الفرنسيون لا يفهمون أن زمن الإمبراطوريات انتهى
توفي ميشال بيتور الذي يوصف بأب «الرواية الجديدة» في فرنسا عن 86 سنة يوم 24 أوت الماضي، غادر دونما صخب هو الذي كان يكتب ليكتب وليس ليعرفه الناس كما هو حاصل اليوم. أكبر مجهول بين المشاهير انتبذ مكانا قصيا ليعيش ويكتب مستمتعا بالصمت الذي أكرم به نفسه وفاء لأم صماء، وهناك بعد عمر من الكتابة أطفأ حواسه و استسلم لصمت عميق. مجلة تيليراما الفرنسية أعادت نشر حوار سابق لها مع الكاتب أجرته مارين لا ندرو قبل ثلاث سنوات تترجمه النصر لقراء كراس الثقافة.
حوار مارين لاندرو/ ترجمة عمر شابي
صلب كصخرة، مرتديا تبانه الخالد بلون خضرة أشجار التنوب و لحيته على نموذج هيبار ريفز و اهتمامه المرح، يفتح بيتور السياج الأبيض لمنزله «على الهامش» المتربع خلف كنيسة لوسينج في سافوا العليا. منزل من الآجر و الخزف كتب فيه شعرا. كانت خطواته خفيفة كمن يسير على الثلج.
كلابه الثلاثة كانت في أقفاصها إلى جانب البيانو الذي بقي صامتا منذ وفاة زوجته ماري جو قبل عامين، في سن السادسة و الثمانين يصعد الرجل سلالم الخشب الحلزونية التي تقود إلى مكتبه الكبير، أين تتقابل ثلاث طاولات علامة على التكاثر المتواصل لهذا الكاتب الغزير الإنتاج، الحامل لعلامة رائد الرواية الجديدة، بعد صدور روايته التحوير عام 1957 ( أين خاطب القارىء بضمير الجمع و صور عبر لائحة الطعام رحلة رجل بالقطار إلى روما) انقطع ميشال بيتور نهائيا مع هذا النوع الأدبي.
لا أكتب لكي يعرفني الناس
فيلسوف، شاعر، مؤلف كتب عن الفنانين و ألبومات للأطفال، أستاذ جامعي و صاحب نظريات في الموسيقى و الرسم و الأدب و مصور فوتوغرافي لم يتوقف عن الطواف حول العالم بحثا عن التجدد الدائم، فهو عصي على التصنيف، في حركة مستمرة يمكنه أن يأخذ لنفسه مقولة جيل بيري في زوار المساء « منسي في بلده، مجهول خارجها هذا هو قدر المسافر». إذا كان اسمه معروفا فكتاباته الكثيرة أقل شهرة.
نحن جالسون في مكتبك، ما يلفت الانتباه هو الصمت المطلق...
اخترت هذا البيت، مع زوجتي لخصائصه الصوتية. في الجبل، يصعد الصخب من الوادي، لو كنا على السفح لكانت الطرقات كشسوع نعال، تسمع السيارت و هي تغير من سرعتها لكي تنعطف و ذلك إزعاج صوتي حقيقي. في هذا المنزل لا أسمع سوى الأصوات الطبيعية، صوت الرياح في الأشجار، جريان المياه المنهمرة، ضحكات الأطفال في ساحة الراحة، غناء العصافير، نواقيس الكنيسة.
أحتاج إلى الصمت، لأنني مع الوقت صرت أكثر حساسية، فقدت بعضا من حاسة السمع، لكن للمفارقة مع توالي السنين شحذت الكتابة الطريقة التي أتلقى بها الأشياء التي تحيطني، و أنا بحاجة لأضع نفسي «على الهامش» كما يشير إليه اسم هذا المنزل. فقد هذب التصوير الفوتوغرافي كثيرا طريقة رؤيتي البصرية. في السابق حين كانت الصور بالأبيض و الأسود كان المصور هو من يفهم ما تكون عليه الصورة حين تشكل الألوان جزءا منها. و منه نجحت في تحليل دور اللون داخل ما أرى.
الرواية الجديدة أيضا كانت بالنسبة لي مدرسة للنظر، فلكي تستطيع وصف الأشياء بالتمام كما هي كنت أقوم بملاحظتها بكثير من الدقة. ثم إنني حين أكتب عن الموسيقى أجعل اهتمامي منصبا على الطريقة التي تصدر بها الكلمات حينما استمع إلى صخب العالم، مما يعني أنني أنظر إلى الحقائق بحدة خاصة...
