لطالما احتفى الكاتب الخير شوار بكتابات الآخرين، وفتح الأبواب للمبدعين وأصرّ على حضور «الثقافي» في صحافة جزائرية غير مكترثة بالقيمة ومنصرفة إلى شؤون أخرى، فأسّس ملاحق ثقافية وساهم في أخرى، ونسي في غمرة ذلك الاهتمام بمشروعه الإبداعي ولم يستغل موقعه للترويج له كما يفعل كثيرون، ولن نجد في وصف ذلك أبلغ من مصطلح «الحياء» الذي أطلقه الدكتور السعيد بوطاجين على سلوك كاتب يرفض الانخراط في جوقة المسوّقين لأنفسهم في مجتمع يأتي الأدب في آخر اهتماماته.
الخير شوار الذي بدأ مسيرته الأدبية قاصا، قبل أن تسرقه الرواية، يرفض التفريط في فن القصة الذي هجره كثيرون استجابة لإغواء الرواية، حيث سيصدر بعد أيام مجموعة قصصية جديدة بعنوان “مغلق أو خارج مجال التغطية”، يتشرف كراس الثقافة بنشر قصتين منها في هذا العدد، إلى جانب مقدمة الدكتور السعيد بوطاجين.
---------------------------------------------------------------------------------
أشعر دائما بغبطة كبيرة عندما أقرأ للخير شوار، كإعلامي ومحقق وروائي وقاصّ يقدّر عمله وحدوده، وقد ظللت أعتبره هبة من الخالق منذ مجموعته القصصية الأولى التي اختار لها عنوان:"زمن المكاء"، ليس لأنه أفضل من الآخرين وأرقى معرفيا وسرديا، إنما لأنه يكتب جيدا وبوقار الساقية، دون أيّ ادعاء أو استعلاء، مثلما يحدث في هذا العالم الذي يعتبر فعل الكتابة نبوّة، شيئا ما يشبه الكتب المنزلة من السماء الثامنة.
هناك أمر آخر أرى أن الإشارة إليه ضرورية في ظل تكريس ما يشبه الألوهية في أوساط الكتّاب. ثمة من يعتقد خطأ أنه يكتب قضايا يقينية لا يمكن مناقشتها لأنها مصدر ومرجع، كتابات مقدسة لا يمسها إلاّ المطهرون. أمّا الخير شوار، كما أعرفه من سنين خلت، فيكتب بهدوء وحياء، مؤمنا بالنسبية وبحركة الوقت، بالتقادم والتجاوز، وبهذه الحلقية العظيمة التي لا يمكن أن نكون من دونها سوى وهم كبير يؤسس لوهم أكبر سيأتي على العقل. الخيّر شوّار من هذا النوع النادر الذي يستحي من كتاباته فلا يتحدث عنها.
أجد أن هذا الكاتب غاية في النبل. يؤلّف بنوع من التواضع الذي يبلغ درجة الانمحاء أمام الكون والتجارب الكبيرة، أمام الأشياء الصغيرة التي لا تبلغها المدارك التي تسافر بعيدا لاستيراد موضوعات غيرية ورؤى ليست لها. إنّه كاتب يريد تحقيق ذاته انطلاقا منها ومن محيطها الخارجي، ومن العلامات التي شكلتها عبر الوقت، وهو إذ يكتب، يؤسس دائما على مرجعيات ذات علاقة بكيانه وهويته. الهويات ليست قاتلة عندما تؤسس على الوعي، إن لم تكن جوهر الكتابة برمتها، عكس ما ذهبت إليه بعض المقاربات الواهمة للحداثة التي لا تقدّر السياق والذات والتنوّع الخلاق، دون عصبية، ودون تقديس المرجع.
من المؤكد أن مجموعة:» مغلق أو خارج نطاق التغطية» تستحق تقديما يليق بمقامها، كما أكّدت للكاتب والناشر اللذين طلبا مني بإلحاح كتابة هذا التقديم، بيد أن ذلك يستدعي دراسة نقدية مفصلة تكشف عن الخصوصية الدقيقة للسرد ومساره، ولمجموع مكونات هذه النصوص اللافتة من حيث إنها تمثل تجربة فيها كثير من النباهة والعبقرية، ثم إن الكاتب فوق هذا التقديم الذي سيكتفي بالإشارة إلى جزء بسيط من جهده ومنظوره وطريقة كتابته.
لاحظت، قبل الحديث عن المجموعة، عودا على بدء، انتقالا من الرواية إلى القصة القصيرة التي ابتدأ بها منذ قرابة عقدين، وهذا أمر نادر في المنجز السردي العربي لأسباب لها مسوّغاتها الموضوعية وغير الموضوعية في آن واحد. أمّا هذه المجموعة فتفتح مجالا لطرح سؤال من نوع: هل يعتبر الروائيون القصة القصيرة عارا؟ أو شيئا لا شأن له؟ وما دور النقد في تكريس هذا التوجه المتواتر في السنين الأخيرة؟
القصص القصيرة الواردة في هذا الكتاب تجيب على السؤال بطريقة ما. الخير شوار يكتب النص الروائي بالمسؤولية ذاتها التي يكتب بها القصة القصيرة، وهو يعي جيدا أهمية ذلك لأنه يجتهد في الجنسيين دون مفاضلة واهية، ودون أي تمييز، وبالمعجم المناسب الذي ظل ينحته من محيط الشخصيات ومستوياتها، وقد يعود ذلك، في الأساس، إلى المعاينات الفعلية التي أثثها الخيال، أي إلى التجارب الواقعية التي بنى عليها نصوصه، ببعض التنميق المركب الذي وسم الحكاية والجملة السردية.
أتصوّر، دون أي مبالغة، أن هذه المجموعة القصصية بذلت جهدا عظيما لتصل إلى هذا الجمال الراقي، وبهذه الطريقة الساحرة التي تذكّرنا، في حالات كثيرة، بأنفسنا وبواقعنا الذي طالما تركناه جانبا لاهتمامنا بنفسية الآخر وواقعه وإرثه ونواميسه ورؤيته للعالم. لقد أصبحت الحداثة العربية، كما هي متداولة في بعض الفهم، شيئا يتعذر فهمه لأنه يقوم بتصدير القارئ وتغريبه، أو بمحوه من خارطة السرد. في حين تسعى هذه القصص إلى استرجاع المتلقي وتوطين المعرفة السردية بوعي، وهذا انتصار أوّل على المفهوم المتواتر، أي على الكتابة للآخرين، شكلا ومضمونا ولغة ورؤية.
شخصيات المجموعة محلية جدا، ومثيرة أيضا. إنها من ذلك النوع الذي قد لا ننتبه إليه عندما تجرفنا الأفكار والأيديولوجيات الكبيرة الوافدة إلينا من حضارات ومدن بعيدة. الشخصيات كحكاياتها ومآسيها، لكنها تحمل قيّما إنسانية وعمقا بيّنا. ذلك لأن الكاتب ينظر بالعقل إلى المادة السردية وكيفية نقلها بالشكل اللائق، دون أن يكون صورة مشوّهة لقراءاته، أو امتدادا آليا لكتابات الآخرين وعوالمهم الخاصة التي أفرزتها سياقات عينية ليست سياقاتنا، وأحداث ليست أحداثنا، وحالات ليست حالاتنا، وعلامات ليست بالضرورة علاماتنا التي تحمل زادا دلاليا خاصا يتعذر إيجاده في منظومة العلامات الأخرى، دون استثناء: للبؤس العربي لون وطعم ومعجم وشخصية. القصص كلها تحيل على هذا الفهم الدقيق للخصوصية النيّرة التي تأتي بإضافة، دون الوقوع في ما وقعت فيه «الهويات القاتلة»، أو ما سميّ كذلك، مع أن أغلب الكتابات القديمة والجديدة جدا، في جوهرها، ليست سوى تكريس لافت لهذا المنحى المركزي العام، رغم الادعاءات التي تذهب عكس ذلك، سواء عن علم أو عن جهل. لا توجد في هذا العالم كتابات لا هوية لها، ما عدا إن كانت لا شيء، مجرد تهويمات وسفاسف لا تعي حقيقتها ووظيفتها.
كتب الخير شوار هذه التحف ببصيرة، وبروح مدركة لمحيطها، وقد سعى إلى تحرير شخصياته من سلطة الأنا تفاديا لأي إسقاط أو تنميط، ولأي تخطيط معياري يجعلها صورة له، ما أكسبها استقلالية واضحة تعكسها مستويات التفكير والتعبير التي تفادت الأدلجة والإسقاط، وهذا نجاح في حد ذاته، مع أن الكاتب أدرك المسألة من تجاربه الأولى فسعى إلى الفصل بين الكاتب والسارد والشخصية. من المهمّ الإشارة إلى الأجواء والأماكن والشخصيات المرجعية: الأجواء الحميمة التي تشبهنا، القرى والجبال والتلال والمدن، الأماكن التي نعرفها، حتى في التشكيل المغالي لها، الشخصيات التي عشنا معها أو عرفناها، في الحكاية الشعبية والخرافية، الغول والعفريت وما تناقلته ذاكرة الأجداد، ثم هذه الإحالات المكثفة على الموروث الإنساني بأنواعه: قصة «انتقام شهرزاد» عيّنة، إضافة إلى الاشتغال الواضح على المسائل التقنية والسردية، كما يبدو، على سبيل التمثيل، في قصة: «الذي أكلته الرطوبة»، وغيرها من القصص التي سعت إلى تحديث طرائق السرد، ليس كموضة أو ترف ذهني عابث، بل لأغراض جمالية ووظيفية بحتة. أجد في مجموعة «مغلق أو خارج نطاق التغطية» جهدا كبيرا يستحق التنويه والاهتمام. القصص أصيلة ومنفتحة على التجربة الإنسانية، رغم ما يبدو عليها من محلية. هذا النوع من السرد هو الذي يمكنه أن يكون تمثيليا لأنه ينطلق من بيئته، دون أن يكون منحسرا أو منغلقا على نفسه، ما قد يتسبب في محدوديته وعدم قدرته على اختراق الحدود اللسانية. هنيئا للكاتب وللناشر والقارئ الذي سيجد متعة في هذا المنجز الجديد لكاتب لا يدّعي شيئا.
.............................................................
مقدمة الروائي والأكاديمي السعيد بوطاجين للمجموعة القصصية «مغلق أو خارج مجال التغطية»، العنوان من وضع الجريدة.
يدان صغيرتان مقربتان من الفم.. الأصابع منتفخة جراء صقيع الشتاء.. الطفل يلمح زميله، فؤاد بن سعيدي قادما من بعيد، داخل قشابية بالية.. عندما التقى به، مد له يده اليسرى، فقال فؤاد:
-هل أنت طفلة؟.. البنات وحدهن يصافحن باليد اليسرى..
شعر مراد سلماني بخجل، نسي من خلاله صقيع ذلك الصباح بعض الوقت، لكنه حاول أن ينسي زميله هذا الموقف بتوجيه الحديث إلى موضوع آخر، فأراد أن يكلمه عن الفرض المنزلي، لكن فؤاد الذي ضايقه الموضوع، قال دون أن يكمل مراد كلامه:
-هل شاهدت حلقة مسلسل «الفأر النبيل» في قناة الرسوم المتحركة؟
- نحن لا نملك هذه القناة، ثم أن أبي يمنعنا من مشاهدة التلفزيون.
صقيع الشتاء الذي أنزل الحرارة إلى ما دون الصفر، لم يمنع الشمس بأن ترسل أشعتها على تلك الأجساد الصغيرة، والأرض مغطاة بقشرة بيضاء تشبه الثلج.
قرية «عين المعقال» تعودت على ذلك في ذلك الفصل.. السكان الذين حرموا من الغاز تعودوا على البرد.. أصابع الأطفال تقاوم بالانتفاخ، وبتغيير لون البشرة إلى الأزرق.
