بن هدوقة.. أب الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية لا زال يُلهم
حلّت نهاية الأسبوع الماضي، الذكرى الــــ20، لرحيل الأديب والكاتب عبد الحميد بن هدوقة (09 جانفي 1925/ 21 أكتوبر 1996)، وبهذه المناسبة، يتحدث بعض الكُتاب والنقاد في ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد عن صاحب "ريح الجنوب"، كلّ من زاوية نظره التي قرأ/ قارب بها الراحل ومسيرته وكتاباته وحياته.الملف، تطرق فيه النُقاد أيضا إلى بعض المنجز الأدبي الإبداعي لمؤسس الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، وكذا صورة ومدى حضور أدبه في البرامج والكُتب التربوية المدرسية الجزائرية.
وقد وصف الدكتور بوطاجين، صاحب رواية "الجازية والدراويش" بالمدرسة الحقيقية التي استفادت منها التجارب اللاحقة. وروائيا قال: "إنّه يظل، بصرف النظر عن بعض النقد وتوجهاته، أحد أقطاب الرواية الجزائرية على الإطلاق، بكتاباته الكلاسيكية، وبكتاباته الجديدة التي بدأت تعيد النظر في تقنياته السابقة".
أما الدكتور مخلوف عامر، فأكد على أن بن هدوقة قد قضى حياته شغوفاً بالأدب غيوراً على الوطن. كما ظلّ مسكوناً بأدبية النص، يحاول من عمل لآخر أنْ يُلبس نصَّه ثوباً جديداً مصوغاً في لغة سلسة ميسورة، يسعى لإمتاع القارئ. ولم تقف المناصب التي تولاَّها حاجزاً بينه وبين الكتابة، فاستمرَّ وفيّاً لصلته بالقارئ".أما الدكتور محمد الأمين بحري فاعتبر رواية "الجازية والدراويش" بداية حقيقية للرؤية الأيديولوجية ونقدها للواقعين الاجتماعي والسياسي، لتستمر هذه الرؤية في تنامِ مطرد حتى رواية "غداً يوم جديد".
إستطلاع/ نـوّارة لحــرش
مضيفا أن الميزة الأبرز في نصوص بن هدوقة هي تحكمه المكين في تقنيات السرد وثقافته، وترتيب الصور وتحريك المشاهد، وبث رؤيته للأشياء والعالم، على منوال ما نقرأه في عيون الأدب العالمي.في حين يرى الناقد محمد بن زيان، أنّ مرجعية الكاتب تجسدت في ثقافته المزدوجة، فهو متفتح على الإبداعات العالمية. ومرجعيته أيضا مستوعبة للتراث الشعبي، وهذا الاستيعاب للمتعدد ثقافيا، أمدّه برصيد استثمره في ما أبدعه.من جهته الناقد محمد تحريشي، يقول أنّ روايات الرجل تُشكل مرجعا جماليا وفنيا مميزا ومهما واستطاعت مواكبة تطور المجتمع الجزائري في مسيرته التنموية، وتتبع مختلف التطورات لهذا المجتمع. كما أن نصوصه التي شاركت في رسم معالم كتابة سردية جزائرية أهلتها لأن تجد طريقها إلى الكُتب المدرسية، وحتى طريقها إلى السينما من خلال رائعته "ريح الجنوب" وتحقق انتشارا واسعا.
