هل تراجع دور المثقف؟، هل تخلى عن دوره العضوي والريادي في قيادة المجتمع والرفع من مستواه الثقافي. وإن كان الجواب «نعم». فهل هذا راجع إلى الانزواء والسلبية التي يفرضها المثقف على نفسه نتيجة الخوف من النقد أو عدم الرضا على الواقع الثقافي المأزوم والمميع في نظره، ويأسه من إمكانية التأثير والتغيير، أو بسبب حالة التهميش والمحاصرة التي تُفرض عليه من محيطه الخارجي خوفا من آرائه أو نتيجة لعدم انحيازه إلى توجهات معينة. أم أنّ الأمر يعود بالأساس إلى سياقات اجتماعية واقتصادية وسياسية، تؤثر عليه وعلى دوره وحضوره. أين يكمن الخلل تحديدا، هل في المشهد الثقافي الجزائري العام، أم في المثقف؟. هناك من يرى أنّ هذا المشهد أو هذا الوضع الثقافي مأزوم ويعاني من عدة أزمات، السؤال المحوري الذي يفتحه هذا الملف اليوم، هو: هل هي أزمة ثقافة أم أزمة مثقف؟، وهل المثقف هو الشماعة الحقيقية أو الوهميّة التي تُعلق عليها كلّ هذه الأزمات أو الانتكاسات الثقافية؟ حول هذا الشأن، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الأكاديميين والدكاترة من مختلف الجامعات الجزائرية.
إستطلاع/ نــوّارة لـحـرش
لطفي دهينة/ أستاذ وباحث في العلوم السياسية -جامعة الصالح بوبنيدر- قسنطينة 03
انحياز المثقف إلى السياسة وبحثه عن مصالح شخصية خلق أزمة ثقة في الثقافة عموما
يعاني المشهد الثقافي في الجزائر من أزمة متعددة الأبعاد، فهي تتعلق بالمنظومة الثقافية ككلّ وتمس الثقافة كما المثقف على حد السواء، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر نظرا لطبيعة التأثير والتأثر بينهما فهما وجهان لعملة واحدة.
إنّ الأصل في الثقافة هو الارتكاز على مقومات فكرية راقية وقيم إنسانية رفيعة، والهدف من ورائها هو المساهمة في بناء مشروع حضاري متكامل، وبالتالي فإنّ وظيفة المثقف هي حمل قيم الخير والعدل والحرية وغيرها من القيم الإنسانية، والدفاع عنها وكسر القيود الفكرية التي تُكبل العقل والفكر وتعيقه عن التفكير والتحرّر.
إنّ مظاهر الأزمة متعددة ولكن يمكن إيجاز أهمها فيما يأتي: أولا: تمييع الساحة الثقافية حتى فقدت نكهتها، فأصبح الكثير من المفكرين ينحازون إلى الأنظمة السياسية ويبحثون عن مصالح شخصية ضيقة على حساب المبادئ والقيم، وهذا ما خلق أزمة ثقة في الثقافة عموما، وساهم في إبعاد المثقف عن بيئته ومجتمعه وأصبح هذا الأخير لا يشعر بالحراك الثقافي ولا يحس أنّه يمثله ويعبر عن تطلعاته واهتماماته. ثانيا: التراجع الكبير في معدلات القراءة وانحسار دور النوادي الفكرية التي تعتبر من دعائم الثقافة، وحل محلها التفاعل المتزايد مع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وهو سلاح ذو حدين، فمن جهة فسح المجال لفئات عريضة من الناس للتواصل والتعبير عن أفكارها وآرائها، حتى أنّه يتيح الفرصة للمثقف وغير المثقف لعرض أفكاره وتوجهاته بكلّ سهولة، ومن جهة أخرى فإنّه أفسد المزاج الثقافي وجعله في انحدار شديد بسبب التفاعل السلبي مع هذه الوسائل والانحدار القيمي والأخلاقي الذي تعاني منه المواد الإعلامية المعروضة.