لم يحن وقت الدخول إلى القسم بعد، وجد مراد الجو مهيئا للنظر إلى الجبال.. وعين المعقال بنيت على تل وتحيط بها الجبال من كل جهة.. أخذ مراد ينظر إلى الجبل الأزرق.. وقال لزميله فؤاد:
-ألا تعلم بأن ذلك الجبل الأزرق البعيد يسكنه الغول؟
-ومن أخبرك بذلك؟
-أمي، وقالت بأن الغول ينزل ليلا ليتجول في شوارع القرية.
رأى مراد الخوف في عين صديقه، وقد أخذ ينظر إليها لكنه سرعان ما نسي.. وتبع حبل تفكيره.
لم يذهب بعيدا، عاد بسرعة مع الجرس.. دخل وزملاؤه الساحة.. دخل الكل إلا هم.. هل غاب المعلم؟.. بدأت الحديث يتوحد: «سيدي ما جاش.. سيدي ما جاش».. العبارة ممزوجة بفرحة خفية.. لم يدم الانتظار طويلا.. أمروا بالخروج منظمين مثلما دخلوا.. تعددت أقوال الأطفال ونواياهم: «سوف أعود إلى البيت باكرا.. سوف أذهب مع أمي إلى بيت خالي..سوف أذهب إلى الملعب منتصف النهار..».
أما الطفل مراد سلماني فقد غاص في تفكير طالما شغله.. أخذ ينظر إلى أشعة الشمس الصفراء، لم يستطع التركيز.. حول نظره إلى الجبال البعيدة.. نظر إلى الجبل الأزرق، وقال في نفسه: «تري ماذا يفعل الغول في هذه اللحظة؟.. إنه يأكل الأطفال الذين حملهم معه ليلة البارحة.. لقد سمعت بكاء بعضهم.. لا.. لا.. ربما يكون قد أكلهم في آخر الليل.. قد يكون نائما في هذه اللحظة».
كيف هو شكل الغول يا ترى؟.. لقد سمع عن تلك الأميرة التي تسكن على بعد سبع جبال، وسبعة من الغيلان.. إذن لا يوجد غول واحد، هل هؤلاء أشقاؤه؟.. بدأ يستعيد صورة الغول التي صنعها له في خياله.. رجل ضخم الجثة ذو أثواب ممزقة في كل مكان.. قبيح المنظر.. له عين واحدة في جبهته.. أكلته المفضلة الأطفال.
هذا الغول يحول بينه وبين الجبل.. ذلك الكيان الذي يسكن أعماقه.. الذي وضع على حافة الدنيا.. سوف يذهب إليه مهما كان الأمر ليعرف ما وراء الجبل.. كثيرا ما شغله عن واقعه ويتكرر في أحلامه وكوابيسه بشكل شبه يومي.. ولم يجد من يشاركه هواجسه..
امتلأ رأس مراد بهواجس شتى.. لم يعد يميز بين أحلامه وكوابيسه.. لم يكن يدري بما يجري حوله.. أصوات الأطفال تتعالى في هامش تفكيره.. وهو يستعيد الفكرة التي راودته صباحا.. بدأت أشعة الشمس تتغلب على قوة الصقيع.. انتعشت الأجساد الصغيرة أكثر واقترح بعض الأطفال الذهاب إلى ملعب كرة القدم الصغير.. لم يكن يهتم بتلك اللعبة على غير عادة أقرانه..
أخذ ينظر إلى الجبال المحيطة بقرية عين المعقال الواحد تلو الآخر.. الجبل.. ذلك الجبل.. ترى من بناه؟.. هل صحيح أن الجبل يبتعد عنك إذا ما حاولت الذهاب إليه؟.. ماذا يوجد في تلك البقعة الحمراء؟.. قيل لي بأن الجبل الأزرق ذاك هو مأوى الغول، لكني رأيت الدخان يتصاعد من تلك القمة القريبة.. هل كان الأمر وليمة أطفال، أم أن حريقا أشعله بعض الرعاة كما قيل لي؟.. كان ذلك في ليلة البارحة.. كان حلما بل كابوسا مرعبا.. أخذت أصرخ.. حتى فزع من كان بالبيت.. أشعر بوهن في مفاصلي.. رأيت الجبل، نعم رأيته مثلما لم أره من قبل.. رأيته عملاقا.. وكنت في حضرته قزما.. رأيني أشبه السنفور.. بل أصبحت سنفورا مكلفا بمهمة شبه مستحيلة.. أرسلني بابا سنفور إلى هناك لوحدي..
