تفاصيل مجهولة ترويها الأمريكية إيلين مختفي عن تواجد الفهود السود في العاصمة
نشرت المجلة الأدبية البريطانية “لندن ريفيو أوف بوكس” في عددها الصادر مطلع شهر جوان ، شهادة مثيرة للصحفية والمترجمة والناشطة الأمريكية إلين مختفي، التي عاشت في الجزائر وعملت في وزارة الإعلام ما بعد الاستقلال، حيث روت فيها تفاصيل مثيرة عن لجوء أعضاء من حزب الفهود السود الأمريكي الذين رافقتهم في الجزائر العاصمة وافتتاحهم لأول منبر دولي للدفاع عن قضيتهم بها، كما تحدثت عن الدعم الذي تلقوه من الجزائر التي تبنت قضيتهم ودافعت عنهم في مواجهة العنصرية التي تعرض لها مجتمعهم عبر التاريخ بسبب لون بشرتهم، لتصل في النهاية إلى قصة الانقسام الذي شهده الحزب ونهاية نشاط الممثلية الدولية.وقمنا بترجمة نص هذه الشهادة من اللغة الإنجليزية، حيث جاء النص الأصلي تحت عنوان “الفهود في الجزائر العاصمة”، في سياق شهد في الفترة الأخيرة نقاشا على مواقع التواصل الاجتماعي عن نظرة الجزائريين إلى اللاجئين من دول الساحل.
ترجمة: سامي حباطي
في سنة 1951، غادرت الولايات المتحدة الأمريكية نحو أوروبا حيث عملت كمترجمة في المنظمات العالمية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، على غرار الوكالات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة والجمعيات الطلابية والشبابية والفروع التابعة للاتحادات التجارية. كنت أخطط لزيارة فرنسا لفترة قصيرة، لكنني مكثت فيها حوالي عشر سنوات، ولم يكن ممكنا لأي شخص يعيش في باريس آنذاك التهرب من اتخاذ موقف من الحرب في الجزائر بتأييد أحد الطرفين. خلال ندوة عالمية للشباب بعاصمة غانا “آكرا” في سنة 1960، أنشأت علاقة صداقة بممثلي الجزائر فرانز فانون السفير المتنقل للحكومة الجزائرية المؤقتة ومحمد سحنون من حركة الطلبة الجزائريين في المنفى، وسافرت بعد ذلك إلى نيويورك لألتقي بعبد القادر شندارلي، مسؤول المكتب الجزائري بالأمم المتحدة، حيث دعاني للانضمام إلى فريقه، الذي يسعى إلى حشد مواقف مؤيدة لاستقلال الجزائر بين الدول العضوة في الأمم المتحدة.
عدت إلى الجزائر بعد الإعلان عن الاستقلال في سنة 1962، وقد مثلت المناصب الشاغرة نتيجة مغادرة ما يقارب المليون أوروبي فرصة للحصول على وظيفة في كل وزارة وقطاع، حيث وجدت نفسي بعد فترة قصيرة أعمل في مكتب الصحافة والإعلام للرئيس أحمد بن بلة، أين كنت أستقبل الصحفيين الأجانب وأرتب المواعيد وأوافي الصحفيين من أوروبا والولايات المتحدة بالمعلومات، حتى أنني تعلمت تقليد توقيع بن بلة لفائدة المعجبين به.
أول الفهود السود وصل إلى الجزائر من كوبا
بقيت في الجزائر بعد وصول هواري بومدين إلى الحكم في سنة 1965، واتخذت لنفسي بيتا فيها، كما كنت سعيدة بحياتي هناك وعملي في الصحافة الوطنية، لكن الأحداث أخذت منعرجا عجيبا في سنة 1969، عندما تلقيت اتصالا في ساعة متأخرة من إحدى الليالي من شارلز شيكيرما، ممثل الاتحاد الشعبي الإفريقي الزيمبابوي، الذي كان من بين حركات التحرر التي تملك مكتبا في الجزائر، حيث أخبرني بأن إلريدج كليفر من حزب الفهود السود الأمريكي نزل في المدينة ويحتاج إلى المساعدة.
أتذكر جيدا ذلك اليوم من شهر جوان، عندما سرت نزولا بين شارع القصبة والجزء الأوروبي من المدينة نحو نزل صغير من الدرجة الثالثة يسمى فيكتوريا. صعدت أربعة أدراج من السلالم وطرقت الباب. فتح كليفر الباب، وكانت خلفه مباشرة فوق السرير زوجته كاثلين الحامل في شهرها الثامن. لم يفارقني شعور الانبهار الذي أحسست به ذلك اليوم أبدا. يمكن استذكار عيوب حزب الفهود السود بشكل واضح، لكنهم نقلوا المعركة إلى الشوارع، وطالبوا بالعدالة وكانوا مستعدين لحمل السلاح من أجل حماية مجتمعهم، وقد دوت شعاراتهم داخل الغيتوهات عبر كامل تراب الولايات المتحدة، كما استنكروا الأمبريالية الأمريكية عندما كانت حرب الفييتنام في ذروتها.
