هل يمكن للحِراك الثقافي الذي يؤسِّس له أفراد مثقفون
بعيداً عن مِنح وميزانيات وإعانات الدولة، أن ينجح ويستمر ويخدم الثقافة؟
وهل يمكن للثقافة وفعالياتها، أن تنتعش من خلال/وفي ظِلّ الحِراك الحُرّ والمبادرات المستقلّة/الخاصة، وأن تُحقِق النجاح المرجو والحضور المشرق والاستمرارية المأمولة، أم أنّ هذا لا يمكن أن يتحقّق بعيدا عن دعم الدولة ومؤسساتها الثقافية؟.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
حول هذا الموضوع «الحراك الثقافي المستقل»، وإمكانية نجاحه/أو فشله، بعيدا عن دعم الدولة ومؤسساتها وإداراتها الثقافية، كان هذا الملف في عدد اليوم من «كراس الثقافة» مع بعض الكُتاب والأدباء، والناشطين الثقافيين، الذين تحدثوا عن هذه المسألة .
كمال قرور/ روائي
حان الوقت لنطرح النقاش حول المنابر والفعاليات الثقافية الحرة
شخصيا كنتُ ومازلت مؤمنا بضرورة تحرير الثقافة من هيمنة ووصاية السياسي، الذي لا يتحرك إلاّ وِفْقَ أجندة براغماتية آنية، لأن الثقافة ليست خطابا ديماغوجيا، وليست مُنوما أو مُسّكِنًا، وليست أيضا خطابا تجميليا. الثقافة استشراف للآتي وإبداع وإنتاج للقِـيم وصناعة. لذلك كان علينا أن نعيد النظر في الوضع السائد، ونُرتب البيت من جديد.
طبعا سياسة تأميم المنابر والفضاءات الثقافية في العشرية الماضية، أدت إلى تكبيل المبادرات الحرة وساهمت في تصحير المشهد الثقافي، ورغم الإنفاق الحكومي «الحاتمي» لم يحدث الإقلاع الثقافي المأمول. للأسف، خنقت البيروقراطية الإدارية المشاريع الثقافية ونمطتها وأصبحت روتينا، يغرف من الخزينة المال الوفير دون أن يشبع حاجات الجمهور. طبعا، أي حِراك ثقافي ولو كان بسيطا، يحتاج إلى تمويل، سواء من قِبل الخواص، أو مؤسسات الدولة المختلفة. لهذا الإشكالية مطروحة اليوم كالتالي: كيف ننجز حِراكـًا ثقافيا أو فعاليات ثقافية جادة، بميزانية معقولة؟.حان الوقت لترشيد النفقات، والابتعاد عن التبذير الذي أفسد الذهنيات الناشطة في المشهد الثقافي، حتى أصبح الهم الوحيد هو كيفية صرف الميزانية بتضخيم الفواتير. وتحويل المال العام إلى الجيوب الخاصة. نحن لم نؤمن بدور القطاع الخاص في بناء الاقتصاد الوطني، إلاّ في السنوات الأخيرة، ظلت نظرتنا إليه نظرة شك وريبة. ولهذا حان الوقت لنطرح النقاش حول المنابر والفعاليات الثقافية الحرة.طبعا لن يحدث هذا إلاّ في ظل سياسة ثقافية وطنية واضحة حتى لا يكون هناك تناقض بين ما تقوم به مؤسسات الدولة ومؤسسات خاصة، لأنّ المشروع الثقافي المنشود يصب في نهر واحد هو: الثقافة الوطنية. الأصل في بلادنا التعدد، سياسيا وثقافيا وإعلاميا، منذ زمن الاحتلال، حيث ساهم هذا التعدد في بلورة وعي الشعب وقاده إلى فهم الحرية والمطالبة بالاستقلال، وكان الثمن غاليا.