيضا واحدة من بين اللغات الرسمية ولغات العمل في هيئة الأمم المتحددة.
وفي الجزائر يوجد المجلس الأعلى للغة العربية والذي تتمحور وتتلخص مهامه في ترقية اللغة العربية والنهوض بها والعمل على ازدهارها.وبهذه المناسبة التي تحتفي باللغة وبشجرتها المباركة، تتوالد الأسئلة عن حال وأحوال اللغة العربية في الجزائر، وكيف يمكن لهذه اللغة أن تتبوأ المكانة اللائقة بها، وكيف يمكن لها أن تتطور، وما الذي تحتاجه من الناطقين بها من أهل سلالتها من أجداد وآباء وأحفاد؟.
وبمناسبة إحياء اليوم العالمي للغة العربية، يتحدث بعض الكُتاب والنقادفي ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، عن هذه «اللغة» وعن أوضاعها وأحوالها.
المواثيق الجزائرية تؤكد على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية. لكن الواقع مختلف تماماً. إذ نشهد منذ مدة تراجعاً واضحاً عن استعمال العربية في الخطاب الرسمي، حيث أصبح معظم المسؤولين يتبجَّحون بمعرفتهم الفرنسية عند مخاطبة المواطنين في سائر المناسبات. ومن العقبات ما يعود إلى طبيعة اللغة ذاتها. فارتباطها بالدين يجعل كثيرين ينظرون إليها بعين التقديس ويُحْجمون عن التفكير في ضرورة تطويرها، علماً بأن البلدان المتقدمة قد ابتكرت أساليب تُمكِّن المرء من تعلُّم اللغة في مدة وجيزة. يضاف إلى ذلك ما تتميز به العربية من تعقيد في قواعدها ما جعل الدعوات إلى تيسير النحو تتوالى عبر العصور. ومن الواضح أن حركات الإعراب أو ما يُسمَّى بالشكل آفة لا مجال لإنكارها. بحيث إن المتعلِّم يلزمه أن يفهم أولا، لعلَّه يتقن القراءة، بينما في لغات أخرى تكون القراءة فيها مجرد وسيلة للفهم.وليس خافياً اليوم أن نسبة كبيرة من حاملي الشهادات العليا يصعب عليهم أن يقرأوا نصّاً قراءة صحيحة، إذا لم يكن مضبوطاً بحركات الإعراب،كما يعجز أكبر الكُتَّاب عن تسمية أصناف النباتات أو قطع الغيار. لم تُثمرحملة التعريب التي عرفتها البلاد في القرن الماضي، بسبب أنها كانت تتحرك بنزعة عاطفية ارتجالية انحرفت نحو معاداة اللغة الفرنسية،عوض أن تخضع لتخطيط علمي دقيق. وتخلَّفت الهيئات اللغوية في البلدان العربية عن مواكبة المستجدَّات،ناهيك عما تعانيه من اضطراب وفوضى في الترجمة. ثم إن الإصلاحات المتتالية التي عرفتها المنظومة التربوية بدءاً من التعليم الأساسي إلى التدريس بواسطة الأهداف ثم بالكفاءات، بقيت في حدود الشعارات ولم تأخذ امتدادها اللازم في التطبيق، لأنها تجارب أُلصقت بالعملية التعليمية من غير تقييم مسبق(évaluation). والمعروف أن البلدان التي أبدعت هذه الطرائق البيداغوجية لم تكن تنتقل إلى تجربة جديدة إلا في ضوء ما تُسْفر عنه التجربة السابقة. وتركيب منهاج ما، يخضع لثلاث مراحل أساسية هي: جمع المعطيات ووضع المحتويات والتقييم الذي يُعدُّ أهم مرحلة تتوقف عليها المراجعة والتعديل. ويوكَلُ ذلك إلى مختصِّين. لا كما تتمُّ عندنا بأنْ يُدعى إلى إنجاز مثل هذا العمل المصيري جمهور واسع بدافع شعبوي.وما زاد من خطورة الوضع اليوم، أننا نشهد مُتخرِّجين من الجامعة يباشرون مهنة التعليم من دون تكوين بيداغوجي.
زيادة على أن تدنِّي المستوى بلغ درجة مخيفة ويتضاعف هذا التردِّي أكثر فأكثر بعدما شُرع في تطبيق نظام (L.M.D)في الجامعة حيث تُوزَّع الشهادات كما هي حال (A.N.S.E.J). فلا مخرج من هذه الرداءة القاتلة إلابتخليص المنظومة في جميع أطوارها من السياسة الشعبوية، لتبقى خالصة للعلم والمعرفة، والعودة إلى نظام «دور المعلمين» حيث يقترن التكوين النظري بالتربُّصات الميدانية ويُجدِّد المُكَوِّنون معارفهم بالرَّسْكلة الدورية مع الحرص على تيْسير القواعد واستغلال ما يتناثر في العامية من فصيح وتطوير طريقة التدريس.