تمكن كليفر من الوصول إلى الجزائر سرا باستعمال وثائق سفر كوبية، حيث دفع كفالة وفر إلى هافانا بعد متابعته في قضية نصب كمين لسيارة شرطة بأوكلاند. وقد أمضى ستة أشهر كضيف غير شرعي بهافانا قبل أن يتمكن صحفي من كشف هويته. قام الكوبيون بوضعه في طائرة متجهة نحو الجزائر العاصمة دون إبلاغ السلطات الجزائرية، رغم أنهم أخبروا كليفر بأن جميع التدابير تم اتخاذها مع الحكومة الجزائرية، من أجل أن يتم استقباله بذراعين مفتوحين حتى يتمكن من استئناف نشاطه السياسي الذي حُرم منه في كوبا، لكن الذين تكفلوا به في السفارة الكوبية لدى الجزائر أخبروه عند وصوله بأن الطرف الجزائري لم يبد إرادة بمنحه اللجوء.
لم يسبق لي أن علمت بأن السلطات الجزائرية رفضت منح أحد ما اللجوء مهما كانت جنسيته، وبما أنني كنت الأمريكية الوحيدة التي تعرفها السلطات المحلية، فقد كنت غالبا ما يتم استدعائي من أجل الترجمة وتوضيح الأمور والتكفل بالأمريكيين الذين يأتون غير مدركين بأن قلة قليلة فقط كانت تتقن الإنجليزية وتتحدثها بصعوبة في الجزائر.
في ساعة لاحقة من ذلك اليوم، تحدثت مع المسؤول المكلف بالحركات التحررية، الرائد سليمان هوفمان، وهو متخصص في الدبابات فر من الجيش الفرنسي ليلتحق بصفوف جيش التحرير الوطني خلال الثورة، وقد كان مقربا من بومدين. شرحت له بأن كليفر يريد أن يظل في البلاد وأن ينشط ندوة صحفية عالمية، حيث وافق هوفمان مباشرة، لكنه أصر على أن يتم الإعلان عن تواجد كليفر من طرف وكالة الأنباء الجزائرية. وقد قال لي كليفر عدة مرات “إنك أنقذت حياتي”، حيث كان مقتنعا بأن الكوبيين تخلوا عنه.
انعقدت الندوة الصحفية في صالة مليئة بالطلبة، والمنتسبين إلى وسائل الإعلام المحلية والعالمية، بالإضافة إلى دبلوماسيين وممثلين عن الحركات التحررية من مختلف دول العالم، كما حضرت جوليا هيرفي، ابنة ريتشارد رايت، من باريس من أجل القيام بالترجمة الفورية من الانجليزية إلى الفرنسية، في حين قمت أنا بنفس العملية إلى اللغة الانجليزية لفائدة كليفر، الذي قال في الندوة “نحن قطعة أصلية من تاريخ إفريقيا” وأضاف أيضا “يعلمنا الأمريكيون البيض بأن تاريخنا يبدأ من وصولنا إلى أمريكا وبأننا لا نملك ماض آخر. يجب أن نستعيد ثقافتنا”.
وفد من الفهود في أول مهرجان ثقافي إفريقي
منذ ذلك الوقت شكلنا فريقا. لقد كان كليفر طويلا –بدا لي شاهقا- وجذابا، كما كان يتمتع بحس فكاهة عال وعينين خضراوين معبرتين. جمعني به رابط قوي، لم نمارس الحب لكننا تبادلنا الكثير من الأسرار. عندما قدم آل كليفر، كنت أعمل في وزارة الإعلام على تنظيم المهرجان الثقافي الإفريقي الأول، حيث وجب علي جمع موسيقيين وراقصين وممثلين ومثقفين من كل بلد من إفريقيا، بالإضافة إلى مثقفي الدول الإفريقية في الخارج بما فيهم أعضاء من حزب الفهود السود في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد عمرت شوارع الجزائر العاصمة لأكثر من أسبوع بعروض مختلفة طيلة اليوم، أحياها فنانون مختلفون، منهم آرشي شيب ومريم ماكيبا وأوسكار بيترسون ونينا سيمون، التي اضطررنا إلى إلغاء عرضها الأول بعد أن وجدتها أنا ومريم ماكيبا في حالة سكر تام بغرفتها بالفندق، ما أثار صدمة في نفوس عمال الفندق المحليين، فهم لم يروا من قبل امرأة ثملة.
مكث وفد الفهود السود بفندق “آليتي”، وهو الأفضل بوسط مدينة الجزائر، كما مُنحوا واجهة أطلق عليها تسمية المركز الثقافي الأفرو-أمريكي بشارع ديدوش مراد، الذي يعتبر واحدا من المحاور الرئيسية والحيوية، أين وزع أعضاء الحزب مؤلفاتهم الأدبية وعرضوا أفلاما إلى غاية ساعات متأخرة من الليل. وقد اندمج كليفر ورفاقه، الذين كان عدد كبير منهم لاجئا من العدالة من الأمريكية، مع مجموعة الحركات التحررية الأخرى، لكن الفهود قد يكونون لم ينتبهوا أو ربما لم يولوا اهتماما لكون المجتمع الجزائري محافظ ومنغلق، كما لا تتمتع فيه المرأة بحرية حقيقية وينتشر بين سكانه نوع من العنصرية تجاه السود، فضلا أن كرم الجزائر يتطلب احترام بعض أدبيات المعاملة، التي يجب أن ينتهجها الضيف من جهته أيضا، لكن الفهود تجاهلوا كل الأمور التي لم يرغبوا في التعامل معها.
غادر وفد الفهود السود إلى كاليفورنيا بعد انتهاء المهرجان، ليعود المنفيون إلى العمل، حيث وصلتني دعوات خاصة بكليفير للالتقاء بسفير الفييتنام الشمالية والصين وكوريا الشمالية، بالإضافة إلى ممثلي حركة التحرير الفلسطينية وجبهة التحرير الوطنية لجنوب فييتنام “الفيتكونغ”. وقد رافقته في هذه اللقاءات، التي كان فيها واثقا من ذاته ومتمكنا ويتصرف كدبلوماسي محنك، بما لا يعكس ماضيه الإجرامي السابق ومستواه التعليمي المحدود.
كليفر يقتل رفيقا له من الفهود ويدفنه في العاصمة
بعد فترة قصيرة من وصول كليفر، وجه له سفير كوريا الشمالية دعوة إلى بيونغ يونغ للمشاركة في المؤتمر العالمي للصحافين المعادين للإمبريالية الأمريكية، وتحول كليفر إلى نجم المؤتمر ومكث هناك لأكثر من شهر. وذات صباح بعد عودته، جاء إلى وزارة الإعلام، أين كنت أعمل رفقة فريق صغير على مجلة سياسية موجهة لتوزع عالميا، وقد كان يضع نظارات شمسية وترك جسده يغرق على مقعد بجوار مكتبي، ثم قال بصوت خفيض ودون أية مقدمات “لقد قتلت رحيم ليلة أمس”. لم أصدق ما سمعته. هرب رحيم، المعروف أيضا باسم كلينتون سميث، من سجن بكاليفورنيا مع زميل له يسمى بايرون بوث، في شهر جانفي من سنة 1969، ثم قاما باختطاف طائرة إلى غاية كوبا قبل أن ترسلهما هافانا إلى الجزائر بعد فترة قصيرة من وصول كليفر إليها.
وأخبرني كليفر بأن رحيم سرق أموال الفهود وكان يخطط للانفصال عن الحزب، حيث قام هو وبوث بدفن جثته في مكان غابي يقع خارج المدينة وقريب من البحر. بعدما أنهى كلامه وضع على رأسه القبعة التي ظل يلهو بها بيديه وخرج من المكتب. لم أستطع محو وجه رحيم من بين عيني. هل ظن بأنه بوسعي مساعدته في حال اكتشاف السلطات الجزائرية للجريمة وتقرر اتخاذ إجراءات بشأنها؟ بعد بضعة أيام، أخبرني صديق فرنسي بأنه شاهد رحيم وكاثلين كليفر ‘يتبادلان القبل’ في ملهى ليلي عندما كان كليفر بكوريا الشمالية، لكن صديقي لم يكن يعلم بأن رحيم ‘اختفى’، وعندما التقيت بكليفر في المرة القادمة، أعلمني بأنه تم اكتشاف الرفاة، وأضاف بأنه من الواضح بأن الضحية إفريقي أمريكي من لون بشرته والوشوم التي يحملها، حيث غادر بوث الجزائر في تلك الفترة، في حين استدعي صديق فرنسي للفهود السود إلى مقر الأمن من أجل التعرف على الجثة، لكن لم يتصل أي أحد من السلطات الجزائرية بالفهود أو بي، رغم أنني متأكدة بأن حادثة القتل قد سُجلت.
ميلاد أول سفارة للفهود السود في الجزائر
شكلت التبرعات واحدا من أهم مصادر تمويل الفهود، بالإضافة إلى التسبيقات على مشاريع الكتب التي شرع فيها كليفر، لكن الولايات المتحدة جمدت فوائده من عائدات بيع كتابه «روح وجليد»، الذي يحتوي على مجموعة من الاعترافات جعلت منه شهيرا. وذات ليلة وأثناء تناول طعام الغذاء تناقشت مع كليفر حول إيجاد طريقة للاعتراف بما كان يسميه الفهود آنذاك بـ»الفرع العالمي لحزب الفهود السود» كحركة تحررية ممولة، ما سيسمح لها بالحصول على الكثير من الامتيازات ومداخيل شهرية ثابتة. وقد قمت بنقل المشكلة إلى امحمد يزيد، الذي كان أول ممثل للحكومة الجزائرية المؤقتة في نيويورك، حيث كان يتقن الانجليزية ويتحدثها بطلاقة كما تزوج بأوليف لاغارديا، قريبة عمدة نيويورك السابق.
دعانا امحمد لمشاركته طعام الغذاء في منزله الواقع خارج الجزائر العاصمة، والذي يعود إلى الفترة العثمانية. جلسنا جميعا إلى طاولة في الحديقة، كان بيننا آل كليفر ودون كوكس، القائد العسكري السابق لحزب الفهود السود المعروف باسم «دي سي» أو المُشير (رتبة عسكرية رفيعة). وقد أذهلنا امحمد بقصصه عن حياته في نيويورك، وفي نفس الوقت كان يقوم بتقييم ضيوفه، لكن الاجتماع سار بشكل جيد، وبعد مدة قصيرة، اتصل بنا وأخبرنا بأن السلطات قررت منح الفهود فيلا تقع بمنطقة الأبيار وكان يستغلها أعضاء وفد الفيتكونغ سابقا. كما أخبرنا بأنه سيتم ربطهم بخط الهاتف والتيليكس كما سيُمنحون بطاقات تعريف جزائرية، بحيث لا يحتاجون بعد ذلك إلى تأشيرات للدخول والخروج من الجزائر، فضلا عن تمكينهم من إعانات مالية شهرية.
لماذا قررت السلطات تدعيم الفهود بشكل أكثر علنية ووضوحا؟ ربما لأنه من الممكن أن تستعمل ذلك كورقة ضغط في مفاوضاتها مع واشنطن حول احتياطي الجزائر من البترول والغاز، لكن كانت هناك دوافع إيديولوجية أيضا، فقد بدا جليا بالنسبة لكل من يعيش في الجزائر آنذاك، بأنها لم تكن دولة محايدة من الصراع بين القوى العظمى، وعلاقتها بالاتحاد السوفياتي نشأت منذ حرب التحرير مع الكرم الذي أبداه المعسكر الشرقي، حيث وفر لها الأسلحة والتدريب والتعليم. وقد شعر كليفر بسعادة غامرة بعد تلقيه اعترافا رسميا، وفي شهر ماي أرسل زوجته الحامل إلى كوريا الشمالية لتضع مولودها، فقد كان سائدا بأن مستوى المعرفة الطبية وظروف التكفل بكوريا لا يمكن مضاهاتها، كما أن هذا القرار سيوطد علاقة حزب الفهود السود ببيونغ يونع. في الوقت نفسه، تعرف كليفر على امرأة جزائرية رائعة تدعى مليكة زيري التي أصبحت إلى جانبه دائما، لكن أن تلصق امرأة نفسها برجل أمريكي أسود يكبرها بـ15 سنة على الأقل بشكل علني، فذلك أمر يتطلب ثقة كبيرة في النفس داخل مجتمعها.
لقد كان الفهود نجوما في الجزائر، لكن بريقهم كان محل نقد أيضا. فقد استطاعوا الوصول إلى موارد لم تكن متاحة لغيرهم من الحركات التحررية، على غرار السيارات والمنازل والتغطية الإعلامية وزيارات المشاهير، كما واعدوا نساء جزائريات وأجنبيات جذابات بشكل علني، وما زالت صورة سيكو أودينغا، المنفية من فرع الفهود بنيويورك، ترتسم في عيني وهي تقود سيارتها الحمراء منزوعة الغطاء على طول شارع ديدوش مراد، ولا يوجد خلف المقود إلا أمريكية بشعرها الكستنائي.تم الافتتاح الرسمي لمقر الفرع العالمي يوم 13 سبتمبر 1970، حيث أخبر كليفر الجمهور الذي تجمع بـ’السفارة’ ‘بأنها المرة الأولى التي يتم فيها إنشاء ممثلية في الخارج في تاريخ صراع المجتمع الأسود في أمريكا’. بعد بضعة أسابيع، نشر الصحفي الفرنسي الأمريكي سانش دو غارمون، قصة رئيسية في مجلة نيويورك تايمز تحت عنوان ‘رجلنا الآخر في الجزائر’.
ليري صاحب مفهوم حرية الإدراك في الجزائر
ولم ينقض وقت طويل على افتتاح السفارة حتى قدم تيموثي ليري، الملقب بالكاهن الأعلى للمؤثر العقلي ثنائي أميد حمض الليسرجيك وصاحب شعار «تقدم واضبط نفسك ثم أطلقها»، إلى المدينة رفقة زوجته، حيث كان قد هُرب من السجن من طرف منظمة «ويذير أندرغراوند» اليسارية، بعد أن دفعت لها أخوية الحب الأبدي الهيبية 25 ألف دولار وهناك من يقول 50 ألف مقابل ذلك، كما كانت الأخيرة عبارة عن مجموعة من كاليفورنيا تقوم بتصنيع وترويج نوع قوي من الماريخوانا وعقار ثنائي أميد حمض الليسرجيك.وقد وصف نيكسون ليري بأخطر رجل في أمريكا، لكنني أنا وكليفر قدمنا رواية أقل حدة عن ليري عندما روينا قصته لسليمان هوفمان، مركزين على مسيرته المهنية كأستاذ بجامعة هارفارد، كما أن كليفر قدم لهوفمان ضمانات بأنه قادر على التحكم في استعمال ليري للمخدرات ونوبات الجنون التي تنتابه، فتمنى لنا الرائد أن تسير الأمور بشكل جيد. كان انطباعي الأول عن آل ليري بأنهما يواكبان آخر الموضات، لكنني لا أعلم ما كنت أتوقع، ربما شيئا أكثر جنونا وإثارة وإبهارا. وقد قرر كليفر باسم الثورة بأنه على ليري إنكار المخدرات، حيث وافق الأخير على المشاركة في تصوير فيلم انتجه حزب الفهود السود ليوجه إلى جماهير الولايات المتحدة.
وبدأ كليفر الحوار بالقول إن الفكرة القائلة إن المخدرات طريق نحو التحرر، ابتكرها «أشخاص واهمون»، لكن الطريق الحقيقي للتحرر يكون بمنظمات مثل «ويذيرمان» وحزب الفهود السود، اللتين كانتا منخرطتين في العمل بشكل مباشر. لكن رد ليري كان مترددا، حيث قال «إن كان تعاطي المخدرات يوقف الثورة وتحرر إخوتنا وأخواتنا ورفاقنا لمدة عشر دقائق، فإنه يجب علينا أن نتوقف عن تعاطي المخدرات لعشر دقائق ... لكن إذا وافق مئات أعوان مكتب التحقيقات الفيدرالي على تعاطي ثنائي أميد حمض الليسرجيك فإننا سنحظى بثلاثين دقيقة لنطلق العنان لأنفسنا فيها».
قرر الفهود السود بعد مدة بأنه يجب على ليري أن يسافر مع وفد إلى بلاد الشام، تم دعوته من طرف حركة فتح، حزب ياسر عرفات، الذي أصبح أكثر القوى هيمنة في منظمة التحرير الفلسطينية بعد ذلك، وقد تم الاتفاق على أنه يجب على ليري أن يتحرك في السر خارج الجزائر، حيث توجهت المجموعة في شهر أكتوبر إلى القاهرة برئاسة دون كوكس وحطت بهم الطائرة هناك بدون حوادث، ثم تنقلوا بعد ذلك إلى بيروت، أين نزلوا في فندق تتردد عليه الصحافة الأجنبية، ما أدى إلى اكتشاف وجود ليري وتطويق المكان، ثم أصبحت خطوات الوفد متابعة إلى كل الأماكن التي يذهبون إليها، ما حال دون تمكنهم من زيارة مخيمات تدريب عناصر فتح في الأردن وسوريا كما كان مخططا له.
وقد غير الوفد مساره وعاد إلى القاهرة، أين أصبح ليري يتصرف بارتياب جنوني وبشكل هستيري، وصار من غير الممكن التحكم به، بحسب ما نقله دي سي، حيث كان يتسلق الجدران ويختبئ خلف البنايات ويرفع ذراعيه صارخا في الشوارع، ما جعل سفير الجزائر في مصر يضعهم جميعا في طائرة ويعيدهم إلى الجزائر. ومنذ ذلك الحين، استأجر آل ليري سيارة وصاروا يقضون الوقت في بوسعادة محتفلين بتعاطي عقار ثنائي أميد حمض الليسرجيك على السجاجيد المنسوجة يدويا. وصحيح بأن صحراء الجزائر شاسعة وتشكل أربعة أخماس مساحة البلاد، لكن المرء لا يكون فيها وحده أبدا. ربما كان آل ليري يبتسمون بوقار ويحيون الرعاة الذين يمرون بهم، لكن الفهود السود لم يقبلوا هذه المجازفات، وقاموا ‘بتوقيف’ آل ليري في سنة 1971 ووضعوهما تحت المراقبة لعدة أيام.
قام كليفر بتصوير شريط لسجينيه، ونشر بيانا إعلاميا تم توزيعه في الولايات المتحدة الأمريكية ورد فيه ‘وقع أمر ما بشكل خاطئ في دماغ ليري ... نريد من أبناء الشعب أن يستجمعوا قواهم العقلية وأن يوقظوا إدراكهم ويتجهوا إلى العمل الحقيقي لتدمير الإمبراطورية البابلية ... إلى كل الذين كانوا يعتبرون الدكتور ليري مصدر إلهام وقيادة، نريد أن نخبركم بأن إلهم قد مات لأن عقله انفجر بسبب العقار الذي يتعاطاه’. وعندما أطلق سراح ليري، اشتكى للسلطات الجزائرية فتم استدعاؤنا من طرف هوفمان. لقد أصبح الجو متوترا جدا، إلى أن قام كليفر والمشير بترتيب المخدرات المسترجعة من ليري وزواره في أكياس -كانت كافية لعشرين ألف جرعة-، ما أصاب هوفمان بدهشة كبيرة، في حين سئم تيموثي منا وقرر الرحيل. لم يعد يخفي مقته لدي سي ولي، وشعرنا بالمثل تجاهه، وفي بداية سنة 1971 غادر دون وداع.
بداية انهيار الحركة وانقسامها
وصل عدد المنتمين إلى الفرع الدولي للفهود إلى الثلاثين، من بينهم رجال ونساء وأطفال، وكان نشاطهم يتم بشكل عسكري وتنظيم صارم، من خلال برامج عمل يومية وتقارير عن جميع الأعمال التي يقومون بها، كما كانوا على اتصال دائم بمجموعات الدعم في أوروبا ومنظمات تحررية أخرى في الجزائر، ونظموا حصصا تدريبية في الدفاع عن النفس وكيفية استخدام السلاح. وقبل فتح السفارة بفترة قصيرة، استفاد القائد الأسطوري لحزب الفهود السود هواي نيوتن من إطلاق السراح المشروط في انتظار مثوله أمام القاضي لمحاكمة جديدة، بعد أن كان قد أمضى ثلاث سنوات في السجن عن تهمة ذبح رجل شرطة. وقد كان في انتظاره عشرة آلاف شخص لتحيته وهو يهم بالخروج من السجن، لكن الرجل الذي عاد مجددا إلى قيادة الفهود لم يكن مستعدا لكل التغييرات التي حدثت في غيابه. لقد أصبح الحزب مركز قوة، جعلت مكتب التحقيقات الفيدرالي عازما على تدميره، حيث صعدت من حربها على أعضائه، بمهاجمة مقرات رئيسية تابعة له وإطلاق جيش من المخبرين الذين يعملون مقابل المال، فضلا عن ترويج معلومات كاذبة حوله.
ردة فعل نيوتن على الوضع الذي وجد عليه الحزب كانت بالمطالبة باستعادة مقاليد الحكم من خلال التخلي عن بعض المجموعات، وإدانة الأفراد الذين فشلوا في الرجوع إلى الطريق. وفي خضم محاولته لاحتواء الوضع وقع في التقدير الزائد للذات، حيث أصبح يعيش في منزل فخم ويحمل بيده عصا. ومطلع عام 1971 ظهر في حصة تلفزيونية صباحية بسان فرانسيسكو، طلب من كليفر عبرها الالتحاق به لإظهار وحدتهما وتخفيف الضغط المتصاعد، لكن أعضاء الفرع الدولي للحزب عقدوا لقاء وقرروا بالإجماع استغلال هذه الفرصة لمواجهة نيوتن، وعندما ظهر كليفر على الشاشة طالب نيوتن بالتراجع عن قراراته بالطرد وبأن ينحي ملازمه دايفيد هيليارد. قام نيوتن بقطع البث، ثم اتصل بكليفر وقال له: «أنت مجرد غر»، قبل أن يطرده من حزب الفهود السود. وقد اتخذت جميع الفصائل والأعضاء عبر الولايات المتحدة موافق مؤيدة له.
كليفر قام بتسجيل شريط البث والاتصال الهاتفي، ثم دعاني بعد ذلك لأستمع له، فقد كان متخوفا من ردة الفعل الجزائرية، لكنني لم أكن أعتقد بأنهم سيتدخلون وقلت له «إنها ليست مشكلتهم يا إلريدج، هي مشكلتك أنت». وأزال الفهود اللافتة التي تحمل علامة حزب الفهود السود من مدخل السفارة، ثم بدأوا يطلقون على أنفسهم اسم ‘شبكة اتصالات الشعوب الثورية’، حيث سعوا إلى تمكين المجموعات اليسارية عبر العالم من تبادل المعلومات وأرادوا تأسيس جريدة موجهة للتوزيع في الولايات المتحدة وأوروبا. وفي أكتوبر من سنة 1971، سافرت أنا وكاثلين إلى الولايات المتحدة من أجل معاينة حجم الضرر الذي سببه الانقسام بين نيوتن وكليفر ولإطلاق الشبكة، حيث أمضينا جولة خطابات عبر البلاد لمدة شهر، ولكننا أدركنا بسرعة بأن الحزب كان في طور الانهيار.
الجزائر رفضت مخالفة الأعراف الدولية لتدعيم الفهود
عملت المجموعة بصعوبة في الجزائر العاصمة، لكن الجزائريين لم يبدوا أي موقف رسمي أو إشارة على أنهم يتابعون تطورات الوضع في حزب الفهود السود رغم أن نيوتن بعث برسالة رسمية إلى الرئيس بومدين أبلغه فيها بأنه تخلى عن كليفر. وفي الثالث من جوان 1972 تلقيت اتصالا من زعيم حزب جبهة التحرير الوطني أخبرني فيه بأنه تم اختطاف طائرة من لوس أنجلوس وهي متوجهة إلى الجزائر العاصمة، كما قال إن المختطفين يطالبون بلقاء كليفر وبحوزتهم 500 ألف دولار تلقوها كفدية مقابل السماح للركاب بمغادرة الطائرة.
وقفنا على إسفلت المطار، أنا وكليفر ودي سي وبيت أونيل القائد السابق للفهود بمدينة كينساس، حيث شاهدنا روجر هولدر الشاب الإفريقي الأمريكي ورفيقته البيضاء كاثي كيركو، ينزلان بهدوء من الطائرة، وقد كان الجميع متحمسين إلى غاية أن أدركنا بأن سلطات الجزائر قامت بأخذ أكياس الأموال ولم تكن تنوي تسليمها لكليفر، لتعيدها فيما بعد إلى الولايات المتحدة ثم منحت روجر وكاثي اللجوء، فأصبحا جزءا من المجتمع المحلي للمنفيين الأمريكيين. في اليوم الأول من شهر أوت وصلت طائرة مختطفة جديدة من ديترويت، لكن المختطفين هذه المرة لا ينتمون إلى الفهود رغم أنهم من السود، ودفعت لهم شركة الطيران «خطوط دلتا» مليون دولار من أجل إطلاق سراح الركاب في ميامي.
لم تتصل السلطات الجزائرية بالفهود في هذه القضية، ثم أعادت مرة أخرى مبلغ الفدية إلى الولايات المتحدة، إلا أن الفهود شعروا بالغضب، حيث صرح كليفر لاحقا بالقول إن «وقع دوي الدولارات جعلهم يهتزون». وجه كليفر بعد ذلك رسالة مفتوحة إلى بومدين قال فيها «إن الذين يحرموننا من هذا التمويل يسعون لسلبنا حريتنا»، وقد أخبر دي سي رفاقه بعد ذلك بأنهم مجانين وانسحب من المنظمة حيث قال «إن الحكومة لن تجازف بمستقبل بلادها من أجل مجموعة من الزنوج ومليون دولار. سنقع في ورطة».
لقد كان على حق، فمن المقلل للاحترام الأخذ على رئيس الدولة الجزائرية بشكل علني. اقتحمت قوات الشرطة السفارة وصادرت أسلحة الفهود السود، كما قطعت خط الهاتف والتيليكس، ثم أغلقت المكان لمدة 48 ساعة. بعد رفع الحراسة، استدعي كليفر من طرف مسؤول رفيع في الدولة، ووجه له توبيخا شديد اللهجة. لكن الجو تحسن بعد أيام، والجزائر لم تكن تنوي التخلي عنهم.
