بني حميدان متحف مفتوح لم يكتشف و أعد دراسة ستغير نظرتنا عن قسنطينة
يكرس الدكتور علاوة عمارة وقته للبحث في التاريخ المحلي، فهو يعتبر هذا النوع من الدراسات أساسيا للوصول إلى التاريخ الوطني، و يؤكد الباحث المتحصل على دكتوراه في التاريخ الإسلامي الوسيط من جامعة السوربون بفرنسا، أنه السباق لمثل هذا النوع من الدراسات في الجزائر، كاشفا عن بحوث جديدة يعكف على إعدادها ستكون ذات أهمية كبيرة في نفض الغبار عن صفحات تاريخ مناطق أثرية بمنطقة قسنطينة.
لم نعتد على مثل هذه الدراسات لمناطق محددة من الجزائر، ما الذي دفعك إلى هذا البحث المطول حول بني حميدان ؟
هذه الدراسة هي الأولى من نوعها التي تركز على التاريخ المحلي لمنطقة بعينها في كامل القطر الجزائري، و في الحقيقة الكتاب يندرج في إطار مشروع لدراسة الاستيطان البشري في حوض «السمندو» بصفة عامة، و هي المنطقة الممتدة على ضفافي الوادي المعروف بـ «السمندو»، و هذا البحث يعتبر مرحلة أولى فقط، شملت بني حميدان، ثم ستشمل في مرحلة ثانية ديدوش مراد و زيغود يوسف.
و هل لديكم مشاريع لدراسة مناطق أخرى بنفس الطريقة ؟
بالفعل فأنا حاليا بصدد إجراء دراسة معمقة عن مدينة قسنطينة في مرحلة ما قبل الاستعمار، و أسعى إلى تعميق الفكرة الموجودة عن مدينة قسنطينة، و خاصة من الجانب العمراني قبل التواجد الاستعماري، حيث سأعتمد بالدرجة الأولى على أرشيف الهندسة العسكرية الفرنسية في تحديث معالم المدينة، و هو ما سيسمح لنا بالإطلاع بأكثر شمولية عن الطبيعة العمرانية للمدينة قبل مجيء الفرنسيين.
ما الشيء المميز الذي اكتشفته خلال دراستك لمنطقة بني حميدان ؟
أبرز ما لفت انتباهي، أن المنطقة عرفت استيطانا بشريا متواصلا، منذ حقبة ما قبل التاريخ و إلى غاية سنة 1962، و لذلك فهي غنية بالحضارات و المعالم الأثرية، في شاكلة عدة مدن و مزارع رومانية قديمة جدا و حصون، و العديد من مقابر ما قبل التاريخ، و ما يؤكد ذلك هو الآثار التي لا تزال شاهدة إلى يومنا هذا، كما أن أسماء المواقع، تحتفظ بحضارات سابقة، و هي أسماء رومانية و بربرية و أمازيغية، و كذا عربية و إسلامية و تركية، كما نجد أسماء فرنسية و أوروبية.
ما مدى احتفاظ المنطقة بهذه الآثار ؟
في الحقيقة هناك موقعين لا يزالان محفوظين بشكل نسبي هما تيديس و كلديس، أما معظم المواقع الأثرية الأخرى فقد اختفت، لأنها استخدمت في بناء منازل المعمرين، كما أنها دمرت عند استصلاح الأراضي الزراعية، و تبقى مجموعة من الحجارة و القرميد و الفخار منتشرة في أرجاء المنطقة، كما أنه من الشبه مؤكد أنه لو تقام حفريات، سيتم العثور على مواقع أثرية محفوظة بشكل جيد و مخفية تحت الأرض، لأن المنطقة عبارة عن متحف أثري لم يستكشف بعد.
و بالنسبة للعائلات التي استوطنت المنطقة، هل بقي الكثير منها في الوقت الحالي ؟
الكثير من العائلات غادرت المنطقة حتى قبل الاستعمار الفرنسي، فيما استوطنت الكثير من العائلات الأخرى و حافظت على تواجدها و على الأراضي التي اكتسبتها، و قد توصلت إلى أن النواة الأساسية تندرج من قبيلة أولاد دراج بالمسيلة، ثم من قبائل الحضرة و خاصة من مناطق بني والبان و بني فرقان و أولاد عربي.