السعيد بوطاجين كاتب ناقد و مترجم
الروائي ذو المواهب المتعددة
لا يختلف اثنان في أن الراحل عبد الحميد بن هدوقة كاتب مكرس عربيا وعالميا. لقد تُرجم إلى عدة لغات بالنظر إلى قيمته الأدبية كأحد مؤسسي الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، إلى جانب الطاهر وطار. والواقع أنه كتب القصة والتمثيلية والقصيدة "الأرواح الشاغرة"، كما قام بترجمة بعض النصوص التي طبعت في البلد "قصص من الأدب العالمي"، إضافة إلى دراسته القيمة التي انصبت على الأمثال الشعبية بمنطقة برج بوعريريج، وهي دراسة أكاديمية راقية كشفت عن جانب خفي من حياته، وإذا كانت الجامعة لم تنتبه لهذا الأثر، فإني أعتبره من أرقى ما قدم من مقاربات في الأدب الشعبي، في المنهجية والتأصيل والموازنة والمقارنة.روائيا فإنه يظل، بصرف النظر عن بعض النقد وتوجهاته، أحد أقطاب الرواية الجزائرية على الإطلاق، بكتاباته الكلاسيكية، وبكتاباته الجديدة التي بدأت تعيد النظر في تقنياته السابقة. أشير ها هنا إلى "الجازية والدراويش" و"غدا يوم جديد" على سبيل التمثيل، وهما الروايتان اللتان قوّضتا جذريا مفهومه للسرد كما كان يراه، وكما تواتر في بعض رواياته، ومنها "ريح الجنوب" (التي أخرجت سينمائيا) و"بان الصبح" التي تعد من مؤلفاته التي ركزت على موضوع كان متواترا في السبعينيات مع الثورات الثلاث التي ذاع صيتها في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وفي عهد التوجهات الاشتراكية الكبرى. يُعرف عن عبد الحميد بن هدوقة أنه كتب تحت راية الواقعية الاشتراكية، المدرسة التي ظهرت في الاتحاد السوفييتي سابقا وحذا حذوها كتّاب كثيرون من الوطن العربي، ومن العالم برمته. ما يعني أنه ظل ملتزما بقضايا اجتماعية، وبمحيطه الخارجي الذي كان في مرحلة انتقالية، على شاكلة ما يمكن العثور عليه في "الأم" لمكسيم غوركي، وفي بعض كتابات نجيب محفوظ، وغيرهما. لكن ذلك لا يعني أبدا تأثره المباشر بالمنجز الوافد إلينا، أو ذوبانه في الكتابة الغيرية، موضوعا ورؤية. لقد كان يعي جيدا مشكلة النقل وتأثيراته السلبية بالنظر إلى ثقافته، لذا لجأ إلى توطين الرؤية والتقنية والمعرفة والسرد معا، ما جعل رواياته مستقلة عن غيرها لأنها معالجة واعية للمتغيرات الاجتماعية والسياسية في الجزائر في فترات مختلفة، وبروح جزائرية لها مسوّغاتها الفنية والجمالية.القصة القصيرة أيضا ظلت ملتزمة بقضايا أيديولوجية وسياسية، سواء تلك التي كتبها في تونس، أو تلك التي كتبها في الجزائر بداية من مرحلة الستينيات. ربما مثلت مجموعته الأخيرة الموسومة "ذكريات وجراح الحرية" (التي تكفل بجمعها وطبعها الأديب جيلالي خلاص مشكورا) خروجا عن النموذج، وتمردا على الأشكال التي عرف بها الكاتب طوال تجربته القصصية "الكاتب وقصص أخرى"، "الأشعة السبعة"، "ظلال جزائرية" (التي قمت بمراجعتها والتقديم لها في طبعتها الثانية)، وعلى نوعية الخاتمة التي انحرفت جذريا عن سابقاتها. هذه المجموعة كتبت في سياق مختلف، هناك من جهة التراجعات التي حصلت في البلد، ومن جهة ثانية وضعه الصحي الذي كانت له تأثيراته، وهناك ما ارتبط بالجانب النفسي الذي قد يكون ذا علاقة ببعض الخيبة السياسية والحياتية، كما أشار إلى ذلك بعض المقربين منه.
أعتبر هذا الكاتب مدرسة حقيقية استفادت منها التجارب اللاحقة، أشير إلى كتّاب السبعينيات والثمانينيات، وكتّاب التسعينيات إلى حدّ ما، خاصة ما تعلق بالقصة والرواية، ذلك أن التمثيليات الإذاعية ظلت مغمورة ومهمشة، ولم تصل إلى الجامعة ووسائل الإعلام والدراسات الأكاديمية لأسباب مجهولة، وقد يكون ارتباطها بالإذاعة، وبالجانب الشفهي، من أهم الأسباب التي أدت إلى بقائها منحسرة، دون أن تنتشر في الأوساط الأدبية.
