نادية قندوز..كتاب الشعر والذكريات
حلت بداية هذا الأسبوع (السبت 4 أفريل) الذكرى ــ23 لرحيل الشاعرة والمناضلة الجزائرية نادية قندوز، (26 فيفري1932/ 4 أفريل 1992). ابنة القصبة التي ناضلت من أجل إستقلال بلدها الجزائر، عاشت حياة حافلة بالنضال والشعر والمعاناة. ففي سنة 1954 تنقلت للعلاج بإحدى المستشفيات بفرنسا وهناك انخرطت في العمل السياسي ضمن فدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا وهناك أيضا سُجنت لشهور بإحدى السجون الفرنسية بسبب نضالها. وبعد استقلال الجزائر انخرطت في الإتحاد العام للعمال الجزائريين وناضلت من أجل ترقية عمل المرأة في الجزائر المستقلة.
صدرت للشاعرة نادية قندوز المجموعات الشعرية التالية: «أمال» عام 1968، «الحبل» عام 1974، «حالة حصار»، «صيف تحت الدبابات». وقد أُدرجت واعتمدت بعض أشعارها في المقررات الدراسية الجزائرية. وفي عام 2008، تم إطلاق اسم الشاعرة الراحلة نادية قندوز، على شارع رئيسي من شوارع بلدية سانت اوين الفرنسية، المحاذية لمدينة باريس.
أصدقاء ونجل الراحلة «نادية قندوز»، يستحضرونها، اليوم، في هذا العدد من «كراس الثقافة» الذي يحتفي بها وبذكراها، كعربون وفاء صغير لتكريمها من خلال هذا الملف، في ذكرى غيابها الـــ 23.
العلاقة بيني وبينها «نادية قندوز»، كانت أشبه بتواتر المواسم على مدى الدهر. وبالفعل، فهذه العلاقة بالذات قامت، في المقام الأول والأخير، على كل ما يحمل في طواياه وقع الزمن الجميل: (القصبة العتيقة بأزقتها وحواريها الزاخرة بأجواء الأساطير بسبب ما تتضمنه من أبعاد هي إلى الخرافة أقرب منها إلى دنيا الواقع، وسلالم «لاتراي» الحجرية، أي، المسند الذي تشرش عليه عناقيد العنب، هي سلالم تقوم قبالة مقر وزارة الدفاع الوطني، وحي «لي دوزانتيتي»، أي، المعاندين، المتصلبين، حيث كانت تمارس وظيفتها كقابلة -مولدة-، وحي «الأبيار» بما يزدهي به من شجيرات العليق والورود وما تبقى فيه من أسباب الحياة الرعوية، و»فري فالون»، أي، الوادي الرطيب، وسوق «الكانتيرا»، أي، المقلع الحجري، و»فونتان فريش»، أي، العين الباردة، مسقط رأسي الذي يجمع بين خصائص الريف والمدينة، و»سانت أوجين»، «بولوغين» حاليا، حيث يعيش جزء من عائلتها هي، وحيث أمضيت طفولتي وصدر شبابي الأول، إلى غير ذلك من الأماكن السحرية الأخرى من الجزائر العتيقة التي تضيع اليوم في ضباب التاريخ). ذلك أن الإنسان، حسب نظرتي إلى هذه الحياة، لا بد وأن يكون شاعرا في جوهره بفضل بعض الجوانب التلقائية فيه دون أن يكون في حاجة إلى توظيف اللغة واستخدام الصور البلاغية. يكفيه من الشعر أن ينظر نظرة ملؤها الحب إلى طفولته الأولى حتى وإن شابها بعض البؤس والألم، هنا وهناك.
يوم رحيلها في شهر أفريل من عام 1992، قالت لي إحدى بنات عمها بنبرة يسمها الذهول والحيرة معا: «أترى، يا مرزاق، كيف لعبت هذا المقلب علينا جميعا؟ رحلت دون سابق إنذار!». لكأن موت شاعرة ينبغي أن يتم وفقا لبرنامج محدد، أو يجب أن يكون ممهورا برخصة مرور حتى يكون جميلا، متناغما مثل أي قصيدة يقولها شاعر من الشعراء!.
ما كان الشعر وحده هو الذي له الغلبة في أمر نادية قندوز، هذه المرأة التي عرفت كيف تكون بالغة الظُرف والمرح حتى وإن تكالبت عليها عوادي الحياة. بل إنها ظلت تنطوي، دائما وأبدا، على جانب إنساني عميق الغور في شخصيتها الرائعة، وأنا أعني بذلك وطنيتها الصادقة، تلك التي حدت بها إلى أن تخوض غمار النضال خلال الثورة الجزائرية في سبيل تحرير بلادها من ربقة الاستعمار الفرنسي. ولقد زادت مكرمة على مكرمة حين أصخت بسامعيها، وبجميع جوانحها، على مدى عقود طويلة، لاعترافات وتظلمات النساء اللواتي كانت تستقبلهن في المصحة التي تشرف عليها. أجل، ما فتئت تقدم لهن النصائح الطبية لمعالجة الأدواء الناتجة عن المشاكل الأسروية، والتصدي لحالات اليأس والقنوط وضيق ذات اليد لدى البعض منهن، أو الاضطرابات النفسية لدى العديد منهن. وعليه، يمكنني القول إنه كان في مقدورها أن تضع جردا كاملا يمكن الاستناد إليه من أجل التعمق في وضعية المرأة الجزائرية بعد الاستقلال. لكن، يتعين علي أن أعترف بأنني ما توصلت أبدا إلى إدراك هذه الثنائية المحببة التي جعلت منها شاعرة بالغة الرقة، وقابلة -مولدة- تنصت إنصاتا عجيبا رائعا لمشاكل غيرها من النساء.
ومن ثم، فهي لم تقصر همها على أن تكون مثل الخنساء (القرن السابع الميلادي) أو، أن تعيش حياتها على غرار «إميلي ديكنسون»، (1830-1886)، وكلتاهما شاعرتان، دما وروحا، بل، إنها آثرت في نفس الوقت -إن لم يخطئني الظن- أن تكون شاعرة تبحث باستمرار عن كل ما هو جميل ومقدود من الجمال نفسه، ومن الدقة أيضا. ولذلك، كانت خبيرة أنثروبولوجية إلى حد ما، أي، امرأة تتغور في كل شاردة وواردة حواليها. وقد تحققت من ذلك بنفسي يوم عادت من رحلة إلى سوريا. اكتفت يومها بأن تقدم لي عرضا شفويا عنها بدلا من أن تدون تفاصيل تلك الرحلة على الورق. فأين اختزنت ذلك كله، اللهم إلا في أعمق أعماقها، أي في الشعر، وفي الترحاب بكل ما هو إنساني؟.
في شهر فبراير من عام 1992، أي، قبيل شهرين من رحيلها، حضرنا معا العرض الأول لمسرحية «يوميات امرأة آرق»، المقتبسة عن رواية رشيد بوجدرة والتي أدتها الممثلة القديرة «صونيا» بإتقان تام. ما زلت أتذكر كيف عمدت نادية قندوز، في منتصف العرض، إلى توجيه ما يشبه ضربة خفيفة لمرفقي، وهمست في أذني قائلة: «الحوار رائع، ممتع. لقد خبرت مثل هذا النموذج من المشاكل في حياتي المهنية!».
ها أنذا، اليوم، أتعجب من نفسي وأضحك حين أستذكر فصولا من لقاءاتي بنادية قندوز في مقر اتحاد الكتاب الجزائريين خلال السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم. فقد دعتني، ذات يوم، لتناول طعام الغداء عندها في دارها بحي «ميصونيي»، في قلب العاصمة، وكان أن سألتها بكل سذاجة: «أو تراكِ تحسنين إعداد بعض الطبخات؟». وما كان منها سوى أن أجابتني بتلقائيتها المعهودة فيها: «اسمع، يا مرزاق، أنا بنت بلاد سيدي عبد الرحمنّ!». وهي تعني بذلك أنها بنت الحضارة والتحضر.
الحديث عن الشاعرة الكبيرة نادية قندوز ذو شجون فقد كرست حياتها للجزائر والشعر، وساهمت في بلورة الجيل الثاني من الكُتاب الجزائريين بالفرنسية، جيل بوجدرة، يوسف السبتي، رشيد ميموني، الطاهر جاووت..الخ، هذا الجيل الذي راح غداة استرجاع السيادة الوطنية يشق طريقه بمنظور جديد للأدب دون أن يتخلى عن نظرة الجيل السابق المتمركزة حول مكافحة الاستعمار التي تميز جيل الثورة، أما جيل نادية قندوز فقد تمحور حول تيمة البناء دون التخلي عن الثورة، إنها تنتمي إلى جيل الثورة والبناء الذي يتصف به جيل السبعينات في الجزائر، سواء بالعربية أو الفرنسية.