يبدو لي أنَّ تخصيصَ يوم عالميّ للغة العربية ضمن احتفاليات اليونيسكو السنوية يُشيرُ، بحدِّ ذاته، إلى أهمية خاصة ما زالت تمثلها هذه اللغة البهية التي تُعتبرُ من أقدم لغات العالم الحية إلى اليوم. أقول هذا طبعا وأنا أدرك، جيِّدًا، درجة التحفظ التي يجبُ أن يتحلى بها المُتحدِّثُ عن وضع العربية ومكانتها بين اللغات الأكثر سيادة وهيمنة على الفضاء المعرفيِّ والرمزي في نظام الثقافة الحديثة. فليس للعربية اليوم حضورٌ متميز أو لافتٌ ثقافيا وإبداعيا على مسرح الثقافة في العالم. وأعتقدُ أنَّ الاستثناءات التي تلمعُ كمذنبات فريدة في ليلنا الطويل تؤكد القاعدة ولا تنفيها. ولا داعي للحديث، هنا، عن مجال المعرفة العلمية والكشوف التي تصنعُ وجهَ العالم وتفتحهُ على آفاق لا قِبل له بها. العربية ضيَّعت مواعيدها مع التاريخ. هذه حقيقة. لقد تصلبت شرايينُ لغتنا الجميلة منذ قرون وهذا مع بداية انسحاب العقل الفلسفي/ العلمي من المشهد لصالح سيادة العقل الفقهي/ السكولاستيكي الذي كان مُؤشرًا على طلاقنا مع التاريخ وتحول عالمنا العربيّ إلى مومياء تفتقدُ النبض الحي. والمُشكلة أنَّ هذا الوضع ما زال يبسط ظلاله الثقيلة على وجودنا وما زلنا ندفعُ ثمنه الفادح تخلفا وتشرنقا وتبعية. أقول هذا، أيضا، وأنا لستُ من الذين يطيبُ لهم أن يتحدَّثوا عن «تخلف اللغة العربية» بإطلاق، أوعن وضعها الذي يُشبه «وضع اللغة اللاتينيَّة» كما يحب أن يُعبِّرَ بعض الجزائريين من الذين غمرتهم نشوة الظفر بـ «غنائم الحرب» اللغوية بعد الحقبة الكولونيالية الطويلة. لماذا؟ لأنَّ اللغة العربية لم تكن يوما سببا في الانحطاط العام أو التراجع الحضاري وإنما هي التي تحمَّلت، بكل أسفٍ، وزرَ تراجع العقل العربي/ الإسلاميّ عن مغامراته الأولى المُدهشة لأسبابٍ موضوعية كثيرة لا يتسعُ المجال لذكرها هنا. هذا ما جعلها ترتبط بالتقليد الذي أصبح سِمة عامة على الثقافة العربية والمُجتمع العربيّ وهو ينكفئ على نفسه في نوم شتويّ وزمن ثقافيٍّ راكد. وربما نجدُ، هنا، ما يُفسِّرُ كيف أنَّ هذه اللغة البهية لم تستطع الصمودَ إلا بفعل ارتباطها بالمقدس الدينيِّ وتعاليها عن «السقوط» في العالم الذي أصبح يُصنعُ بيد الآخر منذ فجر العصور الحديثة.من هنا غربتها.وكونُها لغة مُستمرة بقوة الارتباط بالمُقدَّس والثقل السوسيولوجي لعالم يشكل بؤرة المصالح الغربية لا يجعل منها أبدًا لغة حيَّة بالضرورة وإن كان يُتيحُ لها أن تنتفضَ أحيانا باعتبارها ملاذا أو وجها من أوجه هويةٍ يعتصمُ بها من تحولت الثقافة عندهم إلى نشيد آخر للبجعة.