ثالثا: التعليم الذي لا ينتج فكرا أو وعيا ثقافيا، وهو اليوم أقرب إلى التلقين والحفظ منه إلى التعليم، وهذا ما يجعلنا لم نفارق بعد المفهوم التقليدي للمثقف على أنّه ذلك الشخص الذي يتمتع بقدرة أكبر على الحفظ والاستظهار، لا ذلك الشخص الذي يحمل فكرا وقيما يدافع عنها ويحاول نشرها وتطويرها، وفي هذا الإطار أصبحت مراكز البحث أماكن للتوظيف لا أماكن لتطوير المعرفة والإشعاع الفكري والحضاري. رابعا: وجود أزمة حوار، حيث أنّ الأصل هو تعدد الآراء والتوجهات واختلافها، وهذا ما يؤدي إلى حالة من النقاش الذي يثري المشهد الثقافي ويبث فيه الحياة، إلاّ أنّ الملاحظ أنّ كلّ طرف يميل إلى عدم تقبل الآخر والانفراد بالرأي، وهذا ما ساهم في تعسير الانعتاق من ربقة الإيديولوجية بمختلف أشكالها مما يجعل الفكر غير خلاّق وغير منتج بل حبيسا للخلفيات والإيديولوجيات التي توجهه بما يخدم مصالحها. خامسا: تراجع دور المثقف، وهذا راجع إمّا إلى الانزواء والسلبية التي يفرضها المثقف على نفسه نتيجة الخوف من النقد أو عدم الرضا على الواقع الثقافي المأزوم والمميع في نظره واليأس من إمكانية التأثير والتغيير، وإمّا بسبب حالة التهميش والمحاصرة التي تفرض عليه من محيطه الخارجي خوفا من آرائه أو نتيجة لعدم انحيازه إلى توجهات معينة.
لا جرم أنّ الأزمة التي يعاني منها المشهد الثقافي عميقة وهي ليست وليدة اليوم، بل هي نتيجة تراكمات عديدة وتضافر كثير من العوامل على مراحل زمنية طويلة، لذلك وجب بذل مزيد من الجهد في إطار رؤية واقعية شاملة للخروج منها، والحقيقة أن تحقيق هذا الهدف ليس مستحيلا رغم صعوبته فهناك العديد من المؤشرات الإيجابية التي توحي بإمكانية ذلك في ظلّ الحراك الثقافي وميلاد كثير من النوادي الفكرية التي تحاول المساهمة في خلق وعي ثقافي حرّ وغير مقيد.
مبروك بوطقوقة/ أستاذ جامعي وباحث أنثـروبولوجي-جامعة تبسة
أزمــة الثقافــة في الجزائــر أزمــة بنيويـــة بــالأساس
تعيش الجزائر حالة من الضبابية الثقافية لا يمكن تفسيرها إلاّ إذا أخذنا بعين الاعتبار فكرة أنّ الشأن الثقافي هو انعكاس للشأن العام، وأنّ ما تعيشه الثقافة في بلادنا من مآسي بما في ذلك الركود والتخبط والفوضى هو وضع تعيشه بقية القطاعات بطريقة أو بأخرى، وانطلاقا من هذه الفكرة يتبدى لنا تعقد المشكلة التي تضرب بجذورها عميقا في البُنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع الجزائري، مما يجعل أي تشخيص مُبسط هو مجرّد تسطيح للقضية وذر للرماد في العيون، ولا يمكن بحال أن يوصلنا إلى فهم هذه الإشكالية التي أرقت المثقفين الجزائريين لسنين عديدة ولا يمكن أن يؤسس لإطلاق مشروع ثقافي وطني ينتشل الثقافة من المستنقع الذي تغرق فيه.
