تستوقفنا أمينة شيخ في مجموعتها «...وأشياء مملّة أخرى» بنقاط الحذف هذه في عنوان المجموعة المنشورة عن دار حبر سنة 2016 لكنها تتراجع عن حكمها، وقد نجحت فعلا في لفت نظرنا إلى الأشياء المملة «الأخرى» التي لم تكتب عنها.
إنّما لا يلفنا الشك من أنّها تطمح إلى شدّنا إلى تتبّع حبل سردها، بخاصةٍ بعد أن نفتح الصفحة الأولى من الكتاب لنقرأ شبه اِعتذارها بتوقيعين يجبّان ما كانت كشفته في العنوان؛ وقد كان أوّل التوقيعين لفولتير الذي يعتبر الملل «فخّ قول كلّ شيء»، وثانيهما لأمبروس بيرس، الذي يسمي المُمِّل شخصا لا يُحسن الإنصات. وتكون القاصة بذلك قد بدأت معنا كسر التوقعات التي من المحتمل أنّ العنوان قد أحدثها في داخلنا.
تنتشر مفردات الملل والضجر في براري المجموعة كأزهار تُوَشِّي وفاءها للسجّل اللّغويّ الذي اِختارته القاصة لمجموعتها إذ نجد المرادفات والعبارات، والأفعال التي تتمدّد بكسل الملل على طول المجموعة ذات القطع الصغير والمتكوّنة من 112 ص نحو: تجلس كعادتها في ص7، أشعر بالضجر، وراحت تروي لها ص25، وكذلك في قولها: «...في الأخير اِنتهيت إلى الرضا عن هذه الحياة» ص39، وصرت ألمح الرجل روتينيّا، فقط أنا أتجرّع ضجري في الشرفة ص44. كما ورد في قصة «غبار اِنتماء» ص57: «هذه لعبة ممّلة قانونها الأوّل إقراف البشر...»، وكذلك في ص84 «لكن اليوم بالذات يمرّ نصف قرن على زواجه من هذه الأنثى، لقد مرّ نصف قرن وهو ينام في سرير واحد مع امرأة واحدة». بل إنّها تُعنون القصة الخامسة بعنوان لا يُخفي الملل ولا يتنصّل منه «شرفة الضجر». يرافق كلّ هذا الأفعال الماضية الناقصة كان وأصبح، أفعال تجعلنا لكثرتها نتخيّل الراوي(ة) وهو يحتسي قهوة الملل لينقل إلينا تلك القصص التي لا تبتعد عن يومياتنا ومعيشنا.
إذًا بهذه الهيكلة التي تزعمها صاحبة رواية «أسفل الحب» ممّلة نغوص إلى عمق قصص المجموعة ومنها إلى أزقة الحياة الضيّقة حيث يتألم النّاس الذين اِختارتهم أيدي ملاحظتها بعناية، لتسلّمهم لشريحة مجهر قلمها الذي جعلهم: الضحايا الشرعيون لحياة البؤس وقد استبدلته عن قصد بمرادفة السأم كأنّها تقول: إنّ الحديث عن الألم موجع، ولا أحد لديه الوقت لمسايرة طول الكلام عنه، وكشفه بعد أن طويناه في ملفات بعيدة، فمن مازال يتذكّر أو لديه الوقت للإنصات لأنينه؟ وبهذه الحيلة تكشف لنا مخالب الرحيل والموت وما يخلّفان وراءهما من أحزان وفجائع تقلب الحياة كما في قصتي «شجرة شمع»، و»متتالية مكرورة عن الرحيل». وتحوّل قصص الخطف إلى تسلية غير مملة في قصة «شرفة الضجر» والتوسّل إلى تساؤلات عن العدالة والهوية كما في قصة «غبار اِنتماء».