لماذا لا نجد مثل هذه البحوث في الجزائر ؟
ذلك لأن مثل هذه الأعمال تقتضي عملا كبيرا و مشقة، و تتطلب إرادة و رغبة كبيرتين من الباحث، لأن انجازها يمر عبر العمل لساعات طويلة بدور الأرشيف داخل الجزائر و خارجها، بالإضافة إلى العمل الميداني في المواقع المختلفة، فهذا العمل اشتغلت عليه لسنوات في الميدان و قمت بالبحث في دور الأرشيف و ذلك على عدة مراحل، و في الحقيقة دراسة التاريخ المحلي أمر جد مهم لأن التاريخ الوطني يأتي أساسا من التاريخ المحلي، كما أن بحوث التاريخ في الجزائر قليلة و معظم الأبحاث يغلب عليها طابع التسرع و عدم التعمق، إذ لا يتم استغلال كامل الأرصدة الأرشيفية و الوثائقية، إضافة لعدم استعمال المقاربات المنهجية الحديثة في تحليل الوقائع التاريخية، أما العائق الأخر فيكمن في عدم تمكن الباحثين و الدارسين من اللغات الأجنبية، و هذا الأمر يعود بالسلب على نوعية الدراسات الصادرة في الجزائر.
هل الوثائق الأرشيفية متوفرة بشكل كاف ؟
الوثائق الأرشيفية الخاصة بالتاريخ الجزائري متوفرة بشكل كبير في بلادنا، لكن معظمها من إنتاج المستعمر، و لذلك تتطلب نوعا من النقد خلال إجراء البحوث، كما أن أقدم الوثائق تمتد فقط إلى الفترة العثمانية، أما ما قبل هذه المرحلة، فالوثائق الموجودة معظمها في مدن أوروبية حاليا، و أغلبها تتحدث عن المدن الساحلية كالجزائر و بجاية و وهران.
ما مستقبل البحوث التاريخية في الجزائر ؟
الأمر يعتمد بالدرجة الأولى على المتخصصين في هذا المجال، و أكثرهم متخرجون من الجامعات الجزائرية، و قد تم منذ 3 سنوات تعديل جدري على المناهج التي تدرس في كليات التاريخ، و نحن ننتظر النتائج قريبا، فكل الظروف مهيأة من مراجع و وثائق أرشيفية، و يبقى الدور الأهم على عاتق الباحثين، المطالبين بإبراز التاريخ الجزائري في كتب و مؤلفات، و يبقى الأمر الأهم هو تسليط الضوء على التاريخ المحلي قبل الوطني.
حاوره: عبد الرزاق مشاطي
قراءة في كتاب " تاريخ بني حميدان من أقدم العصور إلى سنة 1962"
يقودنا الدكتور علاوة عمارة من خلال مؤلفه «من عالم الدوار إلى البلدة الريفية تاريخ بني حميدان من أقدم العصور إلى غاية 1962»، في رحلة شيقة عبر الزمن، يكشف لنا من خلالها تاريخ منطقة بني حميدان و الأرياف المجاورة لها، انطلاقا من إنسان الكهوف مرورا بالحضارات المتعاقبة التي استقرت بالمنطقة من الرومان و البيزنطيين و المسلمين الأوائل وصولا إلى العثمانيين ثم الفرنسيين، و ينقل لنا جانبا من استقرار الجزائريين و تعايشهم مع التغيرات المختلفة إلى غاية استقلال الجزائر.
