جدلية الغياب/ الحضور و توقيع شعري متميّز بالرّوح التي تحضر
محمد بن زيان
«كمكان لا يعوّل عليه»، عبارة شعرية مكثفة تحيل للعبارة المشهورة للشيخ محي الدين بن عربي عن مكان لا يعوّل عليه عندما لا يؤنث. العنوان كعتبة محورية من عتبات النصوص، بتكثيف دلالات لا حصر لها، والشعر في حد ذاته تكثيف لغوي، ورحلة تجريد لإدراك مستوى لغة اللغة، رحلة عروج لبلوغ ذروة اللغة. العنوان له محوريته في الدرس السيميائي، محورية انبثق معها ما يصطلح عليه بالعنونة كدرس قائم بذاته. في نصوص ديوان نوّارة لحرش ما يعضد ما ذُكِر، فهي مسكونة بهاجس بنينة الحضور وثقف الغائب بنسيج الكلمات.
في الإهداء توطئة مفتوحة على ما سيتناسل من نصوص المجموعة وما تناسل قبلها وما سيليها، توطئة تحمل تحية واستحضار للغائبين، والإبداع كانزياح يمد جسورا للوصل بمن انفصلوا عن العبور. والإبداع أيضا إفراز من إفرازات لوعة الفراق وحرقة الحنين، والغائب حاضر والحضور متشكل بتعبير الشاعرة كــ: "شجرة مثمرة بالحنين والغصص".
عمق إنساني تحمله العبارة وتنحت الشاعرة مفرداتها بمدد وجداني يهب إمكان التحقق الإنساني، الذي يبقى مفتوحا ومتواصلا، فالإنساني بتعبير علي شريعتي صيرورة.
تمهد الشاعرة لنصوصها بعبارات لأنطونيو بورشيا، وفي انتقاء الشاعرة لتلك العبارات ما يعلن عن روح كلماتها التي كانت من حبك الجرح. فالروح القديسة كما ذكر بورشيا: "لا تولد من فردوس بل من جحيم". ومن النار الصهر والإنارة بتدمير الغشاوات والحجب، فالرسول موسى عليه السلام لما رأى النار اندفع لعله يأتي بقبس يهتدي به فتجلى له الحق، تجليا يلازم الإنوجاد وكما قال البسطامي: "يعرج الخلق إلى الحق وينزل الحق إلى الخلق".
النصوص مشحونة بالهاجس الأنطولوجي، وهي الحمولة التي حررت الشعري من وطأة دوغمائيات نشرت القحط والبؤس.
بدأت المجموعة بنص "شجر المعنى"... وعناوين نصوص المجموعة كلّها خلاصات مكثفة لما يتناسل من عبارات تخترق العبور وتسافر نحو لا متناهيات اللغة، نحو إنوجاد يستعيد الغياب ويحرر الحضور من وطأة العبور.
عنوان "شجر المعنى" مثلا ليس تعبيرا إنشائيا ولا توظيفا مجازيا واستعاريا، بل تحقيق بتدقيق، تحقيق لما يتشكل كحياة... شجرة ومعنى. الشجرة الطبيعة والمعنى ما تنبض به الطبيعة، في الشجرة جمال الوجود، وبالمعنى اكتمال بجلال. الشجرة سلالة والمعنى ما يؤسس لكينونة السلالة وما يصغ هويتها. المعنى الذي به وفيه ومعه الحياة.. .والمعنى في صلب اللغة وهذا ما جعل "هايدغر" يتحدث عن اللغة كمسكن للكائن، وجعل "الخطيبي" يطرح السلم الألسني. عبرت الشاعرة "نوّارة لحـرش" بروعة عن ذلك في قولها: "لو مرّة
سقطتُ سهوا
من شجر المعنى
كيف أتعرّف على (أنا)؟!".
المعنى كما بيّن "هايدغر" يكمن في اللغة وفي نص "قميص" تقول الشاعرة:
"أفتح قميصَ اللغةِ
أنزوي فيه
كما لو أنّهُ جنّتي".
و"قميصُ اللغة وحدهُ الكفيلُ بما لا تسعهُ الحياةُ".
و"وحدهُ قميصُ اللّغةِ
وطني ومنفاي
و وحدها العزلةُ العالية، هوية وانتماء".
و"على حين ألم
طوى الوقت بأظافر باردة
فتشردت الرّوح في الجهات قشعريرة
تبحث عن معطف من كلمات".
و"لم أقل شيئا..
فقط اكتفيت بالصمت
فعادة، أمام دمعتي تتعطل لغتي".
التآلف مع الطبيعة يحضر في النصوص، حضورا ينشد الإنوجاد بتبديد الحجب وإعادة تمثل أصل التكوين ومعنى الكينونة... تنشغل بجدلية الحضور/ الغياب، انشغالا يختزله بتكثيف تعبيرها: "مدّ يَدهُ شَكّلني سَماءً بِلمسةِ حنان
مدّ بُعدَهُ
أحالني غُروبًا بلمسةِ غيابْ".
و"الحضور ياقة متهدلة على صدر الأوهام الكثة
يتهجّاها الغياب
الغياب ثوب مرقع بذنوبي".
إن الهاجس جعل التقويم خريفيا: "الخريف تعويذتي
أنا تعويذته
كلانا تعويذة الآخر
يستدرجنا الغروب
الذي يتوسد أمكنة الدنيا كأريكة من خدوش
وكدمات".
و"أغمض عينيّ فينساب الخريف في أفكاري!".
عناوين النصوص تتقاطع وتتواصل بما يحبك الحالة "المأدبة المتأخرة" مثلا تحضر معها "وليمة الأسئلة" وتكون كما تقول: "الحسرات إخوة العزلة" و"يصهل ثلج الحزن
في القلب
في الأوردة".
معمارية المتن توافقت مع الحالة ومع إيقاعاتها، فكان الحجم بين النصوص المطولة والنصوص المختزلة والمكثفة.. والمجموعة بكلّ نصوصها توقيع شعري متميّز، متميّز بالرّوح التي تحضر، والشعر قبل أيّ تحديدات تقنية يشكله جوهره وروح كلماته.