الفهود السود لم يعرفوا إلا القليل عن البلد الذي استضافهم
لم يعرف كليفر وزملاؤه إلا القليل عن البلد الذي استضافهم، فهم لم يغامروا أبدا بالسفر إلى خارج الجزائر العاصمة، كما لم يقرؤوا الصحف المحلية أو يستمعوا للإذاعة. وباستثناء الصديقات الجزائريات، لم تربطهم علاقات إلا ببعض الجزائريين، كما لم يزوروا البيوت الجزائرية أبدا. اطلعوا على القليل فقط من تاريخها الاستعماري، والجرائم التي ارتكبت في حق الجزائريين إبان حرب التحرير وحالة التخلف التي كان يسعى البلد للتغلب عليها. لقد رأوا أنفسهم على أنهم أحرار ويمكنهم التظاهر واستخدام وسائل الإعلام متى يشاؤون، لدرجة أن بعضهم اقترح التظاهر أمام مقر رئاسة بومدين. وقد كان على كليفر أن يذكرهم دائما بأنها الجزائر وليست هارلم، لكنهم لم يكونوا متفهمين حقا لمضيفيهم وسياساتهم أو تحفظاتهم بشأن ضيوفهم الأمريكيين، الذين أساؤوا تقديرهم.
من جهتهم، لم يدر الجزائريون كيف يجب التصرف حيال الفهود، فقد كانت الجزائر منارة قائدة في العالم الثالث ومن العناصر الفعالة في مجموعة دول عدم الانحياز، حيث استضافت ودربت الحركات التحررية من أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، لذلك كان لجبهة التحرير الكثير من الأشياء على المحك ولم يكن بمقدورها السماح لهؤلاء المنفيين الأمريكيين بممارسة الضغط عليها، كما أنها لم تكن لتسمح للمختطفين الدوليين بجعل الجزائر تبدو كبلد لا يحترم الأعراف الدولية.
نهاية السفارة و رحيل كليفر و رفاقه
أصبح فهود الجزائر على مشارف التشرد في العالم، بسبب تداعي المنظمة في الولايات المتحدة الأمريكية وتضاءل الدعم الدولي، حيث غادر كليفر السفارة بعد أن كتب: «الفرع الدولي سفينة غارقة». استُبدلت مليكة بسلسلة من النساء الجزائريات، وتفاجأت بأن واحدة منهن كانت جارة محجبة لي، ولم تكن تغادر العمارة بمفردها أبدا، لكن كليفر تمكن من جذبها إليه عندما كانت تخرج إلى شرفة منزلها لنشر الغسيل، وقد كانا يلتقيان في شقتي، في الفترة التي كانت فيها كاثلين بأوروبا تسعى للحصول على اللجوء لجميع أفراد العائلة.
غالبا ما استعمل كليفر عبارة «كل لنفسه» في العديد من المناسبات، لكنه استعملها هذه المرة ليشير إلى انسحابه من اليسار المُنظم بشكل نهائي، حيث أخذ مجتمع المنفيين في البحث عن حلول فردية للنجاة، وبدؤوا بمغادرة الجزائر في سنة 1972، ومنهم من استقر في دول جنوب الصحراء، في حين حاول آخرون مواصلة حياة سرية في الولايات المتحدة. وهناك من أعضاء المجموعة من توجه إلى فرنسا بجوازات سفر مزورة، ومن بينهم كليفر، الذي عاد إلى الولايات المتحدة بعد عدة سنوات كمسيحي مولود من جديد، لكن الجزائر لم تطرد أيا منهم. منتصف سنة 1973، غادرت المجموعة التي اختطفت طائرة ديترويت، أما روجر وكاثي فقد كانا الأخيرين اللذين غادرا في سنة 1974، التي عاد فيها كوكس المشير، إلى الجزائر العاصمة وعاش وعمل فيها أربع سنوات أخرى.
شكل قدوم الفهود السود إلى الجزائر بالنسبة لي أكثر من مجرد خبرة أو تعلم، فقد آمنت بهم وأحببتهم وشاركتهم أهدافهم، لذلك كان من السيء رؤيتهم يغادرون. لقد رتبت عملية رحيل كليفر، حيث أعددت له جواز السفر الذي سيستعمله، ولقاءه مع الذين سيقومون بتهريبه في الحدود الدولية، كما وجدت له مخبأ بجنوب فرنسا ومنزلا بباريس. وخلال فترة قصيرة من وصوله، تم التكفل به من طرف أشخاص نافذين هناك، حيث تمت تسوية أمر إقامته وحصانته القانونية من طرف وزير المالية الأسبق، فاليري جيسكار ديستان قبل مدة قصيرة من توليه رئاسة فرنسا. لم تعد تصلني أخباره بعد ذلك. ذكرت نفسي بمقولته «كل لنفسه».
س.ح