لكن بعد الاستقلال، غيّرت القيادة السياسية الوجهة وفرضت الأحادية بالقوانين. وكرست الصوت الواحد، لتسيطر على الوضع. يفترض أن النشاط الثقافي يقوم به المجتمع المدني، يقوده مثقفون لهم تجارب وبصمات، في شتى مجالات الثقافة والإبداع، وفق إستراتيجية مدروسة، لكن هذا المجتمع المدني، لم يتحرر ولم يبادر، لذلك لم يكن طليعيا وبقي تابعا لإملاءات السياسي، يوجهه، بمقابل، في المناسبات والاستحقاقات الانتخابية. بعدها أصيب هذا المجتمع المدني بالتكلس والتحنط، ودخل لاحقا مرحلة التحلل والتفسخ والفساد. لأنّه تخلى عن دوره الطوعي وانخرط في الارتزاق والابتزاز.الإرادة السياسية فرضت الأحادية الحزبية، ولم تفرق بين دور المنظمات الجماهيرية/ وهي جزء من المجتمع المدني/ التي يمكن للحزب أن يعبر عن امتداداته وتجذره في المجتمع، بتعميم الوصاية والأبوية على بقية فعاليات المجتمع المدني الناشطة في الحقل الثقافي، بالضغط والاستمالة والترغيب والترهيب، لتؤدي دور المهرج في المهرجانات وتجنيد الوعاء الانتخابي في الاستحقاقات الانتخابية، وتزكية الخيارات السياسية. إن الحِراك الثقافي الحُر، المُدعم من قِبل الخواص، في إطار المشروع الثقافي الوطني للدولة، أصبح اليوم مطلوبا، لتفعيل المشهد الثقافي وإعطائه نفسا جديدا وحركية. وهذا الحراك المنشود، لابدّ أن يبادر به مثقفون لهم رؤية مغايرة للتنشيط الموسمي الكلاسيكي.
منير بومرداس/ ممثل ومخرج مسرحي
الحراك الثقافي الحُرّ غير المُدعم يفشل ولا يستمر
نعم، فيما يخص الحراك الثقافي الحر وأيضا التكتلات الثقافية التي يبادر لها نخبة من المثقفين كثيرا ما تصطدم بالواقع، خاصة عند انعدام السيولة المادية المُحفزة على الاستمرارية وأغلبها يؤول إلى الفشل وعدم الاستمرارية. لكن هذا الحراك بشتى فعّالياته يمكنه أن ينجح وتصبح له آليات ذات نجاعة لو هيكلَ نفسه في جمعيات أو تعاونيات ثقافية.حتى الآن الفعل الثقافي يحتاج وربّما دائما إلى تمويل ولو بميزانيات ضعيفة، رغم ذلك فهي (الميزانية) وعلى ضعفها أو قِلتها تضمن البقاء وتضمن الاستمرارية في ظل انعدام «السبونسور الثقافي»، وثقافة دعم الفعل الثقافي تكاد تكون منعدمة رغم حاجة المجتمع إليها. نعم تبقى بعض التجارب التي تحدت الجانب المالي ولو أنّها شاذة، وبقيت تواصل الحراك الثقافي لكن هذا كان على حسابها الخاص.ولو نأخذ على سبيل المثال بعض الفرق المسرحية أو الجمعيات التي ليس لها دعم نجدها واصلت تجاربها تقريبا لعقود وتوارثت الفعل والإنتاج المسرحي بعروض شيقة وبدون دعم أي جهة، لكن معاناة هذه الفرق كبيرة جدا لدرجة أنّهم يستعملون إمكاناتهم البسيطة ومالهم الخاص من أجل إنجاح تجاربهم والاستمرار في تفعيل محيطهم الفني أو المسرحي.
محمد بن زيان/ كاتب وناقد
المبادرات المستقلة هي الأجدى والأنفع
الحِراك الثقافي الذي يُؤسس له أفراد مثقفون بعيدا عن ميزانيات وإعانات الحكومة يمكن ليس فقط أن ينجح ويستمر بل أيضا أن يحرر الحِراك من الخضوع للنمط الريعي وما أفرزه من شبكة علاقات زبائنية وتبادلات مرتكزة على حسابات مصلحية شكلّت الكثير من العوامل الطاردة للنوعية وكرّست النشاطوية المهرجانية والزردات.
في الريبرتوار تجارب جديرة بالتأمل والاعتبار، لكن بداية ينبغي إعادة ضبط وتحديد المُراد بالحراك، فغالبًا ونتيجة لما تراكم ارتبط الحراك بأنشطة قد يصاحبها ولكن يغيب الأثر. الحراك المقصود والمنشود هو المُؤسِس لممارسات مستمرة مُؤسِسَة للتمدن ومُحققة لما تتشكل به المواطنة وما تتمخض عنه أرضية التشكيل للعقد الاجتماعي الحقيقي. هناك تجارب في الريبرتوار كما ذكرت، مثلا: الصالونات والمجالس التي كان ينظمها البعض حتى في بيوتهم كمالك بن نبي والطاهر وطار، والنقاشات التي كانت في فضاءات مختلفة كالمقاهي وبعض المكتبات كمكتبة الاجتهاد في العاصمة وبعض قاعات متحف السينما والمسارح ودور الثقافة.
راهنا مع المنجز التكنولوجي في التواصل والاتصال تشكلت أطر من المُهم استثمارها. إن هناك مبادرات لا تستلزم ميزانيات ولا تمويلا، مثلا لقاءات لمناقشة كِتاب أو فيلم أو مسرحية أو لطرح قضية أو بعث ما كانت تنظمه مجلة «أمال» من ورشات أدبية لمتابعة المنجز الإبداعي.
بعض المثقفين والفنانين تركوا أثرا جديرا بالتنويه والاعتبار وأنجزوا بمبادرات خاصة ما تجاوز مخرجات المشاريع الضخمة، أذكر منهم المنجز الموسوعي لعاشور شرفي، وأذكر دور مالك بن نبي في ندواته، ودور مصطفى كاتب منذ ما قبل الثورة إلى ثمانينيات القرن الماضي في اكتشاف وتأطير الشباب.. أدوار جان سيناك وعلولة وبشير خلف وبختي بن عودة والصايم الحاج وغيرهم... وقد تسمح الظروف لاحقا بالكتابة عن تلك التجارب.
الثقافة لا تقترن فقط بالتظاهرات، وإذا كان من البديهي تكفل الدولة بما يُسمى المشاريع الكبرى فإنّ المبادرات المستقلة هي الأجدى والأنفع لأنّها مبادرات متحررة من التبعية للطرف المُمول ومتحررة من التعقيدات البيروقراطية، وهناك إضافة لما ذكرته من تجارب بعض المبادرات المُبشرة.. مبادرات لشباب بدون إمكانيات لكن بإرادة، مبادرات لترسيخ التثقيف ودعم القراءة وتنمية القدرات الإبداعية.
علاوة كوسة/ كاتب وناقد
الأجدر أن تتبنى المؤسسات ماديا نشاطا يتولاه مثقفون
يُعد النشاط الثقافي الفعّال رهان كلّ المثقفين والناشطين في سلك الثقافة، وذلك من أجل بعث الحركة الثقافية في وطن يتنفس الثقافة وبه فائض من منابعها، ومهما تركد كثير من مجالات الحياة فإنّ المجال الثقافي هو المجال الذي لا يجب أن يركد يومًا، مهما اختلفت الظروف وتغيرت الموازين التي لها علاقة مباشرة بالقطاع الثقافي، لأنّ الفعل الثقافي هو أن تؤسس لمشاريع ثقافية وتضمن لها الاستمرارية والعمق والشمولية لتربط الأفكار ببعضها والأجيال أيضا، ولتعطي صورة مُشرقة عن ثقافة هذا الوطن ومثقفيه.