كل المجد لروح هذا المبدع الذي مثل البلد بنصوصه وترجماته، على أمل أن يكون هناك جيل آخر يتحلى بأخلاقه وجهده وتواضعه، وهو لا بدّ آت.
محمد الأمين بحري باحث و ناقد أكاديمي
معنى الوصول إلى رواية الأصول
في التاريخ الأدبي هناك روايات بائدة، وروايات عابرة وروايات خالدة. والرواية الخالدة لدى كلّ أمة هي رواية الأصول التي مهدت مسالك السرد لأجيال الكتاب اللاحقة. وكفى به خلوداً، هذا ما لاح بخاطري وأنا أتابع تسجيلاً لمداخلة الروائي محمد ديب، تضمنت شهادته في حق الروائي عبد الحميد بن هدوقة، حين قال صاحب "الدار الكبيرة" عن صاحب "ريح الجنوب": "إنّ أعمال بن هدوقة تبلغ من العظمة ما يجعلها تخترق المظاهر، وحينما نكون أمام بن هدوقة فسنكون حتماً خارج المظاهر، فلو قيض لنا أن نلخص أعماله تحت عنوان واحد لقلنا إنّها السخاء النابع من القلب.. من حب الآخرين..".
لا شك أنّ كلمات محمد ديب هذه هي كلمات عاطفية لا تخلو من تدليل على ذلك العمق الفني في سرد بن هدوقة، ويمكننا إيجاز هذا السخاء (بتعبير محمد ديب) في ثلاثة روافد كبرى اختطها مؤسس الرواية العربية الجزائرية؛ فأول رافد هو التراث الجزائري وأنساقه الثقافية، حيث يمكن أن نضع لأعمال بن هدوقة مسرداً مجدولاً للأنساق الثقافية فقط من خلال ثلاث أعمال: الأول هو كتاب "أمثال جزائرية" وهو كتاب تجميعي يشكل إلى جانب كتاب "محمد بن شنب": "أمثال الجزائر والمغرب" موسوعة متكاملة لأمثالنا العامية، والعملان الآخران هما: روايتا "ريح الجنوب" و"الجازية والدراويش" اللتان تزخران بالنماذج العليا للتأصيلية لعديد من مظاهر الثقافة الجزائرية بداية من عادات المرأة الريفية في الرواية الأولى وانتهاءً بالطقوس الصوفية والدينية في الرواية الثانية. أما الرافد الثاني فهو الرؤية الإيديولوجية للمجتمع والتاريخ السياسي، ويمكن اعتبار رواية "الجازية والدراويش" بداية حقيقية للرؤية الأيديولوجية ونقدها للواقعين الاجتماعي والسياسي. لتستمر هذه الرؤية في تنامِ مطرد حتى رواية "غداً يوم جديد"، حيث منح الروائي مهمة نقد الراهن للذاكرة التاريخية (للبطلة مسعودة) لتتكفل ببلورة النموذج الثائر في التاريخ المعاصر. والرافد الثالث، هو النزعة الإستشرافية الطاغية على أعمال بن هدوقة، التي تطرق أبواب المستقبل بقوة في رواية "غداً يوم جديد"، لتستمر حتى رواية "بان الصبح"، التي يخيل للقارئ فيها أن نفيسة "بطلة ريح الجنوب" المهزومة قد انتصرت على ثقافة التزمت والقهر وتحررت بشكل صدامي في شخصية "دليلة". التي استشرف الروائي من خلالها المشاكل المستقبلية للشعب الجزائري المرتبطة بتحرير المرأة ومآزق وجودها في ظروف عولمية غير مسبوقة.
ولعل الميزة الأبرز في نصوص بن هدوقة هي تحكمه المكين في تقنيات السرد وثقافته، وترتيب الصور وتحريك المشاهد، وبث رؤيته للأشياء والعالم، على منوال ما نقرأه في عيون الأدب العالمي.
وعلى مسار الأمم المحتفية بمؤسسي آدابها وفنونها، فإنّنا إذ نختص الأديب بن هدوقة بهذه الشهادة، فلا بدّ من التنبيه إلى ضرورة تقدير حجم التحدي الفني والأخلاقي والوجودي في الثقافة الذي واجهه المؤسسون الأوائل في اجتراحهم لمسارات غير مسبوقة، واختطاطهم لمعالم السرد الجزائري الحالي الذي يسير ركب المبدعين من بعدهم في ركابه، حتى وإن أنكر البعض تلك الخدمة الجليلة جهلاً بجهود المؤسسين أو تجاهلاً حقيقاً بفعل من ينكر أصوله.
وفي الجهة المقابلة لو تمعنا في موقف بعض المنافحين عن بن هدوقة والمنادين بإدراج نصوصه في المنظومة التعليمية الأساسية، لوجدنا بأنّه وباستثناء نصه الأول "ريح الجنوب"، فإنّ بقية رواياته تتطلب مستويات ذهنية ومفهومية أعمق وأبعد في الفكر والثقافة الإنسانيين من منوال التفكير لدى التلميذ في مراحل التعليم الأساسي، وهي مستويات فكرية أجدر بمستويات فكرية وثقافية أعلى يمكن أن يستوعي فيها القارئ تلك الخطابات الرمزية المشبعة بزخم الثقافة الإنسانية التي تطفح بها تلك النصوص سواء فيما اتصل بخزانتها الثقافية الموسوعية، أو بالبعد الإيديولوجي والمنظورات الفكرية والفلسفية المبثوثة في كلّ صورة ومشهد ورمز في نصوص بن هدوقة التي لا يمكن الحديث عن السرد الجزائري من دون حضورها المرجعي البليغ.
مخلوف عامر كاتب و ناقد و أكاديمي
الأديب و الإنسان
بداية معرفتي بالأديب الكبير "عبد الحميد بن هدوقة" كانت عبر "الأشعة السبعة". حيث وقفت فيها على لون جديد من الكتابة السردية، ولمست روحاً وطنية تسري بين الحروف. ثم لمَّا كتب "ريح الجنوب"، ظهر انحيازه للفقراء عامة، وخاصة لامرأة جزائرية يريدها أنْ تنفض عنها غبار الأمية والجهل لتكون صورة جميلة لوطن لا يتنكَّر للشهداء ويرقى إلى مصاف الأمم المتحضِّرة. فهو الذي عاش فترة حالكة من ليْل الاستعمار البغيض، وحيث شاهد بكاء الأيامى وسمع صراخ اليتامى وعرف شهداء كانوا يمدُّون صدورهم للنار وهم في عز الشباب. لقد قضى حياته شغوفاً بالأدب غيوراً على الوطن. فحتى عندما كتب "الجازية والدراويش"، كان يدرك بوعي صاف أن البلد يتنازعه مشروعان: أحدهما يجرُّه إلى الخلف وآخر يطمح إلى صياغة جديدة تتناغم وتطوُّرات العصر. وبما تقتضيه الصياغة الأدبية من ضرورة البحث عن جماليات النص الأدبي. لذلك ظل مسكوناً بأدبية النص، يحاول من عمل لآخر أنْ يُلبس نصَّه ثوباً جديداً مصوغاً في لغة سلسة ميسورة، يسعى لإمتاع القارئ وليشدُّه منذ الصفحات الأولى. ولم تقف المناصب التي تولاَّها حاجزاً بينه وبين الكتابة، فاستمرَّ وفيّاً لصلته بالقارئ. وبالرغم من أنه كان يكتب في زمن الصراع بين القطبيْن الرأسمالي والاشتراكي، وهيْمنة مفهوم الالتزام، إلا أنه من القلائل الذين تفطَّنوا إلى تقدير خصوصية الأدب فحرص على ألا يتصدَّر الواجهةَ خطابٌ سياسي/إيديولوجي فج، يضحِّي بالشكل في سبيل المضمون، وإنْ لم يغِبْ في أدبه هذا الخطاب ولا البُعد الاجتماعي.
كما كان يؤمن بعلاقة الخاص بالعام، وأنه لا يمكن للمرء أنْ يكون إنسانياً إذا هو لم يكن محلِّياً في آن. ففي أدبه رائحة التربة الجزائرية، وفيما يخطُّ قلمُه نشتمُّ رائحة الصلصال والسمق، لأنه من أولئكم الذين تشبَّعوا بالتراث العربي الإسلامي والتراث الشعبي وزاوجوا بيْن ذلك كله وبين ما جاد به العصر من فكر ونظر.
ثم إنه الأديب الذي ظلَّ متشبِّثاً بأمل لا يفارقه، يريد أن يرى وطنه وقد طوى صفحة الأمس لما فيها من ظلم وقهر، فنقرأ تفاؤله -أحياناً- من وحي العنوان كما في: "نهاية الأمس" و"بان الصبح" و"غداً يوم جديد". رضع "ابن هدوقة" العربية من محيطه ثم أتقنها في الزيتونة العريقة وعرف الأمازيغية والفرنسية، فنظم الشعر وألَّف في القصة القصيرة وكتب للأطفال وترجم، ثم انصرف للرواية فاتحاً عهداً جديداً للأدب المكتوب بالعربية في الجزائر وحاز مكانة مرموقة داخل الوطن وخارجه. وما كان لـه ليحوزها لو لم يكن يجمع في شخصه بيْن القيم الأدبية والأخلاقية والإنسانية النبيلة. فهو الرجل الذي عرفناه مثقَّفاً كبيراً لا يدَّعي، وكاتباً مُمَيَّزاً لم تأسره النرجسية القاتلة، ولم يكن يحمل لأحد حقداً ولا حسداً، ولم يقحم نفسه يوماً فيما لا يليق.أعتقد أن أسلوبه المُميَّز في الكتابة قد حقَّق له مساحة واسعة من المقروئية، وأثبت للقارئ أنَّ اللغة العربية بإمكانها أن تعانق أحدث الأفكار والنظريات، حين يجيدها الكاتب بلا تصنُّع. فاستطاع –بذلك- أنْ يقدم إضافة نوعية للأدب الجزائري من شأنها أنْ تخلِّصه من عقلية الاستخفاف ووصْمه بالدونية. علماً بأن عُمْر التجربة الأدبية في بلادنا قصير بالقياس إلى غيرها.وإني، لستُ متأكداً من أن الجيل اللاحق من الكُتَّاب قد خرجوا من معطف "أحمد رضا حوحو" فعلاً، لكنني على يقين من أن "ابن هدوقة" كان له أثرٌ بالغ فيمن أحاطوا به ومَنْ قرأوه. وسيبقى أدبه صفحة مشرقة في تاريخ الأدب الجزائري، ومرجعاً للباحثين في أوضاع الفترة التي عاشها إنْ في السياسة أو الاجتماع أو في تقنيات السرد وأجواء التخييل. فهو أديب ليس ككلّ الأدباء.
محمد بن زيان كاتب و ناقد
الأثر ومفاتيح القراءة
لا يمكن التعاطي مع الأثر الذي تركه عبد الحميد بن هدوقة بدون استيعاب سياق إبداعه وبدون تبيّن مرجعية وخيارات الكاتب جماليا وفكريا، ومن العناصر المفتاحية لقراءة التجربة أن بن هدوقة برز في سياق التأسيس وهو ما يعتبر مبدئيا عنصرا أساسيا في قراءة منجزه، فبن هدوقة ووطار مهدا لمن سيأتي بعدهما من كُتّاب القصة والرواية باللغة العربية في الجزائر، وبالتالي فهما مرجعية لا يمكن تجاهلها ولا التنكر لها.أيضا حكم القدر أن يقترن بروز بن هدوقة بسياق مواجهة ثورية مع الاستعمار ثم أحلام وتناقضات الانتقال من مرحلة حركة التحرر الوطني إلى مرحلة بناء الدولة الوطنية، وكان للسياق حضوره في النص، من ثورة التحرير في بداية تجربة الكاتب إلى مواجهة الانزلاق الذي عاشته البلاد في أواخر مسار التجربة.كما أنّ مرجعية الكاتب تجسدت في ثقافته المزدوجة، فهو متفتح على الإبداعات العالمية. ومرجعيته أيضا مستوعبة للتراث الشعبي، استيعابا دفعه إلى نشر كِتاب عن بعض ما يتصل بذلك التراث. وهذا الاستيعاب للمتعدد ثقافيا، أمدّه برصيد استثمره في ما أبدعه.