ياسين سليماني
أي دور سوسيولوجي يمكن أن يشارك فيه المسرح في أفق هذا القرن ومع هذه التحولات التقنية الهائلة؟ هل يمكن الركون إلى بعض الأصوات التي تخرج من حين لآخر لتزعم بأنّ المسرح قد ضيع فرصه التاريخية في الظهور المجتمعي في مقابل فنون أخرى أبرزها السينما وأنّ مراسم دفنه قد أزفت؟ يمكننا بشيء من الدعابة أن نستأنس بالمثل المكسيكي القديم الذي يصلح جيدا ليكون لسان حال المؤمنين الطيبين بدور المسرح: «يحاولون أن يدفنونا، لم يعلموا أننا بذور» للتأكيد على الانبعاث الدائم للمسرح مهما كانت الرهانات التي تصعّب دوره وتحجّم فعاليته.
إنّ رولان بارت يرى بأنّ المسرح «نوع من الآلة السيبرنية، تختبئ وقت الاستراحة، خلف الستارة، وما إن ترتفع هذه الأخيرة حتى تبدأ هذه الآلة ببث الرسائل إليك، ولهذه الرسائل خصوصية التزامن رغم اختلاف إيقاعها». التزامن إذاً أقرب ما يمنع المسرح من الموات. فالعمل الفني في العرض يبقى طازجا أمام متلقيه، يشهد إبداعَه الخلاّق في اللحظة نفسها، قد لا يرتقي إليها حتى بعض البرامج «المباشرة» التي بانتباهة صغيرة تكشف أنها غير مباشرة، وأنّ الفاصل الحقيقي بين لحظة بثها ولحظة تلقيها قد يمتد لفترة من الوقت. في المسرح، الأمر آني، مُحيّن. وفي هذا الآني كما يقول بارت نجد توليفة من الرسائل. لكن ما هي الرسائل والتضمينات التي يرسلها المسرح؟ الإجابة تطول. فكل عرض يخلق ماهيته، قضيته التي يدافع عنها بفنياته المتنوعة ويقدم نفسه تحت ما يسميه باتريس بافيس بـ»التجربة الجمالية للمشاهد».
1 مرآة الساحر
لنسائل عرضين مسرحيين شاهدناهما خلال الفترة الماضية. الأول: «مرآة الساحر» والثاني «سأطير يوما ما». في العرض الأول لم يبتعد رشيد شبلي مؤلفا كعادته، أو مخرجا في هذه المرة عن توليفته المفضلة. القطط والأرانب والغابة. أعماله المختلفة، في «مرآة الساحر» يصادر شبلي كل منجزه السابق، ويضحي بثلاثين سنة من التجارب التي نجح في عدد منها بلا شك، ويقدم عملا باهتا لا يليق إلاّ بالهواة. ابتداء من النص البسيط، إلى التمثيل الهزيل لغالبية الممثلين عدا الممثل الذي قام بدور الجندي. ما زال المؤلف يحاول استدراج الأطفال إلى الضحك عبر الحركات التي تقارب الابتذال، الألوان الفاقعة في الديكور، أجزاء هامة من السينوغرافيا، أثقلت العرض دون توظيف واضح لها. الدليل أن جزءا منه أسقطه أحد الممثلين مع نهايات العرض. ولا أعرف لماذا لم يكتف بالنص ويمنح الإخراج لمن يعطيه وقتا وجهدا. السينوغرافيا كانت «بدائية» بلا شك. وأظنّ أنّ واحدة من السقطات الكبيرة لمسرح أم البواقي أن يتم إنتاج هذا العمل بمثل هذه المعايير.
العمل بسيط في فكرته، موضوعه، وبنائه الدرامي، علينا ألا نثق في الغرباء، هكذا يقول هذا العرض لنا نحن الأطفال. لأننا قد نسقط فيما سقط فيه بطل العرض. عندما مسخه الساحر إلى دب صغير. استخدام بعض الجمل من الموروث الشعبي (نني نني يا بيشا، ...) نجحت في استدرار ضحك الأطفال، كان المؤلف المخرج معجبا بالحضور المكثف للأطفال، وسعيد بنجاحه في إضحاكهم، لكن تفكيكا بسيطا لما قدمه لهم يجعل المتلقي يعرف أنه تمّ غش هؤلاء ببضاعة كاسدة. المواد المرئية الهائلة التي يتعاملون معها بشكل يومي، تضع المسرح في رهان حقيقي. رهان وجودي. أن يكون أو لا يكون. من السهل إضحاك الأطفال ببعض التعابير والأصوات والحركات، لكن بالفن الحقيقي: من الصعب. من الصعب جدا. بعض الدردشات مع الأطفال الحاضرين، تكشف عمق الخدعة. لا يتذكر الطفل من العرض إلاّ لحظات الإضحاك الهزيلة التي تكاد تكون في أغلبها مقحمة. وهكذا هي النصوص السطحية التي تُكتب لأغراض عديدة لا يبدو أنّ إنجاز عرض حقيقي من بينها.كان يمكن لهذا العرض أن يفيد من الإمكانات الكبيرة التي يحوز عليها الفضاء الميزانساني لتقديم فعل فني متمكّن بينما اتضح أنّ الأمر لا يعدو أن يكون محاولة هاوية لجمع الأطفال أيا كان ما سيشاهدونه.