كما لا يمكن بحال هنا أن نُصر على جلد المثقفين طوال الوقت واتهامهم بالسلبية والانسحابية بحجة أنّهم تخلوا عن دورهم العضوي والريادي في قيادة المجتمع والرفع من مستواه الثقافي، لأنّ المثقف نفسه ما هو إلاّ نِتاج للسياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تصنعه وتُشكله بما يخدم الخطاب المهيمن والتوجه السائد وبما يجعله يتحرك في فلك القوى المسيطرة، فماذا نتوقع من مجتمع تعصف به الأزمات من كلّ صنف؟
أعتقد أنّ أزمة الثقافة في الجزائر أزمة بنيوية بالأساس، تنبع من الخلل العلائقي الموجود على كلّ المستويات، في المؤسسات والبرامج والأشخاص، لأنّ الثقافة تُبنى من خلال المؤسسات وليس الأفراد ورغم أهمية الإبداع الفردي في الحياة الثقافية إلاّ أنّه لا يكفي لخلق حركية ثقافية وبناء بيئة ثقافية خصبة ومنتجة. المؤسسات والعمل المؤسسي هو الكفيل بتحقيق هذا الأمر، وللأسف في الجزائر طغت الفردانية والعمل الفردي على المشهد الثقافي في ظلّ عدم تجذر الثقافة المؤسساتية بمعنى أنّ التواجد الفعلي على أرض الواقع هو للأفراد وليس للمؤسسات، وحتى نقاشاتنا تركز على المثقفين لا على المؤسسات الثقافية وهنا بيت القصيد، أي أنّ ترهل هذه المؤسسات وجمودها وتخلفها هو السبب الرئيسي للأزمة.
لكن هذا لا ينفي مسؤولية المثقف من حيث هو ذات فاعلة تسعى لتحقيق كينونتها من خلال تحقيق متطلبات الدور المنوط بها في الإبداع والإنتاج ومن خلال اشتباك الأفكار الرائجة وتفكيكها ومن خلال الثورة على الأوضاع السائدة وتغييرها، لذا فالانسحابية التي مست النخبة المثقفة، أو أغلبية المثقفين ليس لها ما يبررها لأنّ طريق المثقف لم يكن يوما مفروشا بالورود بل المثقف ولدٌ مشاغب لا يفتأ يكسر القواعد وينشر الفوضى في كلّ مكان وانسحابه هو نهاية لمشروع المثقف العضوي بالمفهوم الغرامشي. يتقاسم الجميع مسؤولية الأزمة: السلطة والمجتمع والمثقفين، فالسلطة طالما أصمت آذانها عن الاستماع لصرخات المثقفين الحقيقيين لمجرّد أنّ صراخهم يسبب لها صداعا فكريا وسياسيا هي في غِنًى عنه، والمجتمع كذلك مسؤول لسيطرة الاهتمامات المادية والتجارية لديه على حساب الاهتمامات الثقافية والجمالية.
وأخيرا نعتقد أنّ الأزمة شديدة التعقيد وللخروج منها لا بدّ من تكاثف جهود الجميع من خلال فتح ورشة كبيرة تتم عبرها مناقشة الأزمة وتحديد أسبابها والتشاور حول أفضل السبل للخروج منها ثم الوصول لبلورة مشروع وطني للنهوض بالقطاع الثقافي وفق برنامج واضح ومحدد المراحل والخطوات.
سليم زاوية/ أستاذ جامعي -جامعة الأمير عبد القادر- قسنطينة
الأزمـــة تكمــن في غـياب دور النُخــــب الوطنيــــة
حسب رأيي، المشكلة الثقافية في الجزائر هي قضية مجتمع يعيش منذ بداية الاستقلال أزمة عميقة، تتجلى تداعياتها في بروز عدّة مشاكل ومظاهر جد معقدة، وعلى الكثير من الأصعدة. خلخلت ثقة المجتمع في نفسه، وتاريخه، وشخصيته الوطنية، وحتى فضائه الجغرافي، وبالتالي سدت آفاق المستقبل في وجهه. فالأزمة التي نعيشها اليوم، لا هي سياسية كما يعتقد العامة، ولا هي اقتصادية كما تبرزه المؤشرات الإحصائية، ولا تعليمية كما تكشفه نِسب النجاح وتدني المستوى، ولا هي دينية لما يبدو من تطرف شكلي وفكري، وتزايد التفسخ الخلقي والسلوكي للمجتمع. وإنّما هي في غياب دور النُخب الوطنية في بلورة إستراتيجية بناء الدولة المستقلة، أولويتها إعادة بناء الإنسان الجزائري، وليس البُنى والهياكل فقط، وغايتها إعادة الصلة بين السلطة والمجتمع، وبين مقوماته وتاريخه وهويته، وفضائه الجغرافي الذي يمثل الرمز والجذور والانتماء. ومن ثمّة خدمته وتحقيق رفاهيته.
وتعود جذور الأزمة بداية، إلى استمرار تأثير إستراتيجية الاحتلال الفرنسي، في محاربة وطمس ثقافة ومقومات هوية المجتمع، وكلّ عناصر انتمائه. وفي المقابل زرع ثقافته التغريبية، ومكوّنات هويته. لتستمر الأزمة بعد الاستقلال وتعود إلى المتغيّر السياسي الذي يبقى العامل البارز والمؤثر في فلسفة بناء الدولة الجزائرية، وتشكيل النُخب، ورسم حدود التنافر والتقارب فيما بينها، وتوظيف جزء منها ضدّ المجتمع، وتهميش الباقي في مشاكل هامشية. لذلك تشكل المثقف في غالبيته غير نخبوي، حبيس ذاته ورؤيته، ومصالحه الشخصية، وهمومه الاجتماعية والمهنية، وعاجز حتى عن بلورة رؤية وطنية واحدة إزاء الكثير من المسائل الوطنية بأبعادها السياسية والثقافية، فضلا عن عدم قدرته على تقريب مواقفه من القضايا القومية.
لكن الواقع المرّ في بلادي، أنّ الثقافة أصبحت مشكلة وليست هي الحل! . ومتى كانت الثقافة هي المشكلة؟ فاعلم أنّ المثقف أصبح أداة للتسطيح، ولا يمثل إلاّ نفسه. وبالتالي تظلّ المشكلة من أكثر وأعمق الأزمات التي يعاني منها المجتمع الجزائري الحالي. ورغم ذلك نبقى نتطلع ونأمل إلى تنمية تستهدف بناء مواطن صالح، واعي وايجابي، ومن ثمّة تتشكل نخبة اجتماعية قادرة على تأطير المجتمع والدولة سياسيا وفكريا وثقافيا، والإسهام في إنتاج أفكار المجتمع ضمن الآليات الخاصة بالتفكير الجمعي، وضمن السّمات الخاصة بالواقع الجماعي، لتحقيق الرقي الحضاري والعمراني والاقتصادي الحقيقي.
لذلك نعتبر أنّ المـسألة الثقافيـة فـي الجزائر عامل حاسم في نجاح أو فشل أي سياسة أو إستراتيجية يتبناها المجتمع لتطوير ذاته ويكون له مستقبل.
رابح بن خويا/ أستاذ جامعي -جامعة محمد البشير الإبراهيمي- برج بوعريريج
أزمــــــة ثقافيــــــة أكثــــــــر منـــــــها أزمـــــــة مثقّـــــــــف
حين يلقي السّائل -سواء أكان الـ»أنا» أم كان الـ»آخر»- سؤالا، بهذه الكيفية والصّيغة، وينتظر من المسؤول -سواء أكان الـ»أنا» أم كان الـ»آخر»- جوابا يعيّن مكان «الأزمة» في أيّ طرف من الطّرفين تكمن، فإنّ قراءة بنية التّركيبية للسّؤال والمكوّنات الّتي تشكّلها، من جهة، وقراءة البنية الدّلالية الّتي تنطوي عليها الأولى وتعمل على الإيحاء بها، من جهة ثانية، فإنّ كلّ ذلك أمر له أكثر من ضرورة للوعي بإشكالية «مشكلة» الثّقافة في الجزائر، وفي لحظة تاريخية مرتبكة غير واضحة الملامح من مسار سيرورة تطوّر المجتمع الجزائريّ، وفي فضاء جغرافيّ محدود المعالم ومفتوح الآفاق، وفي إطار ثقافيّ فسيح وعميق ومتنوّع، وما لذلك من علاقات وتأثيرات على الفرد وعلى المجتمع باعتبار «الثقافة» تتجلّى في سلوكهما وفي حياتهما، على السّواء.
وعندما نستحضر كلّ الاعتبارات المُشار إليها، سابقا، يبدو أنّ التّريث في الجواب له ما يبرّره، وأنّ وصف وتحليل العناصر المكوّنة لبنية السّؤال بغرض فهمه في إطاره الزماني والمكاني أو التّاريخي والثّقافيّ -بالمعنى الواسع للثّقافة- يبدو ذلك بالغ الأهميّة منهجيّا وعلميّا. تتألف بنية السّؤال من ثلاثة عناصر، وهي: «الثّقافة» بهذا التوصيف المكانيّ والزّمانيّ، و»المثقّف»، و»الأزمة»، وكلّ عنصر، على حِدى، ينتج سؤاله بالضّرورة، فـ»الثّقافة» تتطلّب تعريفا: «ما هي الثّقافة؟ وما سِمات «الثّقافة» في الجزائر؟ و»المثقّف» يفترض، تحديدا: «من هو المثقّف المعنيّ من حيث مكانته في المجتمع ووظيفته...؟»، و»الأزمة» تستدعي توصيفا: «ما مفهوم الأزمة في الّثقافة؟ وهل لأزمة الثّقافة علاقة بالآخر «الغربيّ» وقيمه وأخلاقياته وسلوكياته الاجتماعية. وأخيرا لماذا يطرح السّؤال عن أزمة الثّقافة في الجزائر خلال الربع الأوّل من هذا القرن الموسوم بالعولمة أو العالمية؟ وما علاقة أزمة الثّقافة بالمجالات الأخرى السياسيّة والإقتصادية والتربوية والتعليمية، وبالنهضة أو بالتنميّة؟ وما موضع أزمة الثّقافة بالنسبة للأزمة العامّة؟. أم أنّ الأزمة، أزمة ثقافية بمعنى أزمة سياق «جو» بكلّ أطرافه وعناصره، أو «تعذر تركيب العناصر الثقافية في منهج تربوي». أو ركود النشاط الثّقافي والانعزال وانعدام الدينامية وضعف التواصل والانعزال والتفاعل.
ربّما علينا أولا محاولة تقديم توصيف صحيح للثّقافة ولوضعيتها الرّاهنة ولأزمتها ومكمن الأزمة، فنتساءل: ما هي الثقافة؟. والثّقافة كما يعرفها تعريفا شاملا، عمليا، مالك بن نبي هي: «مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه؛ فهي على هذا التعريف المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته. وبعبارة أخرى فهي المحيط الذي يعكس حضارة معينة، والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر، ويضم هذا التعريف بين دفتيه فلسفة الإنسان وفلسفة الجماعة، أي مقومات الإنسان ومقومات المجتمع، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المقومات جميعا في كيان واحد، تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية».
أيضا قد نتساءل: من هو المثقف؟: أهو الكاتب/المؤلّف/الأكاديمي الذي له بحوث ومؤلفات في الفكر وفي الأدب وفي الفن والأديب صاحب الإبداع... أم هو الطالب في كليته والأستاذ في جامعته، أم المهندس أم الطبيب... أم القاضي أم المحامي أم الصحفي الإعلامي أم الإمام في مسجده أم الفلاح في مزرعته... أم القائد الحاكم المسؤول في إدارة وفي مصلحة... أم الوزير أم البرلماني... أم أي واحد من فئات المجتمع ومن طبقاته.. المرأة والرجل، الغني والفقير. والحقيقة كلّ فرد من هؤلاء من أفراد المجتمع يمكن أن يكون، اليوم، مثقّفا، ويعكس سلوكه وأسلوبه في الحياة مستوى من الثقافة. وهكذا هي الثقافة لا تخص فردا دون فرد مادام الجميع يحيون في إطار واحد.
ومن منظور آخر، فلم ينتج مجتمعنا سوى «حرفيين» -كما يقول مالك بن نبي- ومتعالمين وسط كتلة أفراد شبه أميين يجيدون تهجية أبجدية اللغة على أحسن الأحوال دون أن يتقدموا أكثر، ودون أن يعوا انتماءاتهم الحضارية والتاريخية، والكلّ -مع بعض الاستثناءات- تحركهم المصالح الشخصيّة والاندماجات الحزبية والجمعوية. وصدق مالك بن نبي حين قال: «الشعب الذي يفقد ثقافته يفقد حتما تاريخه». والعكس أوضح وأصح فالشعب الذي يفقد تاريخه يفقد ثقافته. وعلى مثل هؤلاء تنطبق أزمة المثقّف.
أرى أنّ الأزمة أزمة ثقافية، لا يمكن الحديث عن أزمة مثقّف -مهما تكن هويّة هذا المثقّف من حيث طبيعته وإيجابيته أو سلبيته- ولا عن أزمة ثقافة مهما تكن هويّة هذه الثّقافة وحالتها من حيث انسجام عناصرها واتّساقها وإيجابيتها أو سلبيتها في ظلّ غياب «مشروع مجتمع» مجمع «متفق» عليه، له أسسه ومنطلقاته وأهدافه وغاياته ومجالاته ودستوره أو دليله الموجّه والمرشد و»المراقب» أيضا، ووسائل تنفيذه «مؤسسات وهيئات وجمعيات، وبرامج ونصوص...»، حيث تكون الثّقافة إحدى مجالاته الحيوية الفاعلة الّتي تترك سماتها وخصوصياتها في سلوكات الأفراد وحياتهم.
والأزمة الثقافية بالنسبة إلى الفرد تنشأ إذا حرم من الجو أو المناخ الثّقافي، وعُزل عن بقية أفراد المجتمع، وانقطعت الصلة الاجتماعية بينه وبينهم، إلى درجة أن لا يسمع صوته ورأيه. وبالنسبة للمجتمع، فيكفي لمعاينة الأزمة الثقافية وآثارها تأمل سُلم القيم الثّقافية والسلم الاجتماعي.
وفي هذا المضمار يوضح بن نبي قائلا: «إنّنا لو وضعنا سلما للقيم الثقافية، جنبا إلى جنب مع السلم الاجتماعي، لقررنا مبدئيا أن السُلمين يتجهان في الاتجاه نفسه من الأسفل إلى الأعلى، أي أنّ المراكز الاجتماعية تكون تلقائيا موزعة حسب الدرجات الثقافية. وهذه حقيقة نمارسها في حياة كلّ مجتمع ولو كان يواجه بعض الأزمة الثقافية، على شرط أنّها لم تبلغ درجة «اللارجوع». أمّا في المجتمع الذي بلغ هذه الدرجة فإنّ السلمين ينعكسان، الواحد بالنسبة للآخر انعكاسا تصبح معه القاعدة الشّعبية على الأقل بمحافظتها على الأخلاق أثرى ثقافيا من قيادتها. وهذه فيما أعتقد أشنع صورة للأزمة الثقافية التي لا تحل بمجتمع ما إلاّ صيرته عاجزا عن حل مشكلاته داخل حدوده، وعن مواجهة مشكلات الجوار على حدوده، وبصورة أعم لا يستطيع التعايش دون عقد نفسية تعرض شخصيته للتلف أو كرامته للمهانة...».
وأزمة الثقافة أو الأزمة الثّقافية ما هي إلاّ وجه من وجوه الخلل الذي يعتري المجتمع في كلّ نواحيه، مع ملاحظة تأثير كلّ مجال في المجالات الأخرى، سلبا وإيجابا، وحيث تخيم نتائج ذلك الخلل على سلوك الفرد وعلى سلوك المجتمع وأسلوب الحياة فيه، وعلى كافّة المستويات. مثل المجتمع وقطاعاته، في هذه الحال، مثل الجسد وأعضائه. وتكون الواجهة الثقافية، باعتبارها الشبكة التي تنتهي إليها وتندمج فيها جميع خيوط النسيج المجتمعي، هي المرآة العاكسة للإختلالات الاجتماعية برمتها. ولا يمكن تشخيص أزمة ثقافية بمعزل عن أزمة عامة أو تقييم ميدان بعيدا عن الميادين الأخرى المؤثرة فيه؛ أي بعيدا عن الوسط أو المحيط الذي يؤطّر مجالات المجتمع.
ولا تنتهي أزمات المجتمع بما فيها أزمة الثقافة في إطار إستراتيجية ترتكز إلى تسيير الأزمات وفلسفة القفز عليها وتأجيل مواجهتها، لا إلى تشخيصها ووصفها وتحليلها وفهمها والوقوف على أسباب نشأتها ومواجهتها واقتراح الخُطط السليمة لمعالجتها وتجاوزها.
ياسين بن عبيد/ جامعة سطيف 2
الواقـــــع الجزائــــــري لا يراهـــــن على المثقـــــف اليــــوم
الواقع الجزائري لا يراهن على المثقف اليوم، لأنّه لا يدخل في حساباته إلاّ باعتبار واحد: الريع. كلامٌ كبير ولكنّه في إحالته على النظرة الرسميّة للفعل الثقافي، ولأداء طوائف محسوبة على الثقافة، دقيق لا يعتدي على حقيقتنا ولا يوغل في السوداوية. مثقف اليوم محكوم بالولاء -على المستوى الفردي- وإلاّ انقطعت به السُبل، وعلى المستوى الجماعي (مؤسسات، نواد، جمعيات....) تدفعه الانتهازية إلى التنازل عن استقلاليته في سبيل أن يشق طريقا إلى غاية ما.
طبعا من الظلم ألاّ نشير إلى استثناءات فردية أو جماعية، تنفق من طاقاتها -حد التآكل- بصورة مجرّدة ولا تتغيَّى مطلبا ماديا أو مأربا مشبوها، على أنّها تمثيليات مصادرة الحرية، مُضيَّق عليها في أقل فضاء تتحرّك فيه، يائسة من فرصة صناعة خطاب وإن كانت قادرةً عليه. هي استثناءات -وأريدَ لها أن تبقى كذلك- تتحرّى الفعل الثقافي لذاته لا لتتغذى منه، تعطيه من جهدها ومن وقتها ومن سائر الطاقات أكثر مما تأخذ، وتفرغ له مخلصة كما يفرغ المهووس بمصالحه إذا ألحت عليه. هذا النموذج/المرجع لا يقدر جهده، ولا يلتفت إلى محصوله ولا يشجع على أدائه لأنّه يغطي على كلّ رديء منتشر في أحلك زوايا ما يُسمى بقطاع الثقافة. لا أعتقد أنّه مؤاتٍ أن يبحث المثقف عن شرعية خارج ما هو عليه بالأصالة، ولا أنسجم مطلقا مع النظرة المخوِّلة للمسؤول أن يفعل بالثقافة والمثقف ما يريد، لا لشيء إلاّ لأنّ له نرجسيةً يجب إرضاؤها، وأنّ للدولة إمكانات من المفروض أن تُعلي من شأن الفكر لا أن تنزل به، ولكن صنفا من المسؤولين يهدرونها.
الخطر أنّه لا يُكتَفى بالتضييق المادي على المثقف الحرّ، بل يتعدى الأمر إلى مساومته في قناعاته والحَجْر على إمكاناته إذا عزَّ توظيفه، وتمنَّعَ هو –إباءً- دون محاولات التطويع، واستعصى على الاحتواء وسَدَّ على نفسه باب الانصياع.
ثقافيا، نحن بلد الفرص الضائعة بامتياز، بالقياس إلى المادة الرمادية التي تصمد أمامها المنافسة، وبالنظر إلى المؤهلات المادية المُسيلة للعاب، والموزعة توزيعا غير عادل، هي فرص ضائعة أعان عليها ضعف الاستثمار في الاعتبار المعنوي للمثقف، والمتاجرة بصوته إذا كان يصعب عليه مواجهة طوفان الانتهازية. لنسأل مثلا: من يُتاح له النشر على حساب صندوق الإبداع؟ مَن تُوزَّع أعمالُه على نطاق مستحق، تُعَرِّف به وتُحَسِّنُ صورةَ الرعاية الرسمية للفعل الثقافي وعناية الدولة بالمثقف المُنتج؟ مَن يُشرَك في الفعاليات (المحليّة والدوليّة) خارج العلاقات الشخصية؟، مَن؟. المثقف الحرّ، غير الانتهازي؟ سأكون ساذجا إذا قلت: نعم!