تعرفت عليها كشاعرة من خلال قصائدها المنشورة في الصحف الوطنية كالمجاهد والثورة الإفريقية، ثم بعد نشر باكورة أعمالها الشعرية، وهي ديوان «Amal» هكذا (الاسم بالعربية) سنة 1968 من قبل الشركة الوطنية للنشر والتوزيع SNED، ثم ديوانها الثاني La corde «الحبل» سنة 1974.
ثم تعرفت عليها عن قرب أثناء طرح الميثاق الوطني للنقاش في اتحاد الكتاب الجزائريين سنة 1976 ومنذ ذلك الوقت ونحن على اتصال دائم خاصة وأنها تقيم بحي ميسوني القريب من اتحاد الكتاب وجارة لكاتب ياسين، إلى أن جاءنا خبر وفاتها كالصاعقة ذات4 أفريل 1992.
كانت مواظبة على مختلف النشاطات الثقافية المزدهرة في ذلك الوقت «الموقار، النفق الجامعي، الكابري، اتحاد الكتاب، المركز الثقافي الإسلامي»، كما أحيت أمسية شعرية رائعة في الموقار حيث كان يشرف عليها محمد الأخضر عبد القادر السائحي.
تؤكد أنها لا تكتب للنخبة بل تكتب للبسطاء من الناس وأغلب قصائدها كانت عن الثورة والقضايا الاجتماعية، كما أن شعرها يميل نحو المباشرة والسردية وتبتعد تماما عن الحذلقة والعبارات الطنانة، لقد اكتسبت هذه النظرة من اندماجها الكلي في ثورة التحرير المجيدة، فالكلمة مثل الرصاصة المنطلقة لها اتجاه واحد .
في سنة 1986 كانت رفيقتي في رحلة إلى سوريا بدعوة من الاتحاد العام للأدباء والكُتاب العرب، حيث أقمنا حلقة نقاش حول الشعر الجزائري الحديث ثم أحيينا أمسيات شعرية في اللاذقية وحلب، كانت جد فرحة وهي تكتشف عبق الشرق، لكنها تألمت كثيرا وهي ترى حطام مدينة القنيطرة، وقفت أمام حطام قاعة السينما، ذرفت دموعها، ثم قالت: هنا كان يصنع الفرح، ويسرح الخيال، أما الآن فقد صار شاهدا على فظاعة الحرب ووحشية الإنسان.
في صيدانايا، حيث توجد أقدم كنيسة، دخلت في نقاش مع أحد الآباء اعترف بأنه تعلم الفرنسية، في الجزائر التي أقام في أحد كنائسها سنوات 1952 إلى 1955.
في اللاذقية وقفت في مينائها وقالت: من هنا كانت تتدفق أنوار الشرق على الغرب، من هنا كانت أوغاريت أول أبجدية. في حلب وقفت في مدخل قلعة حلب وقالت: من هنا مر المتنبي، أبوفراس، وسيف الدولة الحمداني. في معرة النعمان ألحت على زيارة قبر أبي العلاء المعري، كانت رحلة في أعماق التاريخ.
في بلدية سانت اوين الفرنسية، المحاذية لمدينة باريس، ثارت ضجّة كبرى وأصدرت مناشير وبيانات شجب واسعة، من طرف أنصار اليمين المتطرف وأعداء الجزائر المستقلة، تنديدًا برئيسة بلدية سانت اوين، السيدة جاكلين دومبروفيل، المنتمية للحزب الشيوعي الفرنسي، والتي بادرت سنة 2008، بإطلاق اسم الشاعرة الجزائرية الراحلة نادية قندوز، على شارع رئيسي من شوارع المدينة، حيث تعرّضت لحملة شعواء، من طرف المناوئين لمبادرتها، وقد حاولوا بكل وسائل الضغط والترهيب، ثني البلدية عن مشروعها، والسعي الحثيث إلى محاولة نزع اللوحة المتضمنة اسم الشاعرة الجزائرية، والتي تحوي إلى جانب معلومات تتضمن مهنتها كممرضة وصفتها كشاعرة، عضويتها كمجاهدة في صفوف جبهة التحرير الوطني، الأمر الذي أثار سخطهم وامتعاضهم. غير أن إصرار السيدة جاكلين المعروفة بمواقفها المناهضة للعنصرية، والتي انتخبت على رأس بلدية سانت اوين لأزيد من خمس عشرة سنة، إلى غاية شهر أفريل 2014، حال لحسن الحظ دون تحقيق غايتهم.
ولعل مسار صاحبة ديوان «أمل»، أثناء إقامتها في فرنسا، من خلال شرعية نضالها وإخلاصها لوطنها، إضافة إلى إجادتها اللغة الفرنسية إلى حد التميّز الشعري بها، الدافع الرئيسي من وراء فكرة إطلاق اسم الشاعرة الراحلة نادية قندوز على شارع من شوارع بلدية سانت اوين، على مقربة من مدينة باريس، إضافة طبعا إلى شجاعة السيدة جاكلين دومبروفيل، رئيسة بلدية سانت اوين الفرنسية، في تبني مبادرة جريئة، ضمن محيط معاد، لا يزال للأسف يحمل الكثير من الضغائن، ولا يزال لم يهضم بعد فكرة استقلال الجزائر.
ها هي إذًا نادية قندوز، تزعج بعد مرور عقدين أو أكثر من وفاتها، لأنها لم تكن أديبة وشاعرة فحسب، كانت علاوة على ذلك مناضلة ملتزمة بقضايا وطنها، لم تتردّد لحظة واحدة، في تلبية نداء جبهة التحرير الوطني. عندما التحقت بفرنسا مطلع الخمسينيات، انخرطت مباشرة في صفوف فيدرالية جبهة التحرير بفرنسا، وتعرّضت بسب نشاطها الثوري إلى الاعتقال، كانت مؤمنة بالدور الطلائعي للكاتب، مدركة لمسؤوليتها الحقيقية اتجاه قضايا وطنها. كما أن مسارها النضالي لم يتوقف حتى وهي تعود إلى أرض الوطن بعيد الاستقلال، من خلال انخراطها في صفوف الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات كامرأة مناضلة، ومن خلال عضويتها في اتحاد الكتاب الجزائريين كامرأة مبدعة. كما أنها لم تتردّد لحظة واحدة وهي تلتحق بصفوف الشباب الجزائري المطالب بمزيد من الحريات أثناء أحداث أكتوبر 1988، وسرعان ما تعرّضت للاعتقال. الاعتقال مرة أخرى، ولكن هذه المرة في بلدها الذي كافحت من أجل استقلاله، ولعلها الصدمة التي أضفت مسحة كآبة تشبه الخيبة، انعكست جلية على منجزها الشعري. وهكذا كتبت تحت وطأة الصدمة عملين شعريين وهما: «حالة حصار» و»صيف تحت الدبابات»، كما عبّرت عن إحباطها غير نادمة –رغم كل ما حدث- على قرار عودتها إلى وطنها، رغم خيبة المآل في آخر حديث أجرته معها صحيفة وطنية: «اخترت في حياتي أن أكون سجينة في وطني، على أن أبدّل سجني هذا بحريات لاجئ وغريب عن وطنه في أوطان أخرى».
بدت نادية قندوز خلال السنوات الأخيرة قبل رحيلها، محبطة، على المستوى الشخصي، وعلى مستوى الواقع العام للبلاد التي كانت تعيش آنذاك إرهاصات العشرية الدموية، وقد عبّرت عن ذلك متحسّرة: «لا أصدقاء، لا تضامن، لا ثقافة جادة نتقاسمها، لا شيء سوى الفراغ».
ترى كيف سيكون موقفها لو علمت أن فرنسا التي حاربتها، خلّدتها بلوحة في أحد شوارع مدنها، وأنّ الجزائر بلدها الذي ناضلت من أجل استقلاله، لا زال لم يفكّـر بعد في إطلاق اسمها على شارع أو مدرسة، فضلاً عن جامعة؟.
الغريب، أن أول ما يتبادر إلى ذهني عندما أفكر في الشاعرة والمناضلة والإنسانة، أمي «نادية قندوز»، هو حبها الكبير والعظيم للجزائر، فحبها هذا أكثر وأكبر من أي شيء آخر. رغم أن الجزائر لم تقدرها كما يجب، لكن المهم في الحكاية بشأن التقدير/أو التكريم الرسمي، أنها لم تكن تبحث عنه أبدا، ولم تفكر يوما في هذا، كان يكفيها اعتراف وحب وتقدير الناس البسطاء من أهل وجيران وأحباب وأصدقاء. أما بالنسبة للتقدير الرسمي فلم يكن يعني لها شيئا.
لقد كرمتها وخلدتها فرنسا بإطلاق اسمها على شارع من شوارع بلدياتها الباريسية، وهذا في حد ذاته شيء عظيم، وشرف كبير لنا نحن كعائلتها ولكل الجزائريين وللجزائر أيضا، هذا اعتراف كبير بها وبمكانتها الأدبية والنضالية والإنسانية، لكن من جهة أخرى تأسفنا جدا، لأنها في وطنها الذي كافحت من أجله وضحت بكل وقتها وشبابها وسنواتها من أجل استقلاله وتنميته لم تنل منه أي تقدير أو اعتراف، حتى بعد وفاتها لم يلتفت هذا الوطن، إليها ولا لمسيرتها الأدبية، الغريب، أننا كنا نعتقد أن الشخص الذي تُعلن وفاته في نشرات الثامنة الإخبارية هو شخص مهم، لكن يبدو أن أهميته تكمن فقط في لحظة إعلان الوفاة، بعدها تُطوى ملفاته وحياته وانجازاته وترسل إلى النسيان الأبدي.
كانت أمي تحب الجميع، وكان منزلها ملجأ لكل المثقفين وأيضا لكل البسطاء من المعوزين والأغنياء والمعارضين وحتى الوزراء. وهذا كلفها غاليا، إذ اعتقلت أياما قليلة قبل أحدات 5 أكتوبر عام َ1988.
وهذا ما جعلها تعيش حالات حزن وكآبة، كما كانت حزينة لرؤية النسور تدمير بلادها التي ناضلت من أجلها، وقد عبرت عن هذا في بعض قصائدها الأخيرة.
يبقى في الأخير، أن الاحتفاء بهذه الكاتبة والمناضلة ابنة الجزائر، من مهام أهل الثقافة في بلادنا، أما نحن أولادها ومعارفها فإن لنا أشكالا أخرى للاحتفاء بها، ومنها أننا نسعى إلى إعادة نشر أعمالها وكذلك نسعى لنشر مقالاتها في كتاب.
الزائر إلى شوارع سانتوان، يُفاجأ بوجود شارع يحمل اسم الشاعرة الجزائرية نادية قندوز وقد كُتب على اللوحة «شاعرة ومناضلة في جبهة التحرير الوطني»، لقد أرادت البلدية اليسارية الشيوعية الفرنسية تكريمها رغم أن نادية لم تكن في يوم ما شيوعية.
حينما قرأت اسم نادية على اللوحة، فلاش بك، جعلني أعود إلى الماضي، إلى عشرية الثمانينات حينما كانت نادية مع مجموعة من المثقفين يسعون إلى تنشيط إتحاد الكتاب الجزائريين، وكانت نادية وحيدة وسط المعربين بحيث لم تعر أي اهتمام للجدل الدائر آنذاك بين الكُتاب بالعربية والكُتاب باللغة الفرنسية وقد تجاوزت نادية ذلك بحبها وطرافتها مع الجميع.
والملفت للانتباه أن بيتها كان مفتوحا للجميع، وكان الجميع يحترمها ويرى فيها تلك السيدة الحساسة الصادقة، وبالفعل فإنها فرضت نفسها في هذا الوسط الرجالي وقد ساعدها مِزاجها على العيش مع الجميع، فقد كانت ناشطة في الإطار الرسمي وفي الإطار غير الرسمي، فمثلا كان بيتها الذي يوجد في حي ميسوني وسط العاصمة يؤمه الجميع. كان مكانا لاجتماعات المثقفين العضويين ولغير العضويين، فقد استقبلت في بيتها اجتماع تجمع الأدباء والفنانين والمثقفين الذين كانوا يكافحون من أجل الديمقراطية وربما هو الأمر الذي جعلها تدفع ثمنا غاليا، فقد تم اعتقالها ليلة أحداث أكتوبر88 ونامت نادية في مركز أمني، بعد أن تم توقيفها يوم حفل خطوبة ابنتها أمال وقد كتبت نادية عن حالة الحصار بعد أحداث أكتوبر، وكانت صدمة أكتوبر الدموية عليها كبيرة، حينما زرتها في آخر مرة ببيتها، وكنتُ حينها مراسلا لصحيفة الخبر وأشرف على صفحة بعنوان «ضيف الأسبوع»، أتذكر أن نادية كانت طريحة الفراش، وكانت تقول لي بأن الأمراض التي تلاحقها الآن هي ناتجة عن الأوقات العصيبة التي عانت منها يوم اعتقالها في أحداث أكتوبر في إحدى مراكز الشرطة بالعاصمة، وكانت حزينة لذلك جدا، خاصة أنها مناضلة نسوية معروفة في جبهة التحرير الوطني، وسُجنت من طرف الإدارة الاستعمارية الفرنسية لكفاحها من أجل استقلال بلادها وقد سلمت لها السلطات الجزائرية ميدالية عام 1986 اعترافا بما قدمته خلال حرب الجزائر. فمن هو المثقف والفنان الذي لم يأكل ملح نادية قندوز ولم يعرف بيتها وأولادها، وأنا أتذكر جيدا ذلك الاحتفاء الذي بادرت به نادية في استقبال فؤاد نجم والشيخ إمام ونفر من المثقفين والفنانين ببيتها، وقد أكلنا جميعا على مائدتها وغنينا هذا اليوم مع الراحل الشيخ إمام.
كانت نادية مليئة بالإنسانية وبحب لقاء الأفكار، هذا ما رسخ في فكري وقد حدثتني يوما أن أول أشعارها ألقتها في مقهى بالعاصمة حينما كان للمقهى قيمته الثقافية. وبعد أن توقف كل شيء نهاية السبعينيات اضطرت نادية لوضع بيتها تحت تصرف مثقفي وفناني بلدها.
الذي أعرفه أيضا عن نادية أنها رفضت وضع «الحايك» صغيرة وأن أخاها ووالدها كانا يرافقانها إلى المدرسة إلى غاية ما وضعت «المرمة» وهي صاحبة العشرين من عمرها، وقد اضطرتها ظروف الحرب العالمية الثانية والاحتلال والحاجة للعيش أن توقف دراستها وقد مرضت نادية أشد المرض في طفولتها في منتصف الأربعينيات بسبب مرض «التيفيس» الذي أصاب آلاف الجزائريين ونجت منه بصعوبة وقد قضت أكثر من ثلاث سنوات في مستشفى الدويرة الذي كان علامة فاصلة في تعلمها أكثر واختيار مهنة حياتها، فمن لقاءها بأحد الفرنسيين النشيطين في الميدان الإنساني بالمستشفى كان يزور الأطفال ويعطيهم الكُتب والحلوى تعلمت نادية مثلما قالت لي حينها: «تعلمت معنى الحرية والثقافة واحترام الآخرين مثلما تعلمت كيف تفتك الحرية وتفرض المرأة وجودها في مجتمع محافظ». وقد سمح كفاح نادية بأن تختار مهنة التمريض بعد أن لاحظت كيف أن أطفال الجزائر يعملون ماسحي أحذية ويبيعون «المعدنوس» في الأسواق.
شعريا، أعرف أن نادية نشرت أول ديوان لها بعنوان «الأمل» عام1968 والثاني بعنوان «الحبل» عام1974، وكانت نادية تقول لي بأنها سعيدة كثيرا حينما عثرت على أبيات شعرية لها في الكتاب المدرسي الجزائري.
كانت نادية قندوز تحب الاكتشاف ومن بين هذه الاكتشافات التي حكتها لي أنها شاركت كضيفة في ملتقى الفكر الإسلامي في مدينة بجاية، ومما أسرها ولاحظته في هذا الملتقى الدولي الذي جمع كِبار علماء الفكر الإسلامي من الكثير من دول العالم هو عمائم الشيوخ وقد عرفت حينها تميز كل بلد بعمامة وانتشت كثيرا بروائح العلماء وكتبت قصيدة شعرية حينها حول «العمامة».
بعد سنوات من رحيلها لم يعد العلماء يجتمعون في مؤتمر الفكر الإسلامي ولم نعد نرى العمائم، ولم يعد بيت نادية يستقبل الأدباء والكُتاب ولم يعد من طعم لشارع ميسوني الذي لا توجد فيه نادية قندوز.