إذا كان علم اجتماع المسرح يدرس العلاقة ما بين العرض من جهة والمجتمع الذي تم إنتاجه وتلقيه فيه، فإننا نلحظ في الواقع أنّ الدرس المعرفي الذي يتطرق «إلى فحص موقف الاتصال ذاته، وآليات الإرسال والتلقي في العملية المسرحية يبقى غائبا بشكل واضح. على الرغم من أنّ الانتباه إلى مجال التحليل الاجتماعي للأدب ونظريات التلقي والاتصال وإنتاج الدلالة يؤكد الاعتراف الضمني بأنّ الجمهور أسّ العملية الإبداعية وأساسها. أو ما تسميه نهاد صليحة في كتابها «المسرح بين الفن والحياة» بـ»شرط تواجد الحقيقة والفاعلية المسرحية/الاجتماعية». وفي عرض «مرآة الساحر» الذي تحدث عنه مؤلفه رشيد شبلي قبل عرضه أنه ينتمي إلى «الخيال العلمي» (والواقع أن هناك خلطا عند السيد المؤلف بين الخيال والخيال العلمي) تخفق كل هذه المحاميل الثقافية والدلالات في الظهور وبناء علاقة مثمرة بين العرض وبين المتلقي.
بالنسبة للعرض الثاني «سأطير يوما ما» تأليف يوسف بعلوج وإخراج كمال الرويني وإنتاج مسرح عنابة، نجد النص ذكيا. إنه علامات سوسيوثقافية هامة مع الاحتفاظ بقابلية الطفل لإدراكها. بعيدا عن المباشرة والتلقينية الفجة التي وجدنا مثلها في النموذج الأول. كان الكاتب معجبا بالموسيقى التي أنجزها «زين الدين شرقي»، والحق أنّ ما صنعته المرافقة الموسيقية بالعرض وبالجمهور من «أمامه» لا يمكن إلاّ أن يؤكد على الفهم التام لمعنى التظافر الكلاني بين أدوات العمل الركحي.
الخبرات المفاهيمية التي استطاع الطفل أن يستوعبها تقتضي بلا شك مسحا سوسيولوجيا يتوسم الطرائق المنهجية لبحث أكثر اقترابا من العلمية، لكن والحال أننا في مقاربة نقدية لتعامل الجمهور مع المسرح، تقترب من الثقافي أكثر من المجتمعي بصبغته الصلبة تشير إلى أنّ الطفلَ )أو الأطفال ( قد حصلوا على وجبة دسمة من الفن والجمال والخبرة. إنه عمل يتحدث عن أطفال القمر. واضطرارهم للابتعاد عن ضوء الشمس حتى لا يزيد في أذية أجسادهم. ويتناول الإدراك المغلوط للناس لهذه العلة والقسوة التي تضاعف تهرب المريض من المشاركة المجتمعية. انتباهة الجمهور في العاصمة، لم تكن تشبه انتباهته في مسرح عين البيضاء، الأخير لا يزال محتاجا إلى تقاليد أكثر رسوخا حتى لا يبقى مجرد قاعة للعروض لا مؤسسة ثقافية تصنع الفن وتخلق إنسانا يمكن أن ينتمي إلى مفاهيم الجمال. مع ذلك فقد استطاع العرض أن يمسك بالطفل طيلة الوقت. ومع أنّ الأحاديث مع الأطفال أظهرت تركيزهم على أسماء الشخصيات :»وحش الظلام»، «شموسة»، «عمّي بدر» غير أنّ مفهوم المرض وغوامضه انكشفت عنده واستطاع أن يلتقط منها ما وجب التقاطه. الرسالة هنا وصلت إلى حد هام.
والطفل الذي يخرج وهو يشارك أصحابه أسئلة الفهم والمتعة كالتي رأيناها عند انتهاء العرض يكاد يكون دليلا واضحا أنّ العمل الجاد يصل، على الرغم من المحاذير التي تشوب تلقي الطفل لمثل هذه الأفكار الجديدة بالنسبة له. يُحسب للعمل أنه ارتفع بالطفل إلى مدركات ثقافية وفنية لها قيمتها، ولم يخضع للتسذيج الذي ينطلق من فهم مغلوط لطفل 2016، رهان العمل هنا كان ناجحا لأنه استثمر كل الممكنات الجمالية من سينوغرافيا وظيفية بديعة، إلى تمثيل متكامل رصين، إلى موسيقى مرافقة صنعت حالة فرجوية عريضة جعله يقترب من فضاءات عالية لا تشكل تناقضا حادا بين مرئيات شديدة التعقيد والتركيب في التلفزيون وبين ما يراه في قاعة العرض. الطفل هنا يشاهد حياة طازجة تصنع أمامه بمفردات إبداعية دقيقة متراصة متظافرة. يسند بعضها بعضا.
مجموعة العروض التي تمت مشاهدتها في فترة متقاربة، للأطفال، )كما للكبار أيضا( تؤكد الاختلاف الجذري بين التجارب الفنية التي تمّ على الخشبة من حيث التفاعل الجمهوري معها. العمل الجاد يصنع متلقيه ويفتح أمامه مدركات فنية جمالية واسعة. إنه يراهن على تجديد أدواته واستثمار إمكاناته الهائلة حتى لا يتبدّد. بينما الأعمال السطحية ستخفق عند أول امتحان حقيقي لها. امتحان المقارنة والمفاضلة مع العروض الأخرى.
وإذا كان طفل المسرح لا يزال يشاهد العمل لتمضية الوقت، ولأخذ صور مع الممثلين كأساس أول يدفعه لحضور عمل من هذا النوع، فإنّ على المسرحي أن يفعّل هذه الرغبة الطفلية من أجل توطيد المقدرة الفنية على تبيئة المسرح في حياة هذا الطفل، ونقله من ظاهرة موسمية عابرة إلى ثقافة يومية منتجة للحياة والمحبة والسلام والعلم والجمال. عندها فقط يمكن أن نصل إلى ما يمكن تسميته بـ»الطفل الجمالي».