يؤكد الكاتب، أنه اختار دراسة منطقة بني حميدان كأحد المجالات الريفية العميقة الواقعة على بعد 20 كلم شمال غرب مدينة قسنطينة و هي المتميزة بتوفرها على عدد كبير من المواقع الأثرية، و التي شكلت على امتداد الفترات السابقة المجال الحيوي الخلفي لمدينة قسنطينة، حيث مازالت عدة أماكن و أراضي تحتفظ بذكريات الأسر القسنطينية العريقة التي كانت تستغلها، و يكشف المؤلف بأن بلدية بني حميدان التي تشكلت بمقتضى التقسيم الإداري لعام 1984، اقتطعت تسعة من أغنى أراضي العزلة الواقعة في حوض «السمندو»، بالإضافة إلى سلسلة «سقاو» الجبلية أو ما يعرف بدوار «أولاد براهم»، و تمتد هذه المنطقة في تضاريسها بين قسم شمالي جبلي بامتياز يتشكل من دوار أولاد براهم و قسم جنوبي متميز أساسا بسيادة التلال الزراعية الخصبة حيث يفصل وادي السمندو بينهما.
يعود علاوة عمارة في كتابه إلى حضارات غابرة مرت من بني حميدان، فيتحدث عن الاستيطان البشري القديم بالمنطقة، و التي تتجسد على وجه الخصوص في منطقة «تيديس» و ضريح «لوليوس»، التي أجرى الفرنسيون استكشافات عليها سنة واحدة بعد إخضاع المنطقة لسلطتهم، فاكتشفوا أثار للإنسان القديم الذي كان يعيش بالكهوف و يمارس الصيد من أجل البقاء و تم العثور على شواهد تثبت ذلك، و من ثم توالت الحضارات فمن نوميديا الماسيلية إلى نوميديا الرومانية، و صولا إلى تيديس الرومانية التي امتدت لفترة طويلة أبرزها الفترة التي سميت بالقرنان الذهبيان لتيديس الرومانية، و بعد ذلك عرفت المنطقة تواجدا ونداليا و بيزنطيا غير أن هذه الفترة بقيت مجهولة نوعا ما.
ثم يذهب بنا الكاتب لاستكشاف بني حميدان خلال الفترة الإسلامية الوسيطة، حيث توصل إلى أن المجموعات اللاتينية و البيزنطية التي كانت تسكن المنطقة و تدين بالمسيحية قد تحولت إلى الدين الإسلامي بعد سيطرة الأمويين على نوميديا، أما الشواهد الأولى للحضور الفعلي للمسلمين فترتبط بالجماعة الشيعية الإسماعيلية و التي تعرف تاريخيا بالخلافة الفاطمية، و قد اكتشفت العملة الفاطمية و أيضا الحفصية بالمنطقة، و يشير الكاتب إلى ظهور تغييرات كثيرة بعد سيطرة العثمانيين، من بينها استيطان 11 قبيلة لبني حميدان تحت قيادة أولاد براهم، و تأسيس زاوية مشتة لحويمة من قبل المكي بن بغريش، و كذا كراء أراضي العزلة التي شكلت مداخيل هامة للسلطة البايليكية، إضافة إلى العلاقة الضريبية بين السلطة و المجموعات القبلية، و ثورة الشريف بن الأحرش ضد السلطة البايليكية بالمنطقة سنة 1804م، و يصل المؤلف في سرده لتاريخ بني حميدان إلى بداية الاحتلال الفرنسي و نهاية السلطة العثمانية، حيث ظهرت تغييرات أخرى، بداية بإخضاع قبيلة أمية المسيطرة أنذاك، مع تثبيت القيادات القبلية في مناصبها.
يواصل الكاتب قصه لتاريخ بني حميدان، ليصل إلى بداية الاستيطان الأوروبي في الجزائر، حيث أنشأت بلدتي السمندو و بيزو، و تم إلحاق بني حميدان إداريا بهذه الأخيرة، و أصبحت دوارا تابعا لها، غير أنها لم تشهد استيطانا أوروبيا كبيرا، و عرفت سنة 1869 إنشاء قبيلة دوار بني حميدان، و كان القرار بمثابة تغيير جوهري على المستوى الإداري و الزراعي و الاجتماعي، ليضع حدا للسلطة الموروثة عن العثمانيين، و تفككت بذلك القيادات القبلية، أمية و أولاد براهم و العلمة المعسلة إلى فرق اجتماعية جديدة، و وفق التقسيم الذي يحدد مجال بني حميدان في تلك الفترة، لا تزال الكثير من المشاتي في الوقت الحالي تحافظ بنفس مسميات تلك الفترة، و منها بني حميدان و طكوك و الحويمة و بن شريف و حنش.