والسؤال المطروح هنا: مَن هي الجهات المسؤولة عن تبني الفعل الثقافي؟ وهل الحركة الثقافية حكر على المؤسسات الثقافية الحكومية أم إنّها رهن تحركات مؤسسات ثقافية خاصة ومستقلة؟ وهل الفعل الثقافي هو سياسة دولة ووزارة لها ميزانياتها المخصصة لتحريك الفعل الثقافي، أم إن الثقافة والنشاطات الثقافية أكبر وأوسع من أن تختص بها جهات ودوائر رسمية معينة؟ أم إن تراخي بعض المؤسسات الثقافية كمديريات الثقافة ودور الثقافة والمراكز الثقافية هو من يُجبر بعض الجمعيات الثقافية على تحمُل مسؤوليات تحريك عجلة الثقافة، فتظهر مبادرات جمعـوية وربّما فردية شخصية لبعض المهمومين بالثقافة ولهم غيرة على الثقافة والمثقفين فتجدهم ينظمون نشاطاتهم وملتقياتهم وندواتهم الثقافية على حسابهم الخاص، في وقت تخصص الوزارة المعنية ميزانيات ضخمة للفعل الثقافي دون تجاوب من مؤسساتها الرسمية في منح التمويل لهذه النشاطات أو ربّما لأنّ كثيرا من مديري الثقافة في هذا الوطن هم إداريون أكثر منهم مثقفون وعارفون بالثقافة لذلك تنحصر الثقافة في نظرهم في حفلات وولائم وزردات.. ولا ينظرون إلى الآداب والفنون الراقية سوى نظرة الاستصغار والاستهزاء في كثير من المواقف والأحيان.
غير أن الإشكال الأعمق في تحمل بعض الأفراد من المثقفين لمسؤولية تنظيم النشاطات الثقافية على حسابهم ماديا ومعنويا، هو قلة التمويل لأنّ الفعل الثقافي ليس ارتجالا وسطحيا، بل يحتاج إلى ترتيبات مادية كبيرة ترفع الفعل الثقافي من مستوى ملء الفراغ وتعويض غياب المؤسسة إلى مستوى الاحترافية وتقديم الأفضل، لذلك يكون الحل الأجدر والفعّال النافع أن تتحمل المؤسسات الثقافية المسؤولية كاملة وتتبنى الفعل الثقافي ماديا وأن تترك الاجتهاد والترتيبات للمثقفين والعارفين بالساحة الثقافية واستراتيجيات النهوض بثقافتنا من خلال الاحتفاء بمثقفينا ومنجزاتهم ماديا ومعنويا، وذلك تكريم لهؤلاء المثقفين الذين لم يعد يليق بهم تكريم الكلام المعسول والشهادات الشرفية الورقية، فهم كما غيرهم من صُنّاع الثقافة يحتاجون إلى تكريمات كبيرة مريحة تُحسِن من مستوياتهم المعيشية والمادية ليتفرغوا للإبداع والعطاء.
أمجد مكاوي/ شاعر وناشط ثقافي
لا بد من رعاية الدولة لأنه لا أحد يرى طائلا وراء الفعل الثقافي
الأمر صعب جدا وشائك، أنا واحد من الذين حاولوا أن يؤسسوا للحِراك الثقافي ببرامج لا تعتمد على إعانات الدولة، لكن الأمر كان صعبا جدا ومرهقا جدا، الأمر ليس متعلقا بإعانات الدولة، الأمر متعلق بالإعانات وفقط، تأتي من عند الدولة أو من جهات أخرى، فالمهم أن تأتي. لقد جرّبت أن أطرق أبوابا كثيرة ولكن للأسف كلّها موصدة، لا أحد يرى أنّه ثمة طائل من وراء الفعل الثقافي، حتى الدولة الآن أو بالتحديد الإدارة الثقافية سعيدة جدا بسياسة التقشف، إذ ترى أنّها قد تخلصت من الممارسات الثقافية. فالأمر في غاية الصعوبة، إذا استغنينا عن إعانات الدولة فمن أين لنا البديل، كما أنّه من جهة أخرى بات من اللازم أن نتخلص من إعانات الدولة، ربّما الفرصة مواتية للتفكير جديا في صندوق ثقافي حر يشارك فيه الجميع من رجال أعمال وتُجار وأصحاب رؤوس أموال. لكن السؤال الحقيقي: هل نملك أناسا تؤمن بالفعل الثقافي من غير المثقفين؟.علينا أيضا أن نطرح السؤال الآتي: هل يمكن للحِراك الثقافي أن يستمر دون تمويل؟ بعد هذا السؤال ستكون الإجابة الحتميّة أنّه لا يمكن الاستمرار أو حتى النجاح دون مصادر تمويل. بعد هذا السؤال وهاته الإجابة، سيأتي سؤالٌ آخر هو: من أين نأتي بالتمويل؟ هل تمويل الوزارة الوصية كاف لحِراك ثقافيّ حرّ ومحترف؟ إذا كانت الإجابة لا، فهذا يعني أنّه لابدّ من شريك آخر، كرجال الأعمال أو المؤسسات الاقتصادية الخاصة، كما يحدث مثلا مع الفِرق الرياضية، ولكنّ هل الحِراك الثقافي في الجزائر دخل دائرة الاستثمار لكي يكون مغريا لهؤلاء الخواص؟.
