ظهر الفن مع وجود الإنسان، جنباً إلى جنب مع ظهور الأديان، وارتبط النحت مع الكنيسة الكاثوليكية، والنحت بصفة خاصة قد أعطى لجسد الإنسان اهتماما كبيرا، لم نعرف شكل عمالقة الفكر اليوناني إلا من خلال النحت، وإلى اليوم، نحتفظ في أذهاننا بصورة أفلاطون وأرسطو وهوميروس وغيرهم من خلال التماثيل التي جسدت لهم، في الوقت ذاته نجد التماثيل التي تصور الإنسان في عريه التام، يختلف هدف الأول عن هدف الثاني، ومع ذلك فكلاهما فن.
بيد أنّ منظر السيدة العذراء في لوحات الألماني «هانس مملينج» وهي تحمل ابنها بين ذراعيها تحضنه إلى صدرها أجمل للعين وأصفى للذهن من منظر سيدة عارية في لوحة «الغداء على العشب» التي رسمها الفرنسي مانيه، الأولى تربط المتلقي بعالم صافٍ طاهر يغمر النفس بالسعادة، ويربط الذهن بالمثال والمطلق فيخرج من عنده وقد أصبح أهدأ بالا و أوسع أفقا، أما الأخرى، فتحيل العين إلى المادة المحدودة في الزمان والمكان، ولا تحيل إلى أيّ معنى خارجي يمكن أن يزيد في إنسانية الإنسان. بماذا نخرج من رؤيتنا للتماثيل العارية مع أنها تبهرنا بدقة الصانع ومهارة الفنان غير إحالة إلى الغريزة التي نشترك فيها مع الحيوانات والبهائم. نحن نحتاج إلى ما يرتفع بالإنسان، لا إلى ما يهبط به إلى أن يتساوى مع الحيوان. ومع ذلك فلست مع إزالة هذه التماثيل من أمكنتها، مثلما قرأنا قبل فترة عندما أزال رئيس بلدية في تركيا تمثالا عاريا من وسط بلديته فتم خلعه من منصبه جزاء لذلك.
وهكذا فإنّ الإنسان إذا غلّب حكم الطين وانتصرت الجبلّة الحيوانية وقرن الإنسان ذاته الشريفة بالمادة الطبيعية فقد هبط بنفسه إلى سجن الضرورات وإلى غلظة الآلية وإلى نار الطبيعة التي يأكل بعضها بعضا... وتلك هاوية التعاسة والتمزق والشتات» كما رأى مصطفى محمود في كتابه»الروح والجسد»
وهذا ما قصده ابن سينا في عينيته الشهيرة عندما قال «هبطت إليك من المحل الأرفع/ورقاء ذات تعزّز وتمنّع» فقد كانت الروح تعيش أول أمرها مطلقة مجردة في السماوات العلى ثم كُتب عليها أن تهبط إلى هذا الدرك الوضيع الذي يمثله الجسد، والروح على عكس الجسد تأبى أن تظهر للحواس لأنها تعلو بنفسها عن هذا الدرك الخسيس ولكنها تتضح وتجلو لكل عاقل من الناس، على ما قرأ زكي نجيب محمود عينية ابن سينا.
لو نظرنا إلى الجسد لما صادق الناس إلا الباهرين جمالا ووسامة وأناقة، ولكان نصيب الذين لم يؤتوا حظا من ذلك إلا كنصيب قابض الريح من الريح.
وهو ذاته ما قاله عبد الكريم بكار عندما رأى أنّ راحة الأجسام وأناقتها تتطلب دائما الاستهلاك والاستحواذ على الأشياء، حيث يطلب البدن دائما الطعام والشراب والمأوى ، أما راحة الروح وثراؤها ورفاهيتها فقائمة على البذل والعطاء والتضحية والتطوع، وهكذا فرفاهية الأبدان تعني السحب من رصيد الحياة والأحياء على عكس رفاهية الروح التي تضيف هذه الحياة وهؤلاء الأحياء من خلال العطاء المجاني غير المشروط، كما ذكر في مقالته الشائقة «ثراء الروح».
من جهة ثانية فإنّ الفائدة من الدين «أيّا كان» مثل فائدة الفن، هي تطهير الإنسان من كلّ نوازع الشر والرغبة الآنية الزائلة والتوجه نحو الخير والجمال والحق، بأوسع السبل و أنجحها وأشرفها، لذلك جاءت الأديان، سواء قيل لنا أنها سقطت من السماء كالمطر، أو خرجت من الأرض ونبتت بين الحجر، ومهمة الفن تطهير النفس والعلو بالذائقة الفردية والعامة. هو ذا دور المتاحف والمسارح ودور السينما، إلى جانب ريادتهما في زيادة الوعي الإنساني.
وهكذا فإنّ دورهما واحد وهدفهما واحد، فالذي يخلق إلهه ويقيم دينه أو الذي يبدع لوحة أو ينشئ تمثالا، أو يكتب نصا، يرجو من ذلك الارتفاع بالنفس البشرية إلى أن تحلق إلى أقصى ما يمكنها التحليق، مبتعدة عن هوس المادة ولذة الجسد، فلا أبقى من الروح ولا أقصر من المادة أو الجسد.