و يكشف مرشدنا في هذه الرحلة عبر تاريخ بني حميدان، عن العائلات التي تحصلت على أراضي بني حميدان، بموجب قانون 23 جويلية 1873 أو ما يعرف بقانون «فارنيي» و تشكيل الملكية الفردية، و الكثير من العائلات لا تزال تحتفظ بهذه الأراضي إلى غاية الفترة الحالية، و يضيف الكاتب بأن هذه الحقبة شهدت استحوذا واسعا من قبل المعمرين على الأراضي الخصبة، كما شهدت نموا و اتساعا لمشاتي بني حميدان من قبل المعمرين الذين أسسوا مزارع و ضيع، و أستمر تطور الاستيطان الأوروبي في المنطقة إلى غاية تأسيس البلدة الأوروبية في بني حميدان بين 1881 و 1895، و هي الفترة التي شهدت إنشاء نظام الحالة المدنية و نهاية الهوية الاسمية التقليدية، حيث تم تسمية السكان بألقاب مختلفة نسبة إلى المنطقة التي قدموا منها أو العرش الذي ينتمون إليه و أحيانا نسبة إلى صفة معينة في الجسم، و هي الألقاب المعروفة إلى حد اليوم ببني حميدان.
و يضيف الكاتب أنه مع نهاية القرن التاسع عشر بدأ حراك اجتماعي كثيف انتهى بإعادة تشكيل الخريطة المجالية لدوار بني حميدان و توافد كثيف لقبائل الحضرة أو الجبايلية، فمنطقة بني حميدان شكلت نموذج مصغر للتركيبة الاجتماعية الممتدة من بني والبان و القل إلى غاية الجنوب الجيجلي، و تشكل المجتمع في غالبيته من مزارعين و فلاحين يستغلون الأراضي.
و يكشف الدكتور علاوة، أن «جبار بن أحمد» يعد رائد الكفاح السياسي بالمنطقة، و الذي إنطلق في نضاله بتأسيس نقابة صغار الفلاحين بناحية بيزو بتاريخ 30 أفريل 1946، و كانت هذه النقابة في الحقيقة واجهة محلية لتيارات سياسية وطنية، و مع انطلاق الثورة التحريرية احتضنتها المشاتي بقوة، فرغم بدايتها الغامضة ببني حميدان، غير أن جبهة التحرير الوطني، بسطت سيطرتها على العديد من مشاتي بني حميدان، و حلت محل السلطة الاستعمارية، و تبين بعض الوثائق الأرشيفية حسب الكاتب، تواجد عناصر جيش التحرير بالمنطقة بداية من سنة 1955، و تبقى مجزرة 2 ماي 1956 بجنان الباز شاهدة على نضال المنطقة، و شهدت حرب التحرير تنفيذ العديد من الهجومات على مراكز عسكرية ببني حميدان، و قد أقامت السلطات الفرنسية مناطق محرمة و محتشدات إضافة إلى نظام «لاصاص» و كذا تعبئة الحركة و المخازنية، في محاولة للقضاء على الثورة، التي واصلت نجاحها في مواجهة السياسة العسكرية و الحرب النفسية، كما لعب سكان بني حميدان دورا هاما في تموين الثورة بالغذاء، رغم محاربة الجيش الفرنسي و أتباعه للأمر، كما شكلت المشاتي خطوطا خلفية لجيش التحرير الوطني، و قد فشل الفرنسيون في تهدئة بني حميدان و عزلها عن الثورة التي تواصلت بقوة في المنطقة، و لم تنفع جرائم القوات الخاصة الفرنسية و أبرزها مجزرة مشاتي «السوساني» في 9 ماي 1961 في وقف عزيمة سكان بني حميدان في دعم معركة التحرير إلى غاية الإستقلال.