تربينا في المشرق على كلاسيكيات الرواية الجزائرية
• الرواية هي محاولتي ضد الجنون ومن الترجمة تعلمت معنى الشعر
في هذا الحوار، يتحدث الروائي والشاعر والمترجم العراقي برهان شاوي، عن الرواية، والشعر والترجمة، وعن العراق والمحنة العراقية، وعن علاقته بالرواية الجزائرية، التي يقول أنها قديمة وتدخل في مرحلة تشكيل بداياته الأدبية. كما يتحدث عن الكتابة الإبداعية عموما والتي يرى أنها محاولة للتطهير النفسي والذهني.
حاورته: نوّارة لحــرش
رواياتك تستحضر الخراب العراقي، في محاولة لمساءلته والإضاءة حوله، كأنها روايات ذاكرة، أو من أجل ألا تنسى الذاكرة، يعني يمكن القول أنها روايات ذاكرة تاريخ العراق: تاريخ الخراب والوجع والضياع؟
برهان شاوي: هذا يمكن الموافقة عليه نسبياً من خلال علاقة الرواية بالتاريخ فقط. صحيح أنني أحاول اقتناص اللحظة التاريخية، ورصد الخراب العراقي منذ عقود، لكن ذلك ليس هدف أعمالي، ولا نيتي أو قصديّتي في الكتابة الروائية، بمعنى أنا لا أتوجه قصدياً لكتابة رواية عن العراق والخراب العراقي، إذ يمكن الحديث عن ذلك عبر المقال أو البحث السياسي والتاريخي، وليس عبر الرواية. أنا أستحضر الخراب العراقي في اللاوعي، لأني أعرفه جيداً وأنا نِتاجه، وبالتالي فرواياتي لا إرادياً تستلهم الذاكرة، والوجع العراقي، وأنين الضحايا، واختناقات الأحياء في المقابر الجماعية حتى الموت المرعب، وضحايا الحرب الطائفية البشعة التي كشفت عن انحطاط أخلاقي تاريخي يمتد لقرون من الزمان/ منذ سقيفة بني ساعدة وإلى اليوم. لكن مرة أخرى أؤكد بأنه لم تكن هناك قصدية في أن تكون الرواية تاريخاً، لأنني بالأساس أكتب الرواية، ولو كنتُ أريد أن أرصد التاريخ وأكتب عنه لألّفت كتابًا في تاريخ العراق خلال العقود التي تتحدث عنها رواياتي، الرواية هي محاولتي ضد الجنون، الرواية، والكتابة الإبداعية عموما هي محاولة للتطهير النفسي والذهني عند أي كاتب حتى لو لم يعي ذلك.
هذا التاريخ المعتم والمؤلم تجسد في سداسية «المتاهة»: (متاهة آدم، متاهة حواء، متاهة قابيل، متاهة الأشباح، متاهة إبليس، متاهة الأرواح المنسية). كأن هذه المتاهات المفتوحة على دراماتيكيات وتراجيديات سوداء، هي قدر العراقي والعراق؟، متاهات في الواقع ومتاهات في السرد والرواية؟
برهان شاوي: المتاهات ليست سداسية، هي مشروع روائي يُفترض أن يكون تسع روايات، تماهيًا مع «الجحيم» لدانتي أليغيري ذات الطبقات التسع. لكن صدرت منها إلى الآن ست روايات، وأنا مشغول حالياً بكتابة المتاهة السابعة «متاهة العميان»..!، أمّا من الناحية السردية فهي متاهات في الأسماء وفي الشخصيات، حيث تتناسل الروايات، والأوادم والحواءات. رواية تلد أخرى، لكن المتاهات ليست معنية بالعراق إلا من باب تأثيثها الدرامي، إذ هي مفتوحة على أسئلة الوجود وأعماق النفس البشرية وإشكاليات المقدس، والبحث عن أساليب القول والسرد الجديد، والميتا سرد، ناهيك عن تنوع الجغرافيا، فالأحداث تجري في بغداد ودمشق وفلورنسا وباريس وبرلين وميونخ، وإيسن، ودوسلدورف ولندن وجزيرة إسكيا الإيطالية، وستتوجه إلى المغرب في المتاهة الجديدة.