أما عن وضع العربية في بلادنا ألاحظ أننا رغم اعتمادها لغة وطنية ورسميَّة منذ الاستقلال فإننا لم نفلح بصورة واضحة في جعلها لغة تواكبُ العصرَ من خلال منظومة تربوية تقطعُ مع المُقدَّس من جهة، وتنفتحُ على الحياة وعالم الإبداع الإنسانيِّ عربيا وكونيا من جهة أخرى. هذا يعني أننا لم نستطع، في الغالب الأعم، أن نُنتجَ نُخبًا مُعرَّبة تنسلخُ من المخيال الألفيِّ الذي يُصور العربية لغة مُتعالية على الحياة وعالم الصيرورة والإبداع والأنسنة. لم نخرج من تلك الدَّائرة الجهنمية التي ظلت تربط العربية بالقدامة والتقليد والموروث الكاشف عن عقلية فقهية لم تعرف توثب العقل والجسد والروح إفصاحا عن الإنسان والكينونة. وفي كلمة: لم تنتصر «الدنيوة» على «الديننة» في منظومتنا التربوية المتواطئة مع التراجع الثقافيِّ وانتصار الأصولية باعتبارها هوية الخائب في عالم تحكمه إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة. لقد ظلت قراراتُ التعريب دائما ذات صبغة إيديولوجية مُتسرِّعة لم تتخلص من رغبة القفز على واقع سوسيو- سياسي وثقافي بالغ التعقيد يتميز بخصوصية التعدّد إثنيا ولغويا. من هنا ارتباط التعريب بإيديولوجية قومية أصولية المنحى ظلت تفتقرُ، عمقيا، إلى البُعد الحداثي وموضوعية النظر إلى خصوصية الحالة الجزائرية. كما نستطيعُ أن نلاحظ أنَّ الهيئات الرَّسمية التي أوكلت لها مهمَّة «الدفاع» عن اللغة العربية و»الحفاظ» عليها لم تستطع تقديمَ الشيء الكثير لأنها لم تكن أكاديميات علمية بالمعنى الدقيق أولا، ولم يدرك المُشرفون على مشروعها، ثانيا، أنَّ اللغة لا تستمر ولا تنتعشُ من خلال الدفاع الأزليِّ المحمُوم عنها بقدر ما يحصِّنها ارتباطها بواقع العلم والمعرفة من خلال الاندماج في حركية الإبداع الكونيِّ ترجمة وإسهاما.
ليس ثمة من شك في أن يوما كهذا، حتى وإن بدا مبادرة من هيئة دولية، جدير بأن يذكّر أهل اللغة ومستعمليها بأهميّة وضعيتها، وبمستوى ما وصلت إليه بالنظر إلى تغيّر الآفاق المعرفية التي ارتبطت بمحاولات الدفاع عنها وتدعيمها والانتصار لها، نظرا لتغيّر المعطى الحضاري ودخول عوامل جديدة فاعلة تجب الكثير من المقولات السابقة بخصوص الاعتناء بها، أو الانتصار لها، أو الدفاع عنها. إنّنا نعيش اليوم عصر إمكانيّة الانتشار السريع للغة، أيّ لغة، عن طريق ما توفره التكنولوجيا من وسائل كفيلة بنزع الكثير من المهام الثقيلة التي كانت معلقة في رقاب أبنائها وهم يسعون إلى استعمال وسائل تقليدية في تثبيت مكانتها. وهذه الإمكانية مرتبطة بمدى وعيهم باستغلال الرؤى والأطروحات المعاصرة في عالم لا يعبأ بمن تأخر عن الحضور في باحة العالم، أو تقاعس عن توفير شرط الحضور، أو رفضه رفضا نهائيا لأسباب يرى أنها لا تتلاءم مع منظوراته الفكرية أو الإيديولوجية.يبقى أنه، وفي ظل هذا الوضع، وجب على أبناء هذه اللغة الاعتناء بما لا تستطيع الوسائل التكنولوجية القيام به من خلال تجاوز الحديث عن الانتشار اللغوي للمرور إلى استخدام فاعلية هذه الوسائل لتأكيد نوعية الانتشار داخل حراك متسارع ومتصارع في العالم التكنولوجي، وفي العالم الإفتراضي الذي حوّل مقولة «العالم أصبح قرية صغيرة» إلى واقع ملموس بحيث لا يمكن للغة أن تجد مكانتها ضمن المنظومة اللغوية العالمية إلا من خلال الصورة التي يعطيها عنها مستعملُوها، ومستوى الإستعمال الذي بإمكانهم أن يقدموا لها من خلاله ما هو مطلوب منهم، لتحقيق ما تحتاجه لغتهم في توسيع مكانتها داخل منظومات التحرك والانتشار اللغوية الجديدة. ولعل هذا هو نوع الدور الذي من المفروض أن يلعبه المتحدّثون بهذه اللغة في تأكيد مكانتها داخل هذا العالم المتحرك والمتغيّر والحساس الذي لا يعبأ بالمقولات النظرية الجاهزة، ولا بإشكالات الصراع التقليدية التي سادت بوجه معيّن طيلة القرن العشرين وسيطرت على الدرس اللغوي والأطروحات الألسنية، كالهوية اللغوية والتعددية والإزدواجية. وهي إشكالات مرتبطة أصلا بما طرحه القرن الماضي من أفكار ما بعد كولونيالية، لم تحقّق، في حالة الجزائر، الأهداف المرجوّة منها من خلال النضالات الطويلة التي خاضها جيل كامل من أجل التعريب، نظرا لتصارع الأطروحات والأطروحات المضادة داخل المجال الإيديولوجي للدولة الوطنية وما انجرّ عنه من تأزم في الرؤى انعكست على فاعلية الدرس اللغوي على المستوى التطبيقي ممّا أدى إلى تنشئة أجيال من الجزائريين بمستوى أضعف من المتوسط في المستويات التعليمية الأساسية.
