الذات الهشة / الحياة المتوحشة
عبد السلام يخلف / جامعة قسنطينة
تدعو الشاعرة صورية مطراني هنا كل واحد منا، سواء الباحث عن المتعة أو الباحث عن المعنى، كل عابر سبيل (رغم أنها لا تحبذ العابرين)، إلى وليمة : حوار مع نفسها، هو «سوليلوك» هبة الذي حدث أو الذي تخاف منه أن يحدث في مساحة لا نعرف إذا ما كان الزمن فيها قد مضى أو سيأتي / هي تخرجنا من الزمن كي ترمي بنا في زاوية تراها مناسبة كي تلقننا درسا. «قل لي، ما الذي تريد أن تفعله بحياتك المتوحشة الثمينة؟» تقول ماري أوليفر. هذا بالضبط ما يحاول أن يقوله هذا الديوان انطلاقا من تحريكه للفكر.
تخلق الشاعرة ملامح عالم تسكنه وتستعمل كامل حريتها في اختيار الشكل واللون والرائحة. هو مثل المنزل. تروح تنظر إلى التفاصيل وكأنها تقولها بصوت مرتفع. «يتمشى المكان إلى جهة / غامضة». حين تتكلم الأنا تحدو حدو النيات الكبيرة التي تعيد صياغة العالم وتصف الذات بأوصاف مبهرة: «ومنك ابتدأ النهار/ يسأل واجهات الصحو عني / ومنّي يغار». ترى الشاعرة أنها هي الضوء. حين يحصل أن يكون لدى الآخر بعض مما لديها فهي تلجأ إلى حيلة أخرى «البياض رؤاك.../ لكني أحاول ألا أراك»، هو نوع من النرجسية التي تدعو إلى إلغاء الآخر. تدعوه كي يتخلى عن ذاته ويبقى صدَفة فارغة، أن يهرب نحوها كي تصنع منه ما تشتهي.
تعيش الشاعرة في شرنقة جمعت فيها تفاصيل الكون التي تراها ضرورية لسفرها وكلما أطل الضوء تخاف أن يخطف منها شيئا ثمينا لا يمكن لحياتها أن تستمر دونه. «القضية أنّي/ أخاف أن يهرب العطر مني»، عطر خرافي يرش الذات المتفردة. خوفها عليه لم يمنحها فرصة للتمتع به. تقول «الورد سيذبل غدا» .. كمثل «الربيع الذي هدد الخريف/ مرة واحدة / ثم عبر». فوبيا الفقد تأتي قوية كي تشل الحركة وتشكك في كل ما يقترب على أنه الغدر أو على أنه عابر سبيل. هي تكتفي بخطوة وتعتذر عن الثانية لأنها تمثل الخوف من الآتي.
النظرة اليائسة من الذي يحدث والذي لا يحدث أيضا هو موقف وجودي فيه بعض العبث. «أحرك خيبة الحلم» فليس للحلم فرصة كي يكون هو ذاته المشرق القادم الذي يسكن الفكرة الآتية، هو دوما خيبة تُشرب مع قهوة الصباح. يذهب الناس ركضا نحو المواعيد دون أن يجدوا لحظة للتوقف، تقف الشاعرة طويلا كي تسأل وتقوم بتمديد اللحظة حتى يمر الفرح وتجلس في زاوية لتبكي العبور.
نظريات النسوية هي مقاربة تقول أن المرأة مقصاة من دوائر القرار وأنها تعيش في مجتمع رجولي محض لا يمنح للمرأة فرصة للظهور لهذا جاءت هذه الدراسات كي تمنح دورا للمرأة للنوع للجنس البشري «الجندر». الرجل سبب الغم، هذا الغائب المغيّب في الكلام. تقول: «تكاثفت في خيبة العمر/ المراق في صحة/ الرجل الجبان». أي ما دام الرجل ليس خادما لها فهو جبان وينعت بكل الصفات الآثمة.
أين الله في كامل النص؟ يأتي مرة واحدة: «أمنح المطلق لهذا الصخب/ المعتم/ كي يراه الله». ينتظر القارئ الله كي يتدخل وينقذ الشاعرة من الخراب، من القلق، لكنها لم تطلب منه ذلك مكتفية بالذات وما تقدمه. لا تمنحه في النهاية سوى دور المتفرج.
ما هي نهاية كل هذا؟ ما مآله؟ تختار الشاعرة حلا وسطا بين الخوف الذي هو الألم المستمر وبين الموت الذي هو الألم المكثف، «قالها النبض سرا/ ثم تدفق بالجنون»، إنه الجنون الذي يخلّصها من الألم والحزن والوعي الذي يقود للمعاناة.
هكذا في نهاية الرحلة يصبح الموت الذي يتخفى في كل صفحة وجهة آمنة، شهوة ترتجى وعناقيد تهفو لها الأصابع كي تتدلى آملة القطف الجميل. الخوف الذي يقال في اللغة بالكلام هو في الحقيقة رغبة كامنة ووجهة مثلى. هي تذهب نحو الموت ليس رغبة فيه ولكنها رغبة في الخوف، رغبة في القول للآخر: ها أنت تحاول كسري لكني لن أذهب نحو الموت الذي تدفعني إليه، سأختار الحل الوسط.
حين نعدّ تكرارات الكلمات المفتاحية في هذا الديوان، يقال أن الشاعرة صورية مطراني هي شاعرة الحزن، لكن الحساب يعطينا التالي: الحزن ذكر7 مرات / الحب ذكر 11 مرة/ الموت 22 مرة / القلب 23 مرة. هكذا انتصر الديوان للقلب والحب أكثر من انتصاره للحزن والموت.