في رواياتك تستحضر أبطال روايات سابقة، مثلما حدث في «متاهة إبليس» حيث استحضرت أبطال رواية «متاهة قابيل»، لماذا استحضار أبطال سبق وأن أدوا أدوارهم وسردوا جراحاتهم وتاريخهم المؤلم، أم أنك لا تريد أن تدمي شخصيات أخرى في روايات جديدة وتكتفي بنفس الشخصيات لمواصلة سرد ومعايشة ومحاكاة ومحاكمة هذا التاريخ/ الواقع العراقي؟
برهان شاوي: المتاهات هي رواية واحدة تتداخل وتتناسل، لكنها طبقات ودوائر، فالروايات الأربع الأولى: «متاهة آدم»، «متاهة حواء»، «متاهة قابيل»، «متاهة الأشباح»، تشكل دائرة سردية واحدة، بمعنى أن الأبطال الذين تعرفنا عليهم في الرواية الأم «متاهة آدم» سيستمرون في ثلاث روايات لاحقة، وينتهون جميعهم تقريبا في «متاهة الأشباح» التي تُغلق عليهم الدائرة. وابتداءً من «متاهة إبليس» يواصل أبطال آخرون ظهروا في «متاهة قابيل» ليواصلوا الحكاية والرحلة في دروب المتاهة، وهما (حواء ذو النورين) و(حواء الكرخي) حيث سنجدهما في بقية المتاهات اللاحقة (متاهة إبليس، ومتاهة الأرواح المنسية)، ويواصلون الآن أيضاً في الرواية التي أعتكف عليها الآن وأقصد «متاهة العميان»، التي ربّما ستغلق الدائرة عليهم أيضاً لأواصل مع أبطال آخرين. لكن علينا الانتباه، فكل رواية هي مستقلة بذاتها، يمكن قراءتها منفردة، لكن المتعة الجمالية تتحقق بشكل أكبر إذا ما قُرأت المتاهات بشكل مسلسل، كما يُفترض الانتباه إلى أن في كل رواية هناك حياة واقعية، وأخرى افتراضية مستمدة من مخطوطات الكاتب الأول الذي تم اغتياله في نهاية رواية «متاهة آدم» وأقصد به «آدم البغدادي»..!.
رواياتك تتناول أيضا التحولات المتواترة في شخصية الفرد العراقي، تحولات قلقة وبنفسيات متوترة ومتأزمة. كروائي خَبِر شخصيات رواياته وكشاعر لديه من الرهافة ما يكفي للغوص في نفسية شخصيات ورقية وواقعية، كيف ترى بعد كل هذه السنوات من الأزمة العراقية، شخصية الفرد العراقي داخل العراق، مقارنة مع شخصيته خارج العراق، وهل شخصية ونفسية العراقي في الخارج تقريبا هي ذاتها شخصية ونفسية العراقي في الداخل؟
برهان شاوي: هذا سؤال صعب، بل وصعب جداً، فشخصية أي فرد ينتمي لشعب معين أو مجموعة قومية واثنية معينة في بلد ما لا يمكن تشخصيها بسهولة إلا من خلال قراءة تاريخ ذلك المكان الجغرافي وما مر عليه من تحولات تاريخية واجتماعية وسياسية. وشخصية الفرد العراقي لها علاقة بكل التاريخ الحضاري الذي عرفته بلاد الرافدين من حضارات وانتكاسات. فالعراق تعرض للاحتلال على مر تاريخه، وعرف حضارات عنيفة تلغي إحداها الأخرى، ناهيك عن أن حضارة وادي الرافدين حضارة طينية، وليست حجرية أو صخرية كحضارة وادي النيل، كل هذا ترسب وتكلس في اللاوعي الجمعي للمجتمع العراقي، واللاوعي الجمعي للشخصية العراقية، لذلك ليس من السهل أن أضع قوالب وتشخيصات مسبقة للشخصية الروائية، وإنما أن أكتبها باعتباري نِتاجها. لكني، من جانب آخر، أتوقف عند الخطوط العامة المشتركة للنفس البشرية العامة في الوضع البشري المحدد، وبالتأكيد أنا نظر لتحولات الشخصية الروائية في محيطها، وبالنسبة للشخصية العراقية فأنا أعرف أن االحروب، والقمع السياسي للحزب الواحد، والحصار الدولي، شوه المجتمع العراقي وحطم منظومته القيمية، وهدم سقفه العالي في كل شيء ودمر آفاقه، وبالتالي شوه الشخصية العراقية. ثم جاء الاحتلال الأميركي، وتبعه احتلال دول الجوار المستمر، ليدمّر ما تبقى، فأسس لنظام طائفي مقيت أدخل العراق في نفق مظلم. وعودة إلى السؤال عن الشخصية العراقية في الداخل والخارج، فيكفي أن نقول بأنه في زمن صدام لم يكن هناك سوى ثلاث محطات تلفزيونية حكومية ولم يكن هناك انترنيت ولا ستالايت لاستقبال القنوات الفضائية..