صارعت الرياح.. تسلقت الصخور.. الرياح قوية.. بل عاصفة.. اقتلعت الأشجار.. رأيت الرعاة ومواشيهم في مهب العاصفة.. الكلاب تنبح، والذئاب تعوي.. الكلاب تتحول إلى حيوانات ضخمة تنبعث من أفواهها النيران.. عواء الذئاب يتحول إلى بكاء.. البكاء في كل مكان.. رأيت النسوة يندبن وجوههن ويعددن.. كنت في جنازة.. الجثة مطروحة في قلب الفناء.. تحولت النسوة إلى كلاب سوداء والرجال إلى ذئاب بأذناب خشبية تلتهمها النيران.. النار كانت مشتعلة في كل مكان سمعت صفارات إنذار الحماية المدنية.. اختنق صوتي.. دخلت في متاهة.. أصبحت أعدو في كل مكان.. لم أجد مخرجا.
حدقت في جسدي جيدا.. رأيتني سنفورا، وتذكرت بأني في الجبل أريد قمته.. شعرت بخفة في جسدي أنا أعبر تلك الصخور الكبيرة دون تعب.. وصلت فجأة إلى القمة.. كان الفضول يقتلني لمعرفة ما وراء تلك القمة العالية.. فقدت السيطرة على جسمي.. انعدمت الرؤية.. أصبحت في هاوية.. أخذت أسقط وأسقط.. وأسقط.. ولم أعلم إلا وأنا أنهض من نومي، والعرق يبلل فراشي.
انتبه مراد سلماني إلى نفسه.. الأطفال تفرقوا.. لم يبق أمامه إلا البعض، ممن اختاروا اللعب على قارعة الطريق.. بجنب المدرسة..
عاد مرة أخرى ليحدق في الجبل.. لماذا يا ترى يأسره إلى هذا الحد.. ويتكرر في أحلامه وكوابيسه.. ترى هل فعلا أن الحياة محصورة بين تلك الجبال؟.. وماذا يوجد بعد الجبل يا ترى.. هل يبدأ عالم آخر من هناك؟.. هل هو العدم؟.. وما شكل العدم يا ترى؟.
سيطرت تلك الهواجس على تفكيره.. سوف يذهب إلى هناك.. إلى النهاية حيث ينتهي عالم ويبدأ عالم آخر، وقد تكون النهاية.. وهو مقتنع أن الجبل وضع على حافة الكون.
أخذت الأسئلة ترهقه، وعاد إلى التفكير في السفر هناك، ويصعد إلى الجبل..
وجد الجو مناسبا لتنفيذ الفكرة التي سيطرت على رأسه الصغير كثيرا.. الجو مشمسا مثلما لم يكن منذ بداية الشتاء، وفصل الصقيع الطويل.
نضجت الفكرة في رأسه، وهو يبحث عن زميله، فؤاد بن سعيدي وسط الأطفال المتبقين.. لقد وجده.. وانتزعه بصعوبة من وسط اللاعبين.
عندما انفرد به، سلمه محفظته.. وهو يقول له:
-خذ هذه إلى البيت، لأني ذاهب وقد لا أعود.
قال له فؤاد والحيرة تأخذه:
-أين ستذهب أيها المجنون؟
سأذهب إلى هناك.. إلى النهاية.. إلى ما وراء الجبل.
تركه في حيرته وانطلق، انتبه فؤاد إلى صراخ زملائه، الذين طلبوا منه العودة إلى الملعب.. أسرع فؤاد بالعودة إلى لعبته، وقد نسي أمر زميله مراد سلماني الذي ذهب إلى ما وراء الجبل، وقد بدأ يغيب عن الأعين.