وإلى الصراع الأبديّ بين القديم والجديد الذي تتناوله في أكثر من قصة مرة في عرس القرية التي قسّمتها إلى 1 و2 من خلال التناقض الذي تعيشه الطبيبة القادمة من أمريكا في معاملتها لاِبنتها واِبنها، إذ يهتّز مع هذه الاِبنة المتمسّكة بأصالتها خيط الملل الذي كانت القاصة سيّجت به مجموعتها (سنعرض بعد حين إلى أساليب أخرى كسرت به خط الرتابة والملل الذي كان علينا توقعهما) فالمفاجأة التي لا نتوقعها أنّ الاِبنة عكس الأم الهاربة من سلطة القبيلة وذكورها؛ فكلّها فضول لمعرفة أصولها بما أنّها تراها بعين الغريب البعيد على خلاف الأم التي لم تقطع علاقتها بجذورها برغم كلّ السنوات التي عاشتها بعيدا. وكأنّنا مدعوون إلى رؤية مغايرة لواقعنا وتفسير -لا أنثوي- لهذه الحياة التي في الغالب تكتب ضدّه النساء. وأمّا في قصة «حمار المريد» فيأخذ الصراع قناع صراع الأفكار الجديدة مع الاِستبداد، وتحكّم النظرة الاحادية في حياة الآخرين بتوسّط سلطة الدين وتنجح فيها الكاتبة بمزج السيرة الذاتية مع الموضوعيّ فالزاوية هي زاوية «الشيخ» وهو لقب أمينة والشخصيات هم الجد والأب لتضيق القصة إلى ما هو جِدُّ خاص وشخصيّ وتتوسع في الوقت نفسه إلى موضوع عام مازلنا لليوم لم نفصل فيه، ونتساءل مع هذه القصة لماذا لم تتخذ هي عنوان «جنيولوجيا»؟ الذي أخرّته الكاتبة لقصة تخوض في الصراعات التي تعيشها الإناث في مجتمع لا يعترف بإنجازاتهن ويحبسهن داخل النظرة الاِقصائيّة للعنوسة وأخطار سذاجة العواطف وبساطة التفكير في عصر التواصل الاِفتراضي الذي لم يخرج بالمجتمع بعيدا عن قصص الاغتصاب القديمة المملة المكرّرة...
كما تُحكم القاصة القبض على خيوط نسيجها لترسم لنا عبر الاِستدراكات المجسّدة في الروابط المنطقيّة والزمنيّة، تماما كما فعلت بنا مع العنوان والمقدمات شبه النصيّة، فأمينة شيخ لا تكتفي بالحكاية بل تعي أنّ الحكي قد يشوبه الملل والسأم من مواضيع مازال الأدب يطرقها برغم كلّ التغيّرات التي عرفتها الحياة، لكنه يحتاج إلى الأسلوب والتقنية التي يحاول الكتّاب منذ أن اِعترف زهير بأنّنا «لا نقول إلاّ معادا مكرّرا منحولا»، أن يسجلوا من خلالهما الفرق في درب التميّز.
فبواسطة أدوات اللّغة الصغيرة تخرجنا أمينة ممّا نحسبه توثيقا لمشكلة اِجتماعيّة لنتأمل هذه الأمثلة التي نقدمها نماذج عن اِمساكها بناصية الاِتساق ولا يمكن اِعتبارها بأيّ حال إحصاءً نحو ما تقدّم في الصفحة 10: «في منتصف عاصفته يتوقف، ثم إنّ المرأة التي تجلس قبالته ليست التي تحب»، وفي ص11 وفجأة تكتشف، كما تلجأ إلى النفي في قصة «حمار المريد» لم يرو أحد من أهلي...وكذلك: لكن أباه لم يكن يأبه. ص35.
وهي بهذا تخلق توازنا يأخذ بيد القارئ إلى الإحاطة بفكرتها ومشروعها، مع أنّها لا تتوقف عن إرباك اِنتظارات القارئ في «معبر العتمة» أو الملل الأخير كشبه خاتمة لوليمة القلق التي تؤول إلى «عدم أو جنون».
فـ.ياسمينة بريهوم