لقد تغيّرت إشكاليات الصراع اللغوي وطرائق طرحها، مثلما تغيّرت مناهجه وإحداثياته. وما كان يشكّل مشروعا كاملا يسعى إلى تحقيق هدف معيّن كتعريب مستوى من مستويات الإدارة مثلا أصبح لا يحتاج إلا إلى برنامج حاسوبي ونقرة زرّ من أجل تحقيقه. غير أن هذا بإمكانه أن يخفي حالة التقاعس التي يبديها من يستعملون اللغة العربية في تحقيق هذا المنحى الذي تقدمه التكنولوجيا، ممّا يعطي صورة معاكسة للطموحات التي كانت حلما في وقت ما، وأصبحت رهينة اللامبالاة التي تصاحب السير الحثيث للغة العربية باتجاه المستقبل.
ما ينبغي أن نلفت نظر القارئ إليه، هو أننا لا نفكر إلا بلغة، ولا نتواصل أيضا إلا بلغة، وأفضل ما إخترعه الإنسان، هو الكتابة، عندما حول الكلمات إلى رموز، أي نقلها من المنطوق إلى المكتوب، وهذا تطلب منه قرونا طويلة، اختراع اللغة وكتابتها ليس بالأمر الهين، ونستطيع أن نقول اليوم أن اللغة هي الإنسان، تسكنه ويسكنها، وتهيمن على عقله ووجدانه مما يسمح لنا بالقول: إن اللغة تصنع عبيدها، الذين ينظرون إليها نظرة تقديس، وهي نظرة تشترك فيها كل اللغات، فكل الأقوام تعتز بلغتها، وتنظر إليها على أنها المعبر عن وجدان الأمة.
اللغة العربية في الجزائر تتعرض إلى هجوم عنيف، وردة مفضوحة، ومع هذا نستطيع أن نقول بأن اللغة العربية في الجزائر بخير، نظرا لقرائها من خلال الجرائد اليومية، مقارنة للجرائد الفرنسية، ونظرا أيضا لكُتابها الشباب الذين يكتبون الشعر والرواية والمسرح، ويعشقون العربية، كما يعشقون أيضا اللغات الأخرى، والبعض يكتب بها أيضا رواية وشعرا، والمثقف باللغة العربية اليوم، يفتح الأبواب والنوافذ على اللغات الحية بدون عقدة نقص، وينظر إلى العربية على أنها لغة إبداع بامتياز.
كما يرى شباب اليوم، الذين يكتبون باللغة العربية، أنها لا تتطور، إلا إذا كانت لغة المدرسة والإدارة والشارع، لأن اللغة التي لا تستعمل في الحياة اليومية، تنكمش على نفسها الموت، وهذا ما حدث لكثير من اللغات التي أصبحت في خبر كان، وهنا لا بد أن نشير، إلى أن كل اللغات التي عاصرت اللغة العربية، قد اندثرت أو تفرعت عنها لغات أخرى غير أن اللغة العربية ما زلت حية، وهي تتحرك في اتجاه المستقبل، وهي تتأقلم مع مستجدات العصر. إن اللغة لا تتطور إلا بمبدعيها الذين ينحتون الكلمات، من خلال النصوص التي هي شاهد إثبات على الحاضر أمام المستقبل، على حد تعبير قدامة بن جعفر.