جلس الكاتب واسمه محمد كاحل في زاوية من غرفته المبعثرة على حافة سريره الغريب وهو يلتفت إلى النافذة بين الفينة والأخرى وكأنه ينتظر شيئا مهما. ليس في عدته سوى بضع من الأوراق من نوع «البيفتاك» وقلم حبر جاف أزرق مكسور في الأسفل إلى درجة أن مستعمله إذا أراد كتابة شيء ما فعليه الإمساك بشيء من القلق بأسفل ذلك القلم..
كانت في ذهنه بعض القصص والحكايا التي تُسيّجه بإحكام. لا تدعه يخلص منها، إلا في محاولات قليلة جدا يريد الدخول إليها من باب مختلف وسرعان ما يؤدي به ذلك المدخل إلى ما يشبه الساحة التي تلتقي فيه كل الحكايا التي تسكن رأسه منذ أمد.
ويختلط عليه الأمر ثم يكاد ييأس من أمره لولا ذلك العناد الذي طالما ميزه عن أقربائه الذي جعله يحاول مرات أخرى من باب آخر يراه في البداية مختلفا ليجربه لعل وعسى يؤدي به إلى بر لا يعرفه.
وأصبح يخشى مع تعدد المحاولات الفاشلة من أن يلمح في طريقه شيئا مألوفا لديه، وهو ما يعني الذهاب بخطى متثاقلة فاشلة إلى اليأس من العثور على ممر آمن يؤدي إلى حكاية قد تسحر المتلقي عند الانتهاء من تحبيرها على ورق البيفتاك ذاك.
بعد الكثير من محاولات الاقتحام الفاشلة يرمى بالقلم جانبا وكاد يمزق الورق، لكنه لم يفعل ثم يحدّق طويلا في ما وراء النافذة.
فجأة بدون وعي منه امتدت يده إلى قلم الجبر الجاف يمسكه من الأسفل بعناية حتى تسهل الكتابة به، ثم أخذ الورق وبدأ يكتب بكثير من القلق وقد دخل من بوابة حديدية بلون صدئ بزجاج مكسور وسياج كثيف..
دفع البوّابة بشيء من القلق البادي عليه ثم دخل ليجد سلما متسخا حتى كاد يعود أدراجه، لكنه تجاهل الأمر وبدأ يتقدم خطوة فأخرى فأخرى إلى أن وجد نفسه في الطابق الثاني أمام ثلاثة أبواب متقابلة. ولم يتوقف طويلا ليتردد في أي الأبواب سيقتحم، فقد وجد بابا مفتوحا دون غيره فاقتحمه وبدأت خطواته تسمع مع نبضات قلبه المتسارعة. ولأول مرة يقتحم بيتا على طريقة اللصوص ولم يكن يسأل نفسه إن كان خائفا أو مترددا فقد كان في حالة تستعصى على الفهم.
وجد البهو فارغا، فكاد يعود أدراجه لولا إحساسه بشيء غريب في الغرفة المجاورة التي سار إليها ليدفع الباب بدون مبالاة، ويدخل غرفة مبعثرة وجد في أقصاها شخص كأنه يعرفه يجلس على حافة سرير غريب وهو يلتفت إلى النافذة بين الفينة والأخرى وكأنه ينتظر شيئا مهما، وليس في عدته سوى بضع أوراق من نوع البيفتاك وقلم حبر جاف أزرق مكسور في الأسفل إلى درجة أن مستعمله إذا أراد كتابة شيء ما فعليه الإمساك بشيء من القلق بأسفله وبصعوبة بالغة.
وقعت العينان على العينين، وأحس كل من الشخصين أنه يعرف الآخر عز المعرفة أو كأنه رآه في مكان ما. أراد أن يكلّمه لكن لسانه لم يطاوعه، وهبّ إليه يريد أن يحضنه أو يخنقه ولم يجد أمامه إلا فراغ البهو. فأخذته رجلاه إلى باب الشرفة يريد إنهاء وضع لم يعد يطيقه.