هذا يأتي أيضا من والدتك التي كانت صماء؟
أصيبت والدتي بالصمم عندما وضعت طفلها الأخير، كان ذلك خسارة كبيرة لي، و هي أحد الأسباب التي جعلتني لا أواصل التدرب على عزف الكمان، لأنها لم تكن تستطيع سماعي. كان لها صمم تام. العصب السمعي لم يكن يستجيب بالمرة. في تلك الفترة لم تكن لغة الإشارة متطورة و لذلك تعلمت القراءة من خلال حركة الشفاه. جدتي التي لم تتقبل مطلقا صمم ابنتها لم تتعلم أبدا النطق السليم لمخارج الحروف. كل مساء كانت تكتب تقريرا بما حدث طيلة اليوم لأمي، و هو ما كان يثيرها للغاية، فلا تقرؤه. طيلة سنوات كنت أنام و أنا أرى من خلال بابي المفتوح جزئيا كيف لا تستطيع المرأتان التحاور، كان الأمر ينتهي إلى البكاء، و كان ذلك مهما جدا في طفولتي.
بالمقابل كانت القراءة على الشفاه تتم بصورة جيدة مع أطفالها. كان علينا تهجئة الأصوات، دون الحاجة إلى إصدارها، و بينما كان الآخرون يتحدثون فيما بينهم كان يمكننا إجراء محاورات صامتة مثيرة مع أمي لا يسمعها أحد، تتلقاها هي فقط. و كنا نتحدث معها بطريقة مختلفة عن الآخرين لأننا كنا نستطيع الحديث صامتين. و كانت التهجئة بتلك الطريقة قد ساعدتني كثيرا على أداء دوري كمغني في الأعمال الموسيقية.
ما الذي يعجبك في دور المغني هذا؟
أن تكون في داخل الأوركسترا، و منه تسمع الموسيقى بطريقة مغايرة عما يسمعه الجمهور. عادة خلال الحفل يكون الموسيقيون على الخشبة و الجمهور قبالتهم و لا يسمع سوى من جهة واحدة، تأتيه الموسيقى من وجهه، لكن بالنسبة للموسيقيين داخل الأوركسترا تأتي الموسيقى من كل جانب. فالموسيقى بالنسبة لي مسألة فضاء و بالنسبة لي فهذا فرق كبير، أحب الموسيقى أكثر من أي شيء و لدي ولع بجون سيباستيان باخ، فهذا الشيخ يعطيني الطاقة و أنا محتاج للقدرة الآن. لذلك استمع إلى كونتاته الواحدة بعد الأخرى دون توقف.
تحب أيضا قراءة تقاسيم الموسيقى كما نقرأ الكتاب...
علمني ذلك صديقي الشاعر جورج بيروس، لم يكن عازفا جيدا على البيانو، لكنه كان مفكك شفرات ممتاز. كان يجعلني أغني مقاطع ألمانية من موسيقى شوبرت و ألحان دوبار. التقينا كقراء لدى دار النشر «المجلة الفرنسية الجديدة» و في وسط هؤلاء الناس المغالين في باريسيتهم (نسبة إلى باريس) كان هناك شيء مختلف. لم أكن أنا بذاتي مرتاحا. و فيما بين الشبان الضائعين وجدنا أنفسنا و لم نفترق بعدا أبدا. بعدها أعطيته كل مخطوطاتي ليقرأها. كان ينبهني إلى بعض الأخطاء بطريقة لبقة مهذبة، و كان دوما على حق و هذا شيء مذهل فلم أجد قط قارئا مثله.
كتبت نحو ألف و خمسمئة كتاب، ما الذي يدفعك أن تكون غزيرا هكذا؟
أنا بحاجة لأن أنسج شرنقة من الكلمات لكي احتمي من العالم الخارجي. لا أكتب لكي يعرفني الناس. و بالمناسبة يقال عني غالبا أنني «مجهول شهير» أو «مَعلَم هامشي». أكتب كثيرا بعد لقاءاتي التي كانت كثيرة و كتبي هي نتاج مركز لعلاقات صداقة مع أناس موتى أو أحياء.
توليت التدريس كثيرا في الخارج، في مصر، اليونان، إنكلترا، الولايات المتحدة الأمريكية... أين تعلمت أكثـر؟
في مصر خلال السنة الدراسية 1950-1951. كانت آخر سنوات حكم الملك فاروق، كان هناك وزير للتربية متشبع بالثقافة الفرنسية، كان يحاول أن يجعل الفرنسية في نفس مرتبة الإنكليزية في التعليم الثانوي المصري و في تلك الفترة كانت مصر تحت نوع من الحماية البريطانية غير معلن عنها و كان كل المثقفين يسعون للتخلص من الهيمنة الإنكليزية بتعلم الفرنسية التي كانوا ينظرون إليها كواحدة من نقاط تحررهم، و لذلك جلبت مصر عددا من الأساتذة الفرنسيين الشباب.
أنا بحاجة إلى أن أضع نفسي على الهامش
كنت أحمل ليسانس في الفلسفة ووجدت نفسي في مدينة صغيرة على بعد 200 كيلومتر من القاهرة أمام أقسام تضم ستين تلميذا، أكثر مني قوة بدنية و لا يعرفون كلمة واحدة من الفرنسية، و كنت أتواصل معهم من خلال الرسوم على اللوح الأسود، التي أوضحها بتعريفات منطوقة. جزء كبير منهم تخلى عن التعلم، كانوا في حالة هيجان و كان الأمر صعبا. لكنني اكتشفت طرق تعبير تحولت مع الوقت إلى متع فنية.
