محمد تحريشي/جامعة طاهري محمد- بشار
«قدّس الله سرّي» نص سردي ينضاف إلى تجربة الروائي محمد الأمين بن ربيع والذي صدر له من قبلُ «عطر الدهشة» و"بوح الوجع". إن الرواية الأخيرة نص ينطلق من الحادثة التاريخية ليرسم واقعا جديدا بتوظيف الخيال ويستثمر تقنيات سردية مكتسبة من التجارب بالسردية العربية، وتسعى إلى تأسيس خطاب روائي يجمع بين السحري والعجائبي والعرفاني سبيلا من سبل التجريب والتجديد والجدة.
إن رواية «قدّس الله سرّي» التي صدرت مؤخرا عن منشورات دار «الوطن اليوم»، تعود إلى العلاقة بين الجزائري والفرنسي خلال الفترة الاستعمارية من خلال زواج أدريان ونائل بطل الرواية بطريقة ترميزية مكشوفة من جهة وموحية من جهة أخرى. إن تنزيل صورة فرنسا في الجزائر إلى هذا المستوى من الترميز والإيحاء ما هو في حقيقة الأمر إلاّ محاكمة فنية، حيث يرى البطل نفسه بطلا مغوارا ونموذجا مثاليا لحوار حضاري يكون هو الحل لكل أزمات أوروبا الأخلاقية والاجتماعية. وفي الواقع هو نفسه لم يسلم من هذه العورات فكانت نهايته الخذلان والانهزام. واحتاج المبدع إلى فعل غير مبرر فنيا ليقطع هذه العلاقة بين شخصين غير سويين أو هكذا أرادهما لصورة أخرى لعلاقة الغرب بالشرق، لم تحضر شخصية ناصر الدين دينات إلا على سبيل الذكر ليس إلاّ «استغل فرصة انشغال أدريان مع دينيه وهي تعرض عليه مجموعة، مبديا رأيه فيها، وعارضا عليها أن تسمح له بأن يرسم بعضها، بخاصة تلك التي التقطتها في رحلتها لرؤية الأسود...» الرواية: 170.
يمثل ناصر الدين شخصية محملة بدلالات ومشحونة بإيحاءات كان ممكن توظيفها في تصوير مفهوم الخيانة والردة في الدين والمجتمع. تقوم الرواية على تحاور حضاري واجتماعي بين الديانات الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، واستطاع المبدع أن يختار بعض المواقف لتسهم في بنية النص الفنية والجمالية. تبدأ هذه المغامرة ابتداءً من عنوان الرواية «قدّس الله سري» الذي نهل من معجم لغوي من حقل ديني.
إن فاتحة الكِتاب جاءت لتضع هذا النص في سياق معرفي وإجرائي بمقولة ابن عربي: «كلّ بقاء يكون بعده فناء لا يعوّل عليه.... كلّ فناء لا يعطي بقاء لا يعوّل عليه» وهو مقتطف من رسالة الذي لا يعوّل عليه والتي جاءت على صيغ أحكام وعظات لإنسان خبر الحياة ومشاكلها.
على الرغم من أن الرماد هو في حد ذاته رمز للاحتراق من ذكرى مصاب جلل وحدث عظيم؛ إنه صوت أدريان الذي يدق في عالم النسيان.»... واصلتْ: -لم يعد بإمكاني العيش كالخنزيرة تحت سلطة ذلك الأحمق المقامر-..... -أعلم أني أشكّل لك الآن هاجسان ولكن ما عساي أفعل؟ قدري رماني إليك لا يمكنني الاختيار، يعجبني ذلك. كانت تتحدّث دون انقطاع منذ دخلنا إلى البيت، تسأل وتجيب بنفسها، لم تفسح لي المجال حتى لأقول لها أنّ القدر الذي رماها أمامي قد تنبأت لي به نانّا الضاوية يوما.. يبدو أنّ أهلك غير مسرورين بمقدمي...» الرواية ص7. هكذا تترابط الأحداث داخل هذا العمل الروائي بعلاقة غير متكافئة بين أدريان ونائل أساسها الهروب من إلى الهروب إلى وتنتهي من المغادرة من إلى الرحيل إلى.
ونحن لا نزعم أن هذه الرواية هي رواية عجائبية بالقدر الذي نقر بأنّها احتوت مشاهد عجائبية جعلتها تستفيد من جمالية تلك الأحداث التي تقع بين الواقع والخيال من حيث التحقق وإمكانية الوجود وكأنّها من باب الحدس أو التخاطر. كان على نائل نفسه المغادرة والرحيل رمزيا بإيحاء واضح وبتشييع من أهل قريته. «حملت على الأكتاف لأوضع وسط بستاننا من أجل صلاة الجنازة، اصطف الرجال ومن خلفهم النساء يرقبن الطقس المهيب، تقدم الإمام ورفع يديه وكبّر.... فقد كانوا يتابعون حركة الجسم الذي كان مسجى على اللّوح أمامهم، تفرقوا شيعًا، بعد أن تململت داخل الكفن...» الرواية ص 60.
عوّل المبدع على لغة تجمع بين عدة مستويات لغوية تنهل من مرجعية النص الديني لتتغذى من حمولته الدلالية والمعرفية فتستدعي كلّ تلك الإيحاءات المصاحبة للنص الموظف لما يسافر من مصدره لتستقر حيث أراد لها المبدع أن تكون في روايته؛ من ذلك قوله: «زليخة التي راودتني عن نفسي حين ولجتُ عتبة العشرين، كان الفرق ما بيننا عشر سنوات....» الرواية ص 52. إن استدعاء الآية القرآنية في سورة يوسف، قال تعالى ((وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) على سبيل التضمين من دون ذكر الآية الكريمة.
إن عنوان الرواية وفاتحة ابن عربي وبعض المواقف والمشاهد قد تدفعنا إلى تصنيف هذه الرواية ضمن الرواية العرفانية، وفي الوقت ذاته فإن علامات أخرى ومواقف ومشاهد تجعلها رواية تاريخية بامتياز أقرب إلى السيرة رواية.
نلتمس سببا فنيا وراء تناقص الصفحات في القسمين الأخيرين قياسا للقسمين الأولين في أن طبيعة العمل تقتضي مثل هذا الخروج لتجعل النص مفتوحا على قراءات محتملة عبر قدرة المتلقي على التخييل لهذا العمل وما يثيره فيه من تداعيات وصور فنية وجمالية. وقد اعتمد المؤلف على توظيف النصوص الملحقة في نصه هذا ومن ثم استفادت هذه الرواية من الشحنة الدلالية لهذه النصوص ومن حمولتها التاريخية.