، بل من كان يُتابع القنوات التلفزيونية عبر الصحن المستقبل للقنوات سراً يُعدم، اليوم في العراق أكثر من أربعين قناة تلفزيونية، وهناك ثلاث شركات للموبايل، وأكثر من 600 صحيفة ومجلة. لذلك يجب رصد هذه التحولات وتأثيرها على الشخصية العراقية في الداخل، كما يمكن القول إنه تأسس جيل من المثقفين في الخارج هاجروا في نهاية السبعينات وفي بداية التسعينات إلى شتى بلدان العالم، وعاشوا في مجتمعات حرة، تعلموا اللغات الجديدة وتواصل الكثير منهم مع المجتمعات التي عاشوا فيها، وبالتأكيد أثر هذا على تلك الشخصيات العراقية التي مرت بهذه التجارب، وبالتأكيد حينما أجسد الشخصية العراقية في الداخل والخارج أجد نفسي داخل هذا الإلتباس.
«آدم البغدادي»، كأن هناك رمزية ما في هذا الاختيار المتواصل لهذا السارد الرمزيّ أو المعنويّ الذي يتكرّر في أكثر من رواية من روايات المتاهة؟
برهان شاوي: «آدم البغدادي» هو السارد الأول في «متاهة آدم»، لكنه يُقتل في نهاية الرواية، بيد أنه يترك مخطوطات عديدة، تشكل الحياة الافتراضية في المتاهات، أما سارد الحياة الواقعية فمختلف، سوف يظهر في المتاهة التاسعة الأخيرة، لكن شبح «آدم البغدادي» يجوب دروب المتاهات مثل شبح الملك في تراجيديا هاملت، ليخبرنا عن عزلة الكائن وضياع الإنسان في متاهة الوجود، من خلال المخطوطات التي تستمد المتاهات عناوينها منها.
بعد سبع مجموعات شعرية، تفرغت للرواية. هل نفهم أن الشعر لم يستوعب وجع الإنسان والوجع العراقي أو المتاهة العراقية كما أرض السرد والرواية؟
برهان شاوي: الحقيقة أنا أعرّف نفسي إنسانيا قبل الجغرافيا والتاريخ والهوية، أنا إنسان قبل أن أكون عراقيا، وبالتالي حين كتبت الشعر لم أكتبه لأني عراقي وإنما لأني إنسان، وكذا الرواية التي جئتها بعد الخمسين من العمر. وشِعري منذ البداية يحتفي بالإنسان بشكله المطلق، وبالمعاناة الإنسانية، لكن انتقالي للرواية بالتأكيد جاء لأن القصيدة لم تعد تتسع للقول، وعلى خلاف مقولة النفري الشهيرة: «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة» وجدت أنه كلما اتسعت الرؤيا اندلقت اللغة وفاض الكلام، فلا يتسع لاتساع الرؤيا سوى الرواية..!.
بالمناسبة، كان الشعر العراقي دائما يتسيد المشهد الأدبي في العراق، الشعر كحالة وحساسية، وكانت الرواية مقارنة بالامتداد الشعري في خارطة الأدب العراقي خجولة وغير حاضرة بقوة، لكن في السنوات الأخيرة، تغير الأمر وأصبحت الرواية العراقية حاضرة بقوة، ليس في العراق فقط ولكن في المشهد الأدبي العربي عموما؟
برهان شاوي: نعم، هذا صحيح جدا، فخلال عقد من الزمان صدرت لدينا أكثر من 400 رواية، وهناك من أحصى 600 رواية..، وبالتأكيد لم تصدر كُتب شعرية إلى ما يشكل الربع من هذا العدد، لكن هذا لا يلغي الشعر أبداً، فالفنون تتكامل ببعضها. وبالمناسبة، هذا الأمر ليس في العراق أو البلاد العربية وحدها، وإنما في العالم كله، هناك انحسار للشعر أمام حضور الرواية في كل آداب العالم.