إنّ الأمر شائك ومعقدٌ، ثمّة بعض الغيورين على الشأن الثقافي مولوا مشاريع ثقافية وأنشطة كثيرة من مالهم الخاص كالروائي كمال قرور والشاعر عياش يحياوي، ولكن الأمر غير كاف. إذن لا خيار آخر عن تمويل الدولة، وهاته الحتمية تضعنا في محكٍّ آخر، بين ركود الفعل الثقافي وبين شح الدولة في تمويل الحِراك الثقافي.عندما نشاهد بعض الدول تصرف أموالا طائلة على الثقافة كدول الخليج فنعرف أن هاته الدول تصرف أموالا لتشتري أمجادا. أنا كما سبق الذِكر، واحد من الذين حاولوا تفعيل الحِراك الثقافي ببرنامج إبداعيّ، استضفت من خلاله أسماء أدبية وطنية ولكن المشروع بدأ متعثرا وسرعان ما تلاشى لشحّ التمويل، عندما لجأتُ للإدارة تحججت بالتقشف وعندما لجأت للخاص تحجج بأنّه لا فائدة أساسا من هاته المشاريع وأنّها لو كانت في الرياضة لكانت أجدى.
إذن الأمر جدّ معقد بين إدارة وصيّة ترى أنّ المال ليس شرطا أساسيا للمثقف وللنشاط الثقافي وبين فردٍ من المجتمع يرى أنّ الثقافة وأفعالها لا فائدة منها ولا تنفع وهي من الأشياء الزائدة أساسا. إجابتي عن السؤال هي من اللازم أن تصرف الدولة على قطاع الثقافة كما تصرف على قطاع التربيّة مثلا، لا خيار آخر غير خيار تمويل الدولة وبمبالغ تفي بالغرض، الحلول الأخرى لن تكون إلاّ مؤقتة ولن تكون بتلك القوّة.
خالد ساحلي/ كاتب وروائي
هناك حاجة إلى توافق بين الدولة والناشطين في القطاع
الحِراك الثقافي زاوية من زوايا هرم التقدم وتطور أي مجتمع إذ هو اللوحة التي تعبّر عن أوضاع المجتمع وحالاته، وهو جسر للتطور والرقي، زاده الأفكار الكبيرة والطروحات بغية خروج المجتمع من نفق النسيان والتخلف والتقهقر المظلم إلى رحابة القيم والأخلاق والجمال، لتحسين أوضاعه وظروفه المختلفة، إنّه لسان حال الثقافة في المجتمع المتداخل بالعادات والتقاليد والمتطلع في ذات الوقت لحضارات الآخرين والمتصل بها والمتفاعل معها.
ومن هذا المنطلق فالحِراك الثقافي في الجزائر يكاد يكون منعدما إلاّ من مواعيد محدودة هنا وهناك وفي مناسبات رسمية وطنية أو دينية، هذا في أيام البحبوحة والفترة التي كانت تعيش الجزائر فيها بعض الرفاهية المالية التي لم تُستثمر على أحسن وجه وبُدِدّت فيها أموال كثيرة ذهبت أدراج الرياح، والكل يعلم كيف ذهبت مشاريع وميزانيات الثقافة هدرا بغير حق، فما بالك اليوم ونحن نشهد تقشفا وتراجعا كبيرا في سعر البترول إذ شحّت الصادرات.
المعلوم أنّ سوء التسيير وإسراف المال العام لا يزال قائما، رغم المبادرات التي تريد احتواء لوحة الجمود والركود الثقافي. وما دون ذلك فهو رفع للتحدي لجمعيات وأفراد ذوي إرادة صلبة وفذة يخترقون الطوق الكبير العظيم للرداءة والتحجر والتصحر الثقافي ليتنفس من بين ثقوبه الحاملون للهمّ الثقافيّ والسياسي في الجزائر.
