محمد الطيب طهوري
وضعنا جثته في القبر.. رمينا التراب فوقها باكين، وعدنا..
زاروه.. ألقوا على يمينه بدفتر سيئاته.. دفتر حسناته كان على اليسار..
سنة واحدة بالتمام والكمال تبقاها هنا، ثم تعود إلى دنياك، قالوا له..
نظر إلى دفتر سيئاته.. كان صغيرا جدا.. دفتر حسناته كان ضخما..
قال لنفسه: سيئاتي سأمحوها في دنياي الجديدة.. ماذا أفعل بحسناتي؟..
فكر.. لم يطل تفكيره كثيرا.. وجدتها، قال: سأبيع حسناتي..
***
كل ميت جديد يعرض عليه بضاعته.. يغريه بها..
يقول الميت: أشتري.. لكن، كيف أدفع الثمن يا ترى؟..
يجيبه: زر أهلك في المنام.. مرهم بوضع المبلغ في قبرك.. في تربته..
يزور الميت أهله.. ويسلمه مبلغ ما اشتراه من حسنات
***
انتهت السنة.. أخبروه بوقت عودته..
انتظرَ.. ما إن حل الميت الجديد حتى كان في قبره.. جثته ارتدى.. دق بقوة ..
قالوا: ما يزال على قيد الحياة.. نبشوا القبر وأخرجوه..
ثيابا لهم ألبسوه..
وعدهم: بعد يومين أو ثلاثة أيام أرجعها إليكم..
غادر المقبرة مودعا إياهم ..
لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، تركهم يرددون
***
فتحنا الباب..
احتضننا واحدا واحدا.. ذكر اسم كلّ واحد منا وهو يحضنه: ابني فلان.. ابني فلان..
يبدو أنّكم لم تعرفوني، قال لنا..
لم نرك من قبل أبدا أبدا.. من تكون؟
أبوكم، أجاب..
أبونا؟ تساءلنا مندهشين..
أجبنا: أبونا مات منذ سنة يا رجل..
أقسمَ: أبوكم أنا والله..
ضحكنا.. أحدنا قال: مجنون أنت.. من مات لا يعود..
لكنّني عدت، قال..
تحدث كثيرا.. ذكر الكثير مما هو من خصوصياتنا في علاقتنا
به.. ذكر لأمنا الكثير مما هو من خصوصيات علاقتها به..
وضع الكيس الكبير على الأرض.. فتحه.. أموالا غزيرة رأينا..
هي لكم، قال.. هي أثمان ما بعته من حسنات في قبري..
نعم، المال أبونا فعلا.. أنت لا، قال أصغرنا..
أقسم مرّة أخرى وبكى..
واصل يحكي.. عن صغرنا حكى.. عن كبرنا حكى.. عن أكلنا وشربنا.. عما
نحب ونكره.. عن كلّ شيء، عن كلّ شيء.. ذكرنا بالكثير مما كنا نسيناه..
ما تحكيه يقول بأنّك أبونا فعلا.. جسدك يقول: لا..
ضحك.. نعم، هذا ليس جسدي.. لقد لبسته البارحة فقط..
جسدي أكله الدود والتراب.. هذا جسد غيري، لكنّه صار لي..
متعجبين حائرين ذاهلين كنا: كيف يحدث هذا؟.. كيف؟..
***
انهض، قالت زوجتي..
نظرتُ حولي: أين أبي؟ سألتها..
حملقت فيَ طويلا..
يبدو أنّك قد جننت، قالت..
مذ تقاعدت صرت تخرِّف كثيرا كثيرا، أضافت..
تساءلت صامتا: ماذا لو كان الأمر حقيقة؟.. ماذا كنا سنفعل يا ترى؟.. ماذا كنا سنفعل؟..
أردفت: ربّما عاد فعلا.. ربّما عاد.. ربّما..
أغمضت عينيّ وعدت إلى النوم من جديد.. و..عاد أبي....
أنت أبونا، صدقناك.. كيف سيصدقك الناس؟ سألته..
خاصة وقد صرت أصغر منا، أضاف أوسطنا..
سأل أصغرنا: وماذا تفعل بالوثائق التي أنت ميت فيها؟
هذه مهمتكم، أجاب.. يمكنكم إعادتي حيا فيها.. تعرفون ماذا تفعلون، أكمل..
نرشو؟.. تريد منا أن نرشوَ؟ واجهته..
ليس أمامنا سوى ذلك، أجاب.. ولا أعتقد أنّنا سنضر بأحد ما، واصل..
ضحك أصغرنا: أنت أصغر من أمنا، وأشار إليها، فكيف تكون زوجا لها؟..
بْعيد الشرْ.. برَّه وبْعيد، بره وبعيد، صاحت غاضبة
أمنا، وحركت يديها كمن يبعد عنه شيئا ما..
ماذا سيقول الناس عنا؟..
أجبت: سيقولون بأنّهم زوجوها لشخص هو أصغر منهم ليستولوا
على ماله.. سيشكُّون ويختلقون أمورا أخرى تسيء لها ولنا..
وماذا أفعل مع نصف منحة تقاعدك التي كنت أستلمها طوال السنة؟ سألت أمنا..
سكت.. طويلا سكت..
نظر إلينا عميقا.. عيناه كانتا تذرفان دموعا غزيرة غزيرة..
سأغادر، قال..
إلى أين؟ سألناه بفم واحد..
لا أدري.. لا أدري، أجاب ..
رفعت الغطاء عن وجهي: يبدو أنّك ما زلت تهذي.. نوض، نوض.. راح الحال، نوض..
نهضتُ..
كان الحال يجري.. وكنت أجري خلفهُ.