الشاعر البرتغالي الأكبر فرناندو بيسوا كانت له طريقة استثنائية في اختراع شعرائه الذين ينسب لهم أشعاره، أي إنه خلق وسائط يمرر خلالها أشعاره ومن خلالها يعبر عن أحاسيسه ويصوغ عواطفه، طريقة بيسوا تشبه فكرة «شياطين الشعراء» كما تحدث عنها أبو زيد القرشي وابن شهيد في «التوابع و الزوابع» التي تجعل من الشاعر أو القائل، مجرد قناة، ألم يقل المتنبي: «أنا الصوت و الآخر الصدى». لكن في هذا السياق يختفي الصوت ليترك المجال للآخر، أنا الآخرAlter ego للشاعر. لم ينشر فرناندو بيسوا في حياته إلا القليل وكان زاهدا في النشر، نهما في القراءة لا يتوقف عن الكتابة وتدوين ملاحظاته وتأملاته، نشر ديوانا صغيرا(كناشة) بالانجليزية وقصيدة طويلة بالبرتغالية لا شيء غيرها، لكنه بأفكاره العميقة وحساسيته الشعرية أثر في الحياة الأدبية البرتغالية أثرا بالغا.
حسين خمري
لم يضيع شيئا مما كتب، حتى بطاقات المجاملة وتذاكر السفر والقصاصات التي دون عليها بعض الملاحظات، وهذا ما جعل بعض منظري الأدب يعتبرونه رائد الكتابة « الشذرية.» كان قد خبأ هذا الكنز بإحكام في صندوق، يشبه مغارة «علي بابا»، لم يتم فتح الصندوق إلا بعد أكثر من ثلاثين سنة بعد موته.
صندوق مليء بالأشخاص
لماذا هذا التأخر كله؟ إنه يشبه الاعتقال أو السجن لبيسوا ومخلوقاته الجميلة. ربما هذا ما جعل الإيطالي أنطونيو طابوكي يعنون كتابه الذي خصه به يعنونه ب»صندوق مليء بالأشخاص»عندما ترجم بعض الوثائق التي كانت محفوظة بعناية في الصندوق. عدد الوثائق، النصوص، الشذرات التي كانت في الصندوق هو سبعة وعشرون ألف وأربعمائة وثلاثة وخمسون (27453) نصا كما ذكر ذلك الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث في تقديمه ل: «شذرات من رحلة قارة.» وكما ذكر أيضا الإيطالي طابوكي في «صندوقه.» هذا العدد نجده يختلف مرتين في ترجمة اسكندر حبش (لست ذا شأن) لبيسوا، رغم الترجمة الجميلة للشذرات، والتقديم العميق لعالم فرناندو بيسوا تحت عنوان «دراما في أشخاص» في أكثر من عشرين صفحة. واعتقد أن الاختلاف في النصوص راجع إلى أخطاء في الطباعة، فقد قدم في الصفحة 8 عدد نصوص الصندوق منقوصا من ثلاثين نصا في الصفحة 19 زائد تسعين صفحة. وهذا الرقم لا يمكن أن يستوقف القارئ ولا أن يؤثر في قيمة الترجمة أو عمق الترجمة الشعرية.
كيف جاءت فكرة البدلاء hétéronyme لبيسوا؟
يعود أوكتافيو باث إلى أصل لقب بيسوا الذي يعني «لا أحد»، كما يعني Persona باللاتينية أي القناع الذي كان يرتديه الممثلون الرومان عندما يؤدون أدوارهم على المسارح؟ وهل كان بيسوا منذورا لكي يكون قناعا يرتديه من اقترحهم كبدلاء، يخفي وجهه الحقيقي وينسحب من الواقع ليعيش داخل الخيال بعد أن تحول إلى مخترع لشعراء آخرين ومدمرا لذاته» (باث 12).
ألا يمكن في هذا السياق أن نشبهه بخلف الأحمر الذي خلق شعراء وصنع قصائد لم يطالب بأبوتها ولم يكشف عن أصلها. قد تكون هذه هي تراجيديا الشعر، نفي الذات وإفساح المجال لصوت الآخر: إنها مسرحية المثالات التي نسميها الحياة» (طابوكي الأيام الثلاثة 70) الحياة صور وأخيلة ومثالات، هكذا يعيشها بيسوا.
أراد بيسوا أن يترك عملا منتحلا apocryphe أي أثرا مزيفا، لا نقصد بالتزييف المعنى الأخلاقي ولكن المفهوم الجمالي الذي يعني محو الآثار وتضليل القارئ لدفعه إلى الاجتهاد والبحث. كما أن هذه الطريقة قد تدفع القارئ إلى الاعتقاد بأن « فرناندو بيسوا لم يوجد أبدا» (طابوكي، الصندوق 16) وهو ما يضفي المزيد من الغموض على شخصية الشاعر ويضخم بالمقابل الجانب الأسطوري في شعره وفي شخصه. هل يمكن للنصوص أدبية أن تكتب من تلقاء ذاتها، دون نسبتها إلى مصدر محدد أو إرجاعها إلى أصول معلومة ؟
تحدث أمبرتو إيكو في كتابه «حرب التزييف» مطولا عن مظاهر التزييف التي تطبع حياتنا المعاصرة، وتقوم بعملية إحلال للواقع وإزاحة للحقيقة لاستبدالها بصورة للحقيقة، إنها لعبة التداول والتناوب، بحيث يتعايش الوجهان دون صدام في ذهن الإنسان المعاصر.
ليلة الثامن من شهر مارس 1914 ليلة حاسمة وكارثية ومنبئة، إنها الليلة التي ولد فيها بدلاؤه الثلاثة: ألبارو دي كامبوس و ألبرتو كاييرو، و ريكاردو رايس. لكن بعض المتتبعين لمسار هذا الشاعر الغامض والمهووس باختراع الشخوص يذكرون أكثر من سبعين شخصية شعرية، لكن المهم منهم هؤلاء الثلاثة وبدرجة أقل برناردو سواريس الذي كتب من خلاله «كتاب اللاطمأنينة» والفيلسوف أنطونيو مورا الذي ربط معه صداقة متينة عندما كان مقيما بإحدى المصحات العقلية فاكتشف كتابه المثير للجدل» عودة الآلهة».
الحياة سهاد أدبي متواصل
كان اختراع البدلاء اختراعا أدبيا وضرورة بسيكولوجية، وأهم من ذلك»(باث 47) إنه يريد أن يكون ما لم يرد أن يكون وهو الزاهد في الشهرة والعازف عن النشر والراغب في البقاء في الظل داخل المتاهات والسهاد المتواصل والهوس المتواتر. الحياة سهاد أدبي متواصل، والبدلاء لا يعيشون إلا في النوم، يتم استحضارهم عبر الحلم و بواسطة الخيال. الواقع يفرض قوانينه الصارمة و منطقه الجائر، عكس الحلم الذي يطاوع الخيال و يسمح له بالتمدد والانتشار والتوسع. البدلاء الثلاثة يمثلون تيارات شعرية متباينة، لأن بيسوا لم يحسم موقفه الفلسفي والجمالي، لأنه لم يشأ أن يختار لأنه أراد أن تكون نصوصه حمالة لأوجه متعددة ويستحسن أن تكون متناقضة، جميلة بغموضها متشظية بكثافتها.
بