المشهد النقدي العربي يعاني من إشكاليات كبرى
في هذا الحوار، يتحدث، الكاتب والباحث محمد كاديك عن النقد العربي وإشكالاته، وعن مهمة النقد الأدبيّ، وما يُثار حوله من انتقادات بسبب بعض معاييره التي تخضع للإزدواجية والمزاجية والشللية أحيانا، وهذا ما يُفرغه من قيمته الحقيقية. كما يتناول الكاتب في الحوار موضوعات ومحاور أخرى ذات صلة بالنقد، لها إشكالاتها المتعددة، من بينها تعامل النقد مع الأعمال الرّوائية وفق معايير مسبقة، وكذا مصطلح «التجريب» الذي انتشر وأصبح يتردّد كثيرا في الأوساط الثقافية والأدبية، وما يشوبه من التباسات في مفهومه وسياقاته. يذكر أنّ محمد كاديك، كاتب وباحث بمخبر الترجمة والمصطلح بجامعة الجزائر2؛ متخصّص في قضايا الأدب والدراسات النقدية والمقارنة. وهو أيضا يشتغل بالصحافة منذ 1992. في حوزته إصدارات في الشعر، وأدب الطفل، والدراسات الأجناسية والرواية.
حاورته/ نــوّارة لــحــرش
ما هي مهمة النقد الأدبيّ، وهل هي منصفة للأعمال الأدبية، أم هي مجرّد قراءات مزاجية؟
محمد كاديك: يتفق كثير من الباحثين والنّقاد، على غرار إيدموند جالو (Edmond Jaloux)، على أنّ مهمّة النّقد الأدبيّ ليس انتخاب الأعمال الأدبيّة أو الحكم عليها، بقدر ما هي التّحديد الواضح لحدود هذه الأعمال، والمساحات التي تمنحها لقرائها، ولهذا، فإنّ مهمّة النّاقد الأولى هي تفكيك بُنى الأعمال المكتملة بما يسمح للمتلقّي بالاقتراب من العمل الأدبيّ وتكوين صورة واضحة عنه، غير أنّ المشهد النقدي الجزائري والعربي في عمومه، وإن كان يعترف للأديب بحقه في الإبداع والتّجديد، فإنّه كثيرا ما يتعامل مع الأعمال الرّوائية وفق المعايير التي يحدّدها لها مسبقا، لا وفق ما تقتضي طبيعة الإبداع المفتوح على كلّ الاحتمالات، وبما أنّ النقد يتعامل عادة مع حالات إبداعية فردية، فإنّه صار يصطنع لها أصنافا مختلفة من التّسميات، فصار هناك ما يسمى بـ»روايات السّجون» و»روايات الصّحراء» و»روايات الجلاد» وغيرها من «الرّوايات» التي تُصنّف وفق موضوعاتها على أساس أنّها «تجديد» أو انتقالات نوعيّة في الكتابة الرّوائية، رغما عن إذعان النّقد لميخائيل باختين القائل بأنّ الرّواية جنس غير مكتمل، ما يؤدي بالضّرورة إلى القول إنّ «الهجنة» التي يلاحظها النّاقد على عمل روائي معيّن، إنّما هي من الطّبيعة الأجناسية المحض للعمل المعيّن، وليست تجديدا ولا انتقالا أجناسيا، وهو ما يعني أنّ «الرّواية» ستظلّ «رواية» حتى وإن استغلّت مساحات أخرى لأجناس أدبية ليست في دائرتها.
«المصطلح النّقدي» ليس من منتجات السّاحة العربية ولا مما فرضته عليها الحاجة التاريخية
ونعتقد أنّ هذا المأزق النقدي العربي يتّضح جليّا في الدراسات المتعلقة بـ»التجريب الروائي»، ذلك أنّ مفهوم «التّجريب» يبقى بدون تعريف واضح، فهو يعطي الانطباع بأنّه الوسيلة إلى إنتاج بُنى روائية وسرديّة جديدة، أو أنّه إستراتيجية تمنح النّص تحوّلا لا نهائيا، ولكن «الجديد» و»التحوّل» يبقى غامضا بدوره دون معنى، بحكم أنّ النّص الرّوائي كان مفتوحا على كلّ التحوّلات منذ البدء وفق ما تقتضي طبيعته.
بالمناسبة ماذا تقول عن هذا المصطلح «التجريب» الذي انتشر وأصبح يتردّد كثيرا في الأوساط الثقافية والأدبية؟ ألا ترى أن المصطلح التبس مفهومه وسياقاته؟
محمد كاديك: يعرف اصطلاح «التّجريب» انتشارا واسعا في الأوساط الثقافية، فلا يخلو منه حوار أدبي، ولا نقاش حول «الرواية» بصفة خاصة، ولكن سعة الانتشار لم تمكّن للمصطلح من الاستقرار على تعريف واضح يجتمع عليه النقاد والأدباء معا، فهو تارة يبدو إحالة إلى اشتغال سردي أو شعري غير مسبوق، وتارة يميل إلى تمييز شكلي لا تبدو معالمه في الغالب، وقد تكون له إحالات أخرى كثيرة كأن يستغلّ استغلالا واضحا في السجالات الصحفية، أو يتّخذ ذريعة لتجاوز رأي نقدي. الحاصل إذن أنّنا لم نطّلع حتى يومنا هذا على مفهوم واضح لـ»التجريب في الرواية العربية»، يمكن أن يُعتمد لمقاربة عمل روائي، رغما عن تردّد المصطلح في البحث العلمي.
غالب الظّن أنّ رهان «التجريب» في الضفة العربية يعتمد على ما يعرف بـ»الرّواية الجديدة» التي استحوذت على تلك الوظيفة الجوهرية للرواية بما هي التمثيل والتأويل بلغة الخيال وبما هي مختبر السرد، وليس يفوتنا في هذا المقام أنّ الرواية الجديدة، لم تكن نتيجة لرغبة في الإبداع تولّدت دون رؤى فلسفية فرضت ما جاء بجديدها، ولقد أنتجت مثلا، ما يُعرف بـ»الكتابات البيضاء» بما تمثله من تغييرات جوهرية بالنسبة للنثر الحديث، رغم اعتبارها تجليا أسلوبيا للرواية الجديدة وحسب، ولا تتميّز سوى بإعطاء الأسبقية للوصف، ومنح المعاني الحقيقية مع ضعف في الإحالات الثقافية، وبما أنّ «المفهوم» الواضح هو المؤسس لكلّ العمل الذي ينضوي تحته.
لعلّ كثيرا من الرّوايات العربيّة لا تعتمد ترتيب النّمو الكلاسيكي للأحداث، وتقدم نفسها في قوالب سردية حديثة، ولكن، هل يكون من حقنا أن نصفها بأنّها تدخل في باب «التجريب» لمجرّد تقاطعها مع «الرّواية الجديدة» في عدد من المميّزات، أو أنّها تطبق ما ينبغي للرّواية الجديدة؟ وما دامت «الرّواية الجديدة» تمثل انقلابا على مسار السّرد، وانقلابا على الحبكة وانقلابا على الأنماط، فهل يصحّ أن نطلق صفة «المجرّب» على روائي تلقى كلّ هذه الانقلابات الجاهزة؟
لنقل إنّ مفهوم «التّجريب» يتوقّف عند حدود الإبداع على مستويات «البنية»، «الرّؤية» و»الخطاب الثّقافي»؛ فهل يصحّ أن يكون كلّ مطبّقي رؤية ميشال بيتور مثلا، مجربين، أم أنّ تجربة بيتور هي التي تمكنّت من الإقناع لتحقق لنفسها صفة «التجربة»؟.
هل يمكن القول أنّ النقد العربي بلا معالم واضحة، وهو فقط اجتهادات هنا وهناك، وأنّ هذه الاجتهادات تظلّ محل اتهامات بالمحسوبية والشِلليّة؟
محمد كاديك: لا يمكن الإنكار بأنّ مادة «النقد» في الضّفّة العربية لم تتمكّن بصورة مجملة من فرض نفسها كقيمة مضافة إلى الأعمال الأدبيّة، فقد جرت العادة أن يكون العمل النقديّ محلّ اتهام سواء تتبّع ما هو سلبي، أو بحث عمّا هو إيجابي، ولكن ما يشفع لـ»النقد» أنّ له مناهجه العلمية المحكمة التي تحصّنه من الوقوع في «المحسوبيات» الصغيرة، أو المجاملات البسيطة؛ فما الذي جعل «النقد» يقع في دائرة «الاتهام» التي يفترض أنّه يتعالى عليها؟!
في هذا المقام، نعتقد بأنّ الإجابة على السّؤال تقتضي العودة إلى قراءة تاريخية معمّقة للمشهد النقدي من أجل الإحاطة بالأسباب التي انتهت به إلى ما هو عليه اليوم، ولقد وضع عبد الله ابراهيم يده على نقطة هامة وهو يشرح طبيعة المسار الخاص بتطوّر الثقافة العربية الحديثة، فقال إنّه «يكشف صورة شديدة التّعقيد تتضارب فيها التصوّرات والرؤى والمناهج والمفاهيم والمرجعيات، ولا يأخذ هذا التضارب شكل تفاعل وحوار، وإنّما يمتثل لمعادلة الإقصاء والاستبعاد من جهة، والاستبعاد السلبي والاستئثار من جهة ثانية».
ما الذي يمكن أن تقوله حول ما يُثار عن «المصطلح النقديّ» من نقاشات وسجالات؟
محمد كاديك: «المصطلح» النّقدي ليس من منتجات السّاحة العربية ولا مما فرضته عليها الحاجة التاريخية، ولهذا يجد صعوبة في التأقلم مع اللغة والواقع الحضاري العام، وهو ما ينتهي إلى الاصطلاح العجيب المُسمى «اللّغة المتعالية»، ولعلّ هذا يتّضح بشكل أفضل حين نقرأ توجهات السّاحة النقدية الجزائرية كما لخّصها محمد داود، ونجدها تتفرّع وفق نظرتها إلى القضايا التي تعالجها، ومقارباتها المعتمدة في الدراسة، فقد طُرحت المسألة الأجناسية في النظر إلى «الرواية»، كما رآها داود، وفق توجهين اثنين تمأسست بينهما النظرية الأجناسية، أولهما توجّه كلاسيكي يعتمد تعريفا غير علمي للشّكل والمحتوى في تصنيفه لعدد من الخطابات الأدبية، والآخر «ما بعد كلاسيكي» يعتمد نوعا من متصوّر الواقع المرجعي للتمييز بين أشكال التعبير، ويتبين لنا أنّ التوجّهين إنّما ينزعان إلى النظرة الجمالية التي لا يمكن أن تخلص من الذاتية في الحالة الأولى، أو لا تتجاوز المقارنة في الحالة الثانية، أمّا المنتج الروائي الجزائري، في مجمله، فهو لم يقنع ساحة النقد سوى بقضايا لم تتجاوز «جوهر الجنس الروائي الذي يسمح بتصنيف النصوص بداية من الأربعينيات» و»الأسباب الموضوعية والذاتية التي منعت ظهور الشّكل الروائي في الفضاء العربي» بله عن قضايا لغوية وأخرى هوياتية تحركها الخلفيات الأيديولوجية في الغالب، وهي في اعتقادنا نفس القضايا التي طرحت في الفضاء العربي مجملا، ونردّ هذا إلى ما سبق وألمحنا إليه من تلق جاهز للمفاهيم في سياق ما يُسمى عصر النهضة وثنائياته، ونعتقد أنّ هذه النقطة بالذات تكون أوضح فيما يأتي، من خلال طرح الإشكالية التي يمثلها مفهوم «التجريب» في الخطاب العام والخطاب النقدي العربيين.
أين تكمن إشكالية «النّقد» برأيك
محمد كاديك: هناك نقطة لا ينبغي أن تفوتنا، وهي المتعلقة بـ»مفهوم النقد» نفسه، إذ لا يمكن لنا أن ننكر بأنّ اصطلاح «النّقد» في ضفتنا العربية أحيط بمحمولات من المعاني السّلبية لا يحتملها بالضرورة، فقد صار المدلول السّلبي وحده مهيمنا حتى عند المشتغلين بهذه المادّة الحيوية في عالم الأدب، ولم يعد يتجاوز إظهار النقائص في العمل الأدبي إلى البحث عن محاسنه، ويبدو لنا أنّ الوظيفة الأصعب إنّما هي البحث عن المحاسن، إذ ليس أسهل من الوقوع على المساوئ، خاصة حين يكون المنطلق «لاشعوريا»، كما وصفه ماركيز؛ ثم إنّنا يجب أن نسجّل بأنّ الأعمال النّقدية التي نراها مقبلة على هدم الأعمال الأدبية بنهم زائد، هي نفسها الدّليل القائم على أنّ هذه الأعمال لها قيمتها التي أرغمت النّقاد على متابعتها والحرص على هدمها، وهنا يفقد العمل النّقدي كلّ ما يحقّق له ماهيته بمجرّد تحصيل حاصل.
مادة «النقد» في الضّفّة العربية لم تتمكّن من فرض نفسها
ولا اختلاف على أن المشهد النقدي في ساحة الأدب العربية يعاني من إشكاليات كبرى على مستوى الماهية والمنهج والأسلوب والوظيفة، ولهذا تطالعنا ساحة الأدب، بين حين وآخر، بصدامات لا تفيد المنظومة الأدبية في شيء، لأنّها تكتفي في الغالب باتهامات واتهامات مضادة، لا تخرج عن حيّز المفهوم المغالط المعتمد لـ»النّقد»، فما الذي انتهى إلى التوطيد لـ»المغالطة» عوضا عما ينبغي أن يتمأسس عليه المفهوم؟!.
هل يمكن للمشهد النقدي العربي أن يقدم إنجازاته وملامحه خارج السياقات التاريخية؟
محمد كاديك: الظاهر أنّ المشهد النّقدي العربي لا يمكن أن يقدم نفسه إلاّ ضمن السّياقات التاريخية العامة التي اصطنعت أساليب التفكير، وأسست لما يتفق عليه عبد الله إبراهيم وفيصل دراج بخصوص الثنائيات التي اصطبغ بها هذا التّفكير، وهو ما يقدم عنه عبد الله إبراهيم صورة غاية في الوضوح، حين يضع تحت مجهر الدرس مجموع القراءات التي تعرّضت إلى أعمال طه حسين، ليصفها بأنّها قراءات أنتجت طه حسين طبقا لمقاييسها، فركّبت له ولمشروعه الفكري والنّقدي صورة معينة توافق «المرجعيات» التي تصدر عنها (...)، فيظهر في صورة المارق الهدّام الذي لا يتوّرع عن العبث بمقدسات الذاكرة الجماعية للأمة مرّة، ثم يظهر في صورة الطليعي الفاعل المستـــنير الذي يريد أن يدفع بالأمة إلى ميدان الفعل العقلي الحداثي من جهة أخرى، وهذا يجسد ثنائية «الأصالة» و»المعاصرة» أو «الحداثة».
لا نريد العودة إلى الأسباب التّاريخية لبروز هذه الإزدواجية في القراءة، ولا إلى مؤسِّساتها العقلية، بما هي منتج طبيعي لـ»الثنائيات» التي تأسس عليها التّفكير النقدي. فقط نسجّل هنا مع عبد الله إبراهيم أنّ «القراءة» العربية استأثر بها حكم «القيمة»، واستخلصها لنفسه، لذلك صارت تصدر أحكاما قيمية تستمد شرعيتها من المرجعية العليا التي تستند إليها؛ وإذا كان عبد الله إبراهيم يعترف بأنّه لا وجود لقراءة بريئة بإطلاق، بما أن الخلفية الأيديولوجية على سبيل المثال لها اشتغالها الخاص مهما تحرّى الناقد/القارئ الموضوعية في الطرح، فإنّه يعتبر الازدواجية التي تطبع التفكير النقدي العربي «خطرا» ينغرس في صلب الثقافة العربية، فـ»الازدواج» هنا يتجاوز «الاختلاف» لأنّه لا يقرّ به ولا يؤمن بـ»التنوّع» ويسعى إلى «المطابقة» بكلّ دلالاتها». وهكذا يظهر مثلا، طه حسين في صورتين اثنتين متناقضتين بقدر التعارض بين «التطابق» مع الآخر وثقافته، و»التطابق» مع التصوّرات الموروثة.
ن.ل