لا يعيشُ التأمل الفلسفي خارج الحدث والتاريخ؛ وربما أمكننا أن نقول إنه يقتاتُ على الحدث والإنجازات المعرفية المختلفة التي تدعوه إلى مُراجعة أسُسه ومُسلماته كما يُخبرنا بذلك تاريخ الفكر الفلسفي عبر تحولاته وانعطافاته الكبرى. ورغم هذا نجدُ الفكر الفلسفيَّ – عبر عصوره المختلفة – يمثل بحثا محموما عن اللاتاريخي أو المعنى الأبديّ المُسترخي كمومياء في سرير المُطلق. هذا يعني أنَّ الفكرَ يجتهدُ، دوما، في استيعاب المعنى الذي يتجاوز التاريخية تطلعا إلى دلالاتٍ تفلتُ من أسر العابر والزائل الذي ظل يُعتبرُ حجابا أمام الحقيقة منذ أيام أفلاطون على الأقل.
نمثل الانغلاق الهوياتي إحدى علامات فشل الحلم الإنسانوي الكبير
ولكن «أن يظل الفكرُ لصيقا بالحاضر» من أجل إنجاز «أنطولوجيا الحاضر» قد يكونُ هذا الأمرُ، اليوم، أكثرَ المهام إلحاحا بعيدًا عن أيّ ادعاءٍ آخر كما أشار إلى ذلك ميشيل فوكو يوما ما. فحين ينتصبُ الحاضرُ كسؤال ناتئ وتتراكمُ القراءاتُ والقراءاتُ المضادة ويحتدمُ «صراعُ التأويلات» يكون لزاما علينا أن نمارسَ بعض فضائل التحديق في اللحظة الحاضرة على المستويين المحلي والكونيّ في آن. ولا نجدُ كبيرَ عناءٍ، هنا، في ملاحظة أنَّ من أبرز الظواهر العولمية الأكثر مشهدية على مستوى العالم انفجارُ العنف وانكماش العقل النقدي وتراجعه أمام تنامي النزوع إلى الانسحاب من مغامرة احتضان العالم واكتناه المعنى بعيدًا عن نوستالجيا البحث عن البدايات السعيدة في بيت الطوطم الثقافي والديني. قد يتطلبُ منا هذا الأمرُ تأملا نقديا لا ينجرفُ وراء ما يولده من مُحاولاتٍ لإرجاع التاريخ إلى عهود الجُزر المتنابذة في أوقيانوس العالم. وهل نحتاجُ إلى التدليل على ذلك ونحنُ نشهدُ نكسة اليوتوبيات الخلاصية جميعا وميل أوليس المُعاصر إلى العودة إلى بيت بينيلوب / الأصل بدل البحث عن بريق الأيام الآتية و «الصباحات التي تغني»؟ هل نحنُ في حاجةٍ إلى التأكيد على هوس الهوية والاحتماء من الكونية ووُعود الحداثة المُتآكلة عبر نبذ الآخر والتأكيد على الحدود مع المُختلف؟
---------------------
إنَّ ظاهرة الانغلاق الهوياتي تمثل، في رأينا، إحدى أبرز مظاهر اللحظة التاريخية التي نعيشُ، وإحدى علامات فشل الحلم الإنسانوي الكبير الذي بشَّرت به الإيديولوجيات المختلفة وهي تجعل من التاريخ مطهرًا يقودُ إلى الخلاص الدنيوي. نستطيعُ أن نلاحظ كيف أنَّ الهوية أصبحت تمثل طوقَ النجاة للذات الخائبة، فردية كانت أو جماعية، وهذا ما يجعلنا نطرحُ الأسئلة حول هذه الظاهرة التي تميّز مرحلتنا المُلتهبة بصراعاتها وعنفها ومخاوفها. من هنا اعتقادُنا أنَّ الشيءَ البادي للعيان هو ارتباط الحديث عن الهوية بأزمةٍ مع العالم الذي لم يعُد يَعِدُ بالكثير وغرق، من جديدٍ، في السديم. يرتبط الحديثُ عن الهوية عموما بالبحث عن بيتٍ بديل للتاريخ وقد أصبح منفى وكفَّ عن أن يكونَ وعدًا بالتقدم والانفتاح وغزو المُستقبل. هذا ما يُفسّرُ ارتباط النزوع الهوياتي بالأصوليات المُختلفة والتطرف والعنف. كأنَّ هاجس الهوية يُضمرُ نوستالجيا لفراديسَ مفقودةٍ يحن إليها البشرُ كلما أضناهم السقوط غير المُوفَّق في التاريخ.
يرتبط الحديثُ عن الهوية عموما بالبحث عن بيتٍ بديل للتاريخ وقد أصبح منفى
من هنا نجدُ أنفسنا نركز، دائما، على ضرورة عدم التسرّع في تناول هذه الظواهر العولمية باعتبارها نتاجا لثقافاتٍ بعينها أو لدين بعينه. ليس ثمة ثقافة واحدة في العالم يمكنها أن تظل بمنأى عن السقوط في التطرف والأصولية والعنصرية بصورةٍ دائمة وأبدية. هذا أمرٌ مؤكد. كل ثقافةٍ تقومُ على هوية ترسمُ، جيّدا، الحدودَ بين الذات والآخر وأنماط التراتب بينهما. ويبقى على التاريخ، بالطبع، أن يُطلقَ مارد هذا التمايز من خلال الصراع الذي يلبسُ أقنعة مختلفة تبرّرُ الهيمنة على الآخر المُختلف أو سحقه حسب الحال. والتاريخُ يسندُ جيدا ما نذهبُ إليه. إنَّ للسقوط في الانكماش الهوياتي ونبذ الآخر والنزعة الطهرانية الشوفينية أسبابا تتجاوز – بكل تأكيد – ما يركز عليه أنصارُ النزعة الثقافوية التي لا تنظر إلا إلى الجزء الظاهر من الجبل الجليدي انطلاقا من اعتبار التاريخ نتاجا للنص الدينيّ المُقدَّس مثلا أو لأسبابٍ أولى مُتعالية تتجاوز السياق التاريخي المُعقد لولادة أشكال العنف والتطرف في تمظهراتها الحالية. هذا يعني أنَّ هناك مُشكلة تتعلقُ بالتأويل والفهم لدى الكثير من المُتابعين للشأن المُتعلق بالإرهاب مثلا. خذ مثلا عن ذلك بعض مفكري اليمين الفرنسي الحالي وهم يغدقون على الناس بـ «تحليلاتهم» ويزرعون الخوف من الآخر ومن الإسلام بصورةٍ تنم عن جهل كبير بما يحدث؛ وتُفصحُ عن هرولةٍ عجيبة نحو البحث عن الحدود الثقافية والحضارية الصافية على عكس ما ظلت تُبشرُ به الأنوار الكونية في عهود عنفوانها يوم كانت تفتحُ العالم وتخضعه بالاستعمار. خذ – إن شئت أيضا – مثال الأستاذ أدونيس في مُؤلفه الأخير»الإسلامُ والعنف» (منشورات لوسوي - باريس، 2015) حيث يحاول أن يُبين أنَّ الرؤية الدينية الإسلامية تشبه «صندوق باندورا» الذي خرجت منه كل شرور العالم. هذه النظرة الثقافوية غير التاريخية نختلفُ معها قليلا لأننا لا نستطيعُ أن نهمل السياقات المعقدة لمنشأ الظواهر المختلفة وفي طليعتها انفجارُ العنف. وفي اعتقادنا لن تتحرَّرَ نارُ العنف الكامنة ما لم يتم ضغط اللحظة التاريخية على الزناد.
-----------------
الأصولية عندنا، في عمومها، لا تخرجُ عن الدين. فليس لدينا في عالمنا العربيّ أصولياتٌ أخرى قوية وفاعلة أو ذات أثر يُعتبر. ولكنَّ الأصولية الدينية نفسها ليست «عودة للدين» في صفائه الأول كما يزعمُ من يقول بذلك وإنما هي مُؤشرٌ بالغ الدلالة على انتصار الأبدية باعتبارها ملاذا من خيبة التاريخ وفشل مُجتمعاتنا في الانتقال إلى التحديث الإيجابي الذي يقطعُ بصورةٍ هادئة مع البنية التقليدية الرَّاسخة للمُجتمع والفكر. إنَّ هذه الخيبات المتكررة والفشل في مجابهة التحديات المطروحة على مجتمعاتنا بوَّأت الماضي مكانا عليا ومنحت الهوية بريقا غير معهود؛ كما عززت من مناعة المجتمع الأبوي الذكوري المُنتقم من حداثةٍ عرجاء لم تفلح في تفكيك بنية العلاقات القديمة القائمة على الإخضاع وعلى طمس الفرد ومجمل فاعلياته الإبداعية. ولكنَّ المشكلة لا تكمن هنا فحسب وإنما، تحديدًا، في تجرجر النظام السياسيّ العربيّ وراء تفاقم الأصولية الدينية من خلال تبني خطابها ومغازلتها واللعب على ميدانها بحثا عن شرعية مُتآكلة نخرتها التجاربُ التنموية والتحديثية الفاشلة كما أسلفنا. هذا ما جعل من الدينيّ والسياسيّ تنينا برأسين يتربصُ – منذ مدةٍ - بالعربي المُسافر إلى إلدورادو الحرية والكرامة والعدالة والمواطنة الكاملة كما هو معروف.
بل نرى أنفسنا نذهبُ أبعدَ من ذلك في النظر إلى هذه الظاهرة: أعني ظاهرة الاستبداد العربي. هي في اعتقادنا ليست نتاجا للدين بالمعنى الحصري ولا لأهواء المُستبدين كما يُشاع، وإنما تجدُ جذورها في البنية العامة للمُجتمع العربي الباحث دوما عن المُخلص. لقد لاحظنا أنَّ المُستبدَ العربيَّ يحظى بشرعية ترتبط في العمق بالزمن الثقافيّ الذي لم يتخلص، بعدُ، من الأحلام الخلاصية المرتبطة بزمن البطولات الأسطوري الذي يصنعُ أبهة الحياة وينتشلها من التفاهة والانسحاق واللامعنى؛ كما يرتبط بالزمن السوسيولوجي الأبوي / الذكوري لا بالزمن الديمقراطي الذي انبثقت معه، لاحقا، النزعاتُ الفردية الحديثة. إنَّ السحر الذي مارسته الأحادية والاستبدادُ العربي مع نخبنا السياسية منذ منتصف القرن العشرين يكشفُ، في العمق، عن تعثر ميلاد الفرد العربي الحر سوسيولوجيا والكوجيتو العربي معرفيا وثقافيا لصالح دوام الأب العلماني الجديد الذي خلف الأبَ الرمزي التقليدي المُتواري وراء الصخب الإيديولوجي. وهكذا فالأمرُ واحدٌ أركيولوجيا: دوام الوعي الخلاصي التقليدي وشروط امتداد شرعية الوصاية.
ليس هناك ثقافة واحدة في العالم بمنأى عن السقوط في التطرف والاصولية والعنصرية
ولنا، هنا، في الأحداث القريبة التي هزت مُجتمعاتنا خير دليل. لقد انتكس «الربيع العربي» ما في ذلك شك. ونعتقدُ أنَّ النتائج الكارثية أكبر دليل على عدم جاهزية المُجتمع العربي للثورة المحرّرة. لقد عاد العسكر والفاسدون والإسلاميون وتصدَّروا واجهة الأحداث. ودخلت بعض أقطار العالم العربي دوامة التجاذبات الإقليمية والمصالح والصّراعات الدولية على مناطق النفوذ والطاقة. ورغم أننا كنا من الذين هللوا بالصورة المفاجئة للانتفاضات العربية في تونس ومصر تحديدًا إلا أننا حذرنا من إمكان «عودة البرابرة» في مجتمعاتٍ قطعت رأس الملك قبل أن تُنتجَ فولتير والتنوير والثورة الثقافية التي تقلبُ منظومة القيم السَّائدة. من هنا دعوتنا إلى عدم التركيز على نقد المُستبد العربي فحسب وإنما، وبدرجةٍ أكبر، على المصنع الذي أنتجه: نعني بذلك المُجتمع العربي والثقافة الألفية السَّائدة. ورأينا أنه من الضروريّ أن نعقدَ المقارنة مع ما حدث تاريخيا في الضفة الأخرى من المُتوسط حيثُ تحدَّدت فلسفة الحكم، في الغرب الحديث، باعتباره أمرًا يقوم على الإرادة العامة والتعاقد الاجتماعيّ، وعلى فلسفة لحقوق الإنسان الطبيعية التي يجبُ صونها وعدمُ انتهاكها. هذا هو الجذر التاريخي والفلسفي لدساتير الغرب الذي قطع مع اللاهوت السياسيّ وهيمنة الكنيسة والصّراع الطائفي ودشن عهد العلمنة السياسية والحقوق المُتساوية والمُواطنة الكاملة لجميع أفراد الشعب. لقد استقلت السياسة عن البُعد العقدي وترسَّخت الحرية باعتبارها جوهر الكائن الإنساني، وهو ما أخذ أبعادًا أخرى في ما بعد، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا أيضا، مع حركات الاحتجاج الكبيرة التي مثلها الجناح الاشتراكي لتطور الحقوق في مجابهة انحرافات الليبرالية التاريخية. ولكنَّ الأمرَ الذي لاحظناه في عالمنا العربيّ - منذ قرنين تقريبا – هو تلك المُمانعة السوسيو- ثقافية لمُحاولات التغيير والانتقال إلى الحداثة الحقوقية والاجتماعية والسياسية. لقد ظل تاريخنا الباطني المرتكز على بنية المُجتمع العربي البطريركية / الذكورية في جوهرها سدّا منيعا أمام التجديد الاجتماعي والسياسي، وظل التغيير يُراوحُ مكانه داخل دائرة الفعل الثقافي والإبداعي دون أن يتجذر، هو الآخر، في بنية الوعي الثقافيّ العام. من هنا سيادة الاستبداد في الحياة العربية. وهو استبدادٌ لا يرجعُ في عمقه، على ما نرى، إلى أهواء المُستبد العربيّ فحسب وإنما – أيضا – إلى بنية الثقافة السائدة اجتماعيا في ارتباطها ببنيات سوسيولوجية قائمة على الإخضاع وبنية العلاقات الهرمية التي تعيقُ انبثاق الفرد. ونحنُ نعلمُ أنَّ «ثورات الربيع العربيّ» التي أزاحت المُستبد العربي لم تستطع – كما أشرنا إلى ذلك آنفا - أن تدشن عهدًا جديدًا كليا في مسائل الحقوق والحريات وقضايا وضع المرأة والدولة المدنية. فقد خرج ماردُ الأصولية من قمقمه مُجدَّدا وأصبح يُهدد – كعادته – كل مسعى إلى الديمقراطية الفعلية التي قام من أجلها التمرد الشبابيّ. ونحنُ نرى – انطلاقا من ذلك – أنَّ الدين السياسي عندنا مظهرٌ من مظاهر شهوة الهيمنة على مقادير المُجتمع وقد لبس عباءة المُقدَّس في مُواجهة خطر التغيير الذي تنشدُه الفئاتُ الأكثر تقدما في المُجتمع العربي وبخاصة الشباب.
----------------
من المعروف أنَّ لائحة الحُريات ضيقة في عالمنا العربي وإن كان هناك تفاوتٌ بين بلدٍ وآخر في هذه المسألة. ولكننا ما زلنا نلاحظ أنَّ بعض الحريات الأساسية التي ترسَّخت في الغرب ما زالت تُعتبَرُ «تابو» عندنا كحرية المعتقد وحرية التفكير والتعبير والحق في المعارضة. هذا ما يكشفُ عن بعض مآزقنا الثقافية التي لم نفصل فيها إلى اليوم في ظل غياب تفكير جدي في قضية العلمنة الإيجابية، وفي ظل إصرارنا على وضع دساتير تبدو حديثة في ظاهرها وإن كانت تخفي إرادة تأبيد الانقسام الطائفي في مُجتمعاتنا أو تكريس هيمنة الطائفة الغالبة. ولكنَّ هذا الأمر نفسه يكشفُ عن عجز فكرنا، إلى اليوم، عن تناول المُشكلات خارج مدار العقل الديني / الفقهي الذي لم يتجدَّد بصورة كافية منذ قرون. وربما أشار هذا إلى غياب التجديد في مرجعية عمل المُجتمع وبقائها أسيرة لثنائية العسكريّ والمُعمَّم، أو الاستبداد والماضوية.