وتعددت اهتمامات الكاتب، فجمع بين مجالات مختلفة من الصحافة والتمثيليات الإذاعية إلى البحث في التراث الشعبي مرورا بالترجمة. كما تنوع إبداعه بين القصة والرواية وكان له أثره الشعري أيضا في ما يسمى بقصيدة النثر. تعددية ترتبط بهواجس دفعت الكاتب إلى الترحال بين أنواع مختلفة، بحثا عن عبارة تستوعب الرؤية والرؤيا.. وقد عرف المنجز الروائي للكاتب تلبسا بالواقع، وتحولا فنيا برز خصوصا في روايته «الجازية والدراويش» التي كانت مثل «الحوات والقصر» للطاهر وطار، اتجاها نحو رمزية تُحرِر من وطأة الواقع وتتيح بالتجاوز تمثلا أكثر تكثيفا، ولعله مما ميّز الراحل بُعده عن الصخب وعن تجاذبات المنابر، وذلك بعض ما يرتبط بشخصيته. إنّ نصوص بن هدوقة يتجدد اكتشافها مع الزمن وذلك ما يبرز قيمتها كنصوص تأسست على رصيد من الثقافة والتجربة، وارتكزت على رؤيا ورؤية، فكانت قوتها التي أمدتها بفاعلية الامتداد .
محمد تحريشي كاتب و ناقد
نصوصه استطاعت أن تحقق أدبية من خلال قيّم جمالية و فنية
إنّ حضور النص الأدبي الجزائري في الكُتب المدرسية يطرح أكثر من إشكال إن على مستوى السياسة التربوية في الجزائر، وإن على مستوى مخيال المجتمع الجزائري، وإن على مستوى المرجع الفني والجمالي للكتابة الإبداعية في الجزائر. ذلك أن اختيار نصوص دون غيرها من النصوص المنشورة هو نوع من الاعتراف بأدبية هذه النصوص وتحقيقها لجمالية تجعلها نماذج للكتابة الأدبية في الجزائر. إن مبدأ جزأرة النصوص الأدبية في الكُتب المدرسية مطلب وغاية وهدف للارتقاء بهذه النصوص إلى المستوى العالمي والإعلان عن أدب الجزائر والاعتراف به، وفي الوقت ذاته لا يعني الانغلاق على نصوص قد لا نتفق على جودتها من دون استبعاد شوفينية ما ونرجسية غير مبررة.
لعلّ عبد الحميد بن هدوقة يشكل مرجعا مهما للكتابة الروائية في الجزائر استطاعت نصوصه أن تحقق أدبية من خلال قيم جمالية وفنية، وباختيار لغة وسطى قريبة من تلك اللغة الموظفة عند الشباب في المؤسسات التربوية والجامعية، كما تشكل روايات الرجل مرجعا جماليا وفنيا مميزا ومهما واستطاعت مواكبة تطور المجتمع الجزائري في مسيرته التنموية، وتتبع مختلف التطورات لهذا المجتمع منذ الاستقلال إلى التسعينات من القرن الماضي، وإذا كانت رائعته «ريح الجنوب» تجد طريقها إلى السينما وتحقق انتشارا واسعا، فإنّ النصوص الأخرى شاركت في رسم معالم كتابة سردية جزائرية مؤهلة أن تجد طريقها إلى الكتب المدرسية، ولكن اختيار النصوص يخضع لمعايير بيداغوجية تقوم على الانتقاء والاختيار مما هو موجود، وكذا يعتمد على حيز محدد سلفا لا يمكن تجاوزه مما يسبب تزاحما لكثرة النصوص المبدعة، ثم قد تتدخل بعض الأهواء في اختيار نص دون نص آخر كذا فإنّ للتوجه الإيديولوجي والجمالي والفكري دورا في هذا الاختيار مع استبعاد بعض النوايا الخبيثة في حضور نصوص في الكتب المدرسية وغياب أخرى من دون مزايدة أو تطاول أو ظلم أو تظالم.