ترجمتَ إلى العربية الكثير من المجموعات الشعرية لشعراء روس، ماذا تقول عن هذه التجربة؟
برهان شاوي: أنا مترجم هاو، ولا أصنف نفسي كمترجم محترف أبداً، برغم أنني ترجمت أكثر من عشرة كُتب عن الروسية والألمانية، منها لأربع شعراء روس هم: ماندلشتام، برودسكي، آخماتوفا، وفيسوتسكي. كما ترجمت كِتابًا عن لغة الفن التشكيلي، وآخر عن تدريبات الممثل، وأربع كُتب عن علوم الفضاء، وآخر في علم السلالات، لكن كل تجربتي في الترجمة تبقى تجربة شخصية، بمعنى أنا أترجم لشعراء محددين حينما أقرأ قصائدهم أكون منبهرا بشعرهم، وأكون قد تمنيت لو أنني كتبت تلك النصوص، لذلك حينما أعتكف عليها أعيشها، فيجيء النص قريبا من روحي، لقد تعلمت من الترجمة معنى الشعر، وحينما انتهيت من ترجمة برودسكي صمتُ لسنوات، هيبة من الشعر الحقيقي والأصيل، فهذا الشاعر يجعلك تستحي أن تقول إن ما تكتبه شعراً..!، وكذا الأمر مع ماندلشتام وآخماتوفا، وغيرهم.. وكم تمنيت لو لدي الوقت لترجمة تسفيتايفا وبالمنت وتوتجف وبرادينسكي...وغيرهم.
كنتَ ضيفا على فضاء «موعد مع الرواية»، الذي تنظمه وزارة الثقافة الجزائرية، كيف وجدت التجربة، وكيف هي علاقتك بالأدب الجزائري؟
برهان شاوي: قبل كلّ شيء أجد أن دعوتي كأول ضيف عربي أو أجنبي لفضاء «موعد مع الرواية» هو تكريم وحفاوة وتقدير أتمنى أن أكون جديرا به، وأعتقد أن «موعد مع الرواية» سيكون مختبراً نقديا تداوليا سيساهم في الارتقاء بالرواية الجزائرية ويضعها أمام الأسئلة الجريئة، وأمام استحقاقاتها الأدبية، لاسيما وأن الملتقى يستمر ثلاثة أسابيع في الشهر للكُتاب الجزائريين، مما سيتيح تناول الكثير من الموضوعات المهمة في التجربة الروائية الجزائرية. أما عن علاقتي بالرواية الجزائرية، فهي علاقة قديمة تدخل في مرحلة تشكيل بدايتي الأدبية حتى قبل أن أتوجه للرواية، فقد تربينا في المشرق العربي على كلاسيكيات الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية مثل روايات الطاهر وطار لاسيما «اللاز» و»عرس بغل» وغيرها من الأعمال، وكذلك أعمال رشيد بوجدرة، ومولود فرعون، وكذا أعمال محمد ديب، لاسيما ثلاثيته التي ترجمها سامي الدروبي عن الفرنسية، وكذلك كاتب ياسين و»نجمته» المضيئة دوماً، وقد تعمقت علاقتي بالرواية الجزائرية الجديدة وبأسماء كُتابها الجُدد بحساسيتهم الروائية الجديدة وموضوعاتهم التي تجاوزت الهم السياسي والاجتماعي التقليدي للرواية الجزائرية الكلاسيكية، وتوغلت في أعماق الذات، راصدة التحولات الجديدة في المجتمع الجزائري، ولا أريد هنا أن أعدد الأسماء كي لا أثير التباسا، فبعض الكُتاب الروائيين في الرواية الجزائرية القديمة والجديدة أصدقاء لي.. وطبعا لا أدعي أنني متابع مثالي لكل النصوص السردية الروائية الجزائرية، إذ أنني قرأت لبعض الكُتاب والكاتبات، وتابعت عروض وأخبار إصدارات روائية لآخرين لم أتمكن من قراءتها، عموما، وبدون أية مجاملة، أجد أن الرواية الجزائرية تحتل مكانة مرموقة في المشهد الروائي العربي، وتستحق الإعجاب، والملتقى سيساعد على دفعها إلى الواجهة أكثر.