ما نشهده من بعض المبادرات هنا وهناك من إقامة للمحاضرات والجلسات الجوارية هو ما يعطي الانطباع الايجابي عن مقاومة قائمة خدمة للمجتمع وترسيخا وتدعيما لثقافتنا التي تكاد تتلاشى وتغيب وتُنسى في ظل الحضارة السريعة وهيمنة القِوى العظمى والكولونيالية الجديدة. مبادرات وخدمات تُقدم للأفراد حتى ولو لم يولوها الاهتمام اللائق.
إنّ الحِراك الثقافي لن يؤدي وظيفته إلاّ إذا اجتمعت شروط كثيرة وكان التوافق بين الفرد والسلطة، فالحديث عن الفعل الأحادي قد يُغطي نسبة ضئيلة من النشاطات لكنّه لن يستمر إلاّ في حدود ضيقة، فالتوقف مرهون بالإعانات والتسهيلات التي تمتلكها الدولة ويفتقدها الفرد، وهذا ما نلمحه في توقف كثير من الجمعيات وحلها.
تجدر الإشارة إلى أنّ هناك مبادرات شجاعة تستحق التنويه والتشجيع والدعم من الدولة تبنت مشاريع مختلفة كما مشروع كتاب القراءة لكمال قرور وكتاب الجيب وقصص الأطفال وكُتب منتديات المواطنة لذات الروائي والناشر، لقد أسماه مشروع الألفية الجديدة وهو مشكور على ذلك، كلامنا هذا قد يعتبره البعض مدحا لكن النقد يتطلب منا أن نشكر المحسن وفي نفس الوقت فلن نذم المسيء.
سفيان عطية/ ممثل ومخرج مسرحي ومدير المسرح الجهوي لمدينة العلمة
إعانات الدولة بشكل مباشر أو غير مبـاشــر حتميـــة
إنّ الحراك الثقافي الذي يؤسس له أفراد مثقفون بعيدا عن ميزانيات وإعانة الحكومة موجود وبقوة في الجزائر، كما هو موجود في باقي دول العالم، وأعتبر هذا الحِراك طرفا مؤثرا وبشكل كبير دون أن يُحدث ضجة أو صخبا على الهوامش لأنّه ببساطة حراك صادق وله أهداف سامية بعيدة عن كلّ ما هو شوفينية وأنانية، وكلّ ما يقدمه أصحابه يصب في خانة واحدة وهي السمو بالثقافة والفن إلى درجات أعلى. وهذا الحراك يؤثر نعم، ولكن أن ينجح ويستمر، فهذا في نظري مستبعد حاليا، وهذا راجع إلى أنّ معظم الحراك الثقافي والفني في الجزائر يعتمد على إعانات الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر.
أعطي مثالا على ما أقول وأتكلم عن المسرح، يمكن لفرقة مستقلة أن تُنتجَ عملا مسرحيا راقيا وبدون إعانة من الدولة ولكن في مرحلة التوزيع عليها أن تتعامل مع مؤسسات الدولة ولا خيار لها غير ذلك، فكلّ الفضاءات التي يمكن لها أن تستغلها هذه الفرقة لتوزيع عروضها تابعة للدولة.
على أي حال بالنسبة للمسرح لا يمكن حاليا الكلام عن مسرح حُر، ربّما في المستقبل خاصة بعد السياسة الجديدة التي تتبناها وزارة الثقافة من خلال ترشيد نفقاتها ونيتها في فتح المجال للخواص للاستثمار في المجال الثقافي من خلال إنشاء فضاءات جديدة تابعة للقطاع الخاص في كلّ المجالات الثقافية والفنية.
الأمر ليس سهلا ولكن ليس مستحيلا، بدخول المستثمرين الخواص في هذا القطاع سيصبح من الممكن تأسيس وفتح سوق للمنتوج الفني بكلّ أنواعه، وبهذا الشكل يمكن للأعمال الحرة أن تستمر وتنجح وتزدهر دون أن تعتمد على إعانات الدولة.