يراودني دائما شعور بالامتلاء حينما أقف أمام اللغة العربية وهي تتجلى في أبهى صورها التعبيرية في القرآن الكريم ألفاظا وآيات، وفي الحديث النبوي الشريف حكمة وإرشادات، وفي أقاويل العرب شعرا ونثريات، فأجدها وكأنها أحاطت بالأفكار إحاطة السوار بالمعصم. فأسأل نفسي عن ماضيها ومصدرها، عن الروافد اللغوية التي صبت رحيقها في حوضها. وأنها كسائر اللغات تطورت شيئا فشيئا لتبلغ هذا المدى من الجودة والإتقان، وهذا الفضاء من الاتساع والاشتمال. فأقف في حيرة وأنا أنظر إليها في صورها وظلالها، في أصواتها وتعابيرها، فأكتشف تدريجيا أن ما أقف عليه ليس من قبيل التطور المزعوم، الذي يجمع إلى عامل الزمن عامل الانتقاء، لأنني كغيري أفهم التطور ضربا من التقدم نحو الأفضل دوما. بيد أن التطور لا يحمل هذه الصفة الإيجابية دائما، فقد يكون السير نحو الأسوأ تطورا في عرف من يجد التطور تحولا من حال إلى آخر، مهما كان نوع التطور سلبا أو إيجابا.
هناك شيء في العربية يرفض هذا الفهم، حتى الشعر العربي بدأناه بطفرة، فوجدنا أنفسنا أمام قصيدة استوفت جميع شروط الشعر الجيد، واللغة الصافية والعبارة الفصيحة، ووجدنا وزنا وإيقاعا، ووجدنا قافية وأغراضا، وحينما سألنا عن الماقبل، قيل لنا أنه كانت هناك محاولات أولية بسيطة لم تحفل الذاكرة العربية بها، وتناستها لكي تخلي صفحتها للجيد من القول، والبارع من الشعر، كما راح البعض ينظر إلى تركيب كلماتها من ثنائي، وثلاثي، ورباعي، على أنها مراحل في بناء الكلمات وتشكيل الحصيلة اللغوية. غير أن النظر المدقق لهذه المسألة يكتشف سريعا أنه أمام نظام أوجد القوالب الصرفية دفعة واحدة، لأنه حين سمى الأشياء بمسمياتها لم يخطر بباله نظامها الصرفي، بقدر ما خطرت الوظيفة التي يتولاها الشيء المسمى. وحينما رسمت اللغة العربية في القرآن الكريم، وهو معجمها التركيبي الأول، رسمت في هيئات وأشكال وأحوال لم يعرف التقعيد اللغوي اللاحق حقيقتها، ولا حاول النسج على منوالها، بل تركها لناسخي المصاحف يتوارثونها جيلا عن جيل وقد أفردوا لها المتون والمصنفات، وحققوا فيها الإجازات. واليوم نكتشف من خلال تشغيل «البصري» واستثمار الشكل، بعدا آخر ما كان لنا تصوره من قبل، وما كان لنا أن ندرك أثره في الدلالة، وكأن الكلمة لا تكتفي بمعناها المعجمي وظلالها التي تنشأ عن سياقها الاستعمالي، بل تضيف إليه بعدا من شكلها الكتابي ما يفتح في بصر المتلقي مسارب أخرى للمعنى والتأويل، وأمام الأمثلة المتكررة المثبتة للقضية، نسأل أنفسنا أخيرا: هل كان راسموا المصحف الأوائل يدركون حقيقة هذا البعد في الرسم؟ أم أن وراء الأمر توفيق من الله عز وجل؟ وأن الخط توقيف منه كذلك؟
حينها، ألتفت إلى أن لفظ «العرب» لغة، لايراد به «الجنس» فننسب إليه كما هو مستعمل اليوم «العربي» لنحدد انتماء بشريا معينا له حضوره في المكان والزمان. بل تنصرف كلمة «العرب» إلى صفة الكمال في كل أمر تمّ فيه التناسق بين شكله ومضمونه، فيصير الحاصل أن الأمر «عربي» ولذلك قال تعالى في محكم كتابه واصفا حور الجنة: «{عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37]» ولا تحملنا كلمة «عُرُبًا» على أن نفهم منها أنهن «عربيات» بمعنى الجنسية، وإنما «العروبة» فيهن هي تمام الجمال والخلقة والخلق. وكذلك حين قال عز وجل عن القرآن الكريم: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28] فإن كلمة «غَيْرَ ذِي عِوَجٍ» تشير إلى التمام والكمال في لفظة «قُرْآنًا عَرَبِيًّا « فـ»العربية» التي يريدها القرآن الكريم لا تلتصق بالجنس ولا تشير إليه، وإنما تشير إلى كمال كتاب الله كمالا: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. واللغة العربية إنما تسمّت بهذا الصفة «العربية» لكمال فيها بَلَغَته من خلال تصفية أصواتها، وألفاظها، وتراكيبها، فبلغت به منزلة «العروبة».