واجهتك مبكرا صعوبات ممارسة نشاط التعليم...
كنت قد واجهت تلك الصعوبات في فرنسا قبل مصر، و أزمة التعليم في بلادنا مستمرة منذ وقت طويل و ليست جديدة كما تعلمون لها جذورها العميقة و لا أعلم تماما كيف سيتم حلها. هي مشكلة عدم تلاؤم البرامج منذ الحرب العالمية الثانية... بعد الحرب كان الشعب منقسما إلى طبقتين. الناس الذين عاشوا ما قبل الحرب كانت لديهم فكرة واحدة حين انتهت كان صعبا عليهم غلق القوس و محاولة إيجاد مكان لهم مثلما كان الأمر سنة 1937 و بالطبع لم يسر الأمر على منوالهم
ثم كان هناك شبان مثلي خرجوا من الحرب مقتنعين أن الإمبراطورية الفرنسية لم يعد لها وجود و أن الإمبراطورية الفرنسية كانت أكذوبة، و أصل الأزمة في التعليم ينبغي البحث عنه بالذهاب إلى تلك المرحلة، و حتى اليوم يجري تقديم ما عليه الوضع في العالم حقيقة بطريقة غير صحيحة بل و مغايرة تماما للواقع. الفرنسيون يجدون صعوبة في فهم أن زمن الإمبراطوريات الاستعمارية قد ولى و أن باريس لم تعد العاصمة الثقافية للعالم، بينما حاول البعض تقديم إجابات وهمية قال البعض أن العاصمة الثقافية العالمية صارت نيويورك و آخرون قالوا برلين، لكن كل ذلك خطأ، فلا توجد عاصمة ثقافية للعالم اليوم، أو إذا وجدت فهناك عدة عواصم و حتى الآن لا يفهم الكثير من الساسة الفرنسيين هذا.
ينظر إلى كتابك «موبيل» الصادر عام 1962 حول الولايات المتحدة على أنه مبشر بما هو عليه جهاز الكمبيوتر اليوم ما هي رؤيتك للكتاب الرقمي؟
إنه دعامة جديدة تحمل الكثير من الاحتمالات و الفرص و نحن لا نزال في بداية الإرهاصات الأولى... لو كنت شابا لتعلقت شغفا بهذا. أود لو أن الكتب الرقمية تصير نوعا من كتب الفنانين جديدة كلية. حتى الآن للأسف الهوس يتعلق بإنتاج لوحة رقمية تشبه إلى حد كبير الكتاب الورقي، تعيد إنتاج الحبيبات و التصفح...
الرواية الجديدة كانت بالنسبة لي مدرسة للنظر
لا تنبغي المحاكاة، يجب الابتكار، العالم الرقمي يثير الخوف فنحن لا نستطيع الإحاطة بكل جوانبه و العمل داخله و اكتشافه كشيء جديد و هذا خطأ. فكل الوسائل الرقمية تم تطويرها من قبل البنوك و أوساط المال و الأعمال و هم غالبا أناس ذوو حساسية سطحية فهم لا يفهمون عميقا ما اخترعوه بما أنه يجلب لهم القليل من المال، و هو كل ما يريدونه.
هل للشعراء دور محتمل...
من الطبيعي أن يكون لهم دور، فلا يوجد سوى الشعراء لكي يدلوننا على الطريق على ما بداخل الأماكن المجهولة، لنأخذ تويتر مثلا، 140 حرفا تفرض علينا حدا محترما للكتابة، مثلما كانت السونيتات (قصائد من 14 بيتا) في القرن التاسع عشر، في الحقيقة كان قليلون يمكنهم الاستفادة من أشياء ذات معنى، و قلة فقط كانت قادرة على إبداع سونيتات مهمة، من بين ملايين الكتاب على مدار تاريخ الأدب.
مع ذلك لم تتخل عن البطاقات البريدية من أجل الرسائل الإلكترونية...
لا، لم أبدأ استخدام البريد الإلكتروني إلا منذ سنتين، كان عمري 85 سنة و استعمله قليلا، أفضل في الحقيقة طريقتي القديمة في إرسال البطاقات البريدية التي تغيرت قليلا. البريد الإلكتروني لا يعطيك الإحساس ذاته حينما تتلقى رسالة، تماما مثلما أحب ملامسة الكتب لكي أعبر لها عن حناني و احترامي. حينما كنت صغيرا، كل عام مع والدي كنا ننظف الكتب، أحببت كثيرا تلك المناسبة، كتب جول فيرن و والتر سكوت كانت تعتبر كتبا للأطفال، نستطيع التعامل معها دون خوف، لكن كتب روسو و مونتسكيو كان علينا الاحتراس جيدا عندما ننفض الغبار عنها.