ركب القطارَ، وشكّ أنّ المسافة لا تحتاج إلى قطار ليقطع الطريق إلى أخته وأولاد أخته الذين كان يحبهم كثيرا، لكنّه استعدّ على الرّكوب، بعد زيّات الدّهر التّي تنزل على الإنسان، تغشي على عينيه وقلبه، انطلق، أخذ في رؤية أشجار تعطف على أبنائها، وحدائق مغمورة بالفرح وديار طينية تحنو على نخل حزين، فجأة، وصل، صاحب التذاكر: نزول المحطة الأخيرة، نزووووووووووول وذابت هذه الكلمة، دون سابق فكرة، أشع عقله بالحقيقة، وانقدحت كما ينقدح الصبح من زناد الظلام، إنه لم يركب قطارا، ولم يتحرك من مكانه، إنما امتطى حنينه فقط.
لباسُ الحلْمِ
الدّار هجروها، عاشوا بعيدا إلاّ من حمائم من عشّ الماضي تتحالم، تحجّ على شجرة الحاضر، وتحتكّ بريشها الأبيض، تحاكك الثواني المملوءة بصورتنا، الثواني والساعات الزرقاء، كان يمرّ عليها لكنّه لا يقدر الدّخول يسلم بشفاه قلبه فقط ويرى بعيني حنانه الدامعتين، مرّة أغاظه التشوقّ إلى فراش الطفل، وسجنة الأرانب، ومرعى اليمام، وساقية الشيخة، فنزع عنه لباسه، وارتدى حلمه ودخل ونام.
الخطى المتناقضة
يأخذ في مبادلة الخطى على الأمام، كان مقصده قبة الذكرى، داره في لمسيد، غابة الدفلاح، وغابة الفرح الأبدي والبراءة التي كأنه ساقية البلور، خطوة بعدها خطوة، الطريق على جوانبها اخضرار وأشجار مكسوة بالحلم، ثمارها الشيخوخة والعناد، ولمّا وصل الضوء الكبير، بحيرة كأن كلّ صباحات الكون انسكبت فيها، اكتشف أنّه كان يمشي إلى الوراء لكنّ أحصنة شوقه تستجرّه إلى ذكراه، إلى دار الطفولة، أو طفولة الدار، فأوهمته بأنه يمضي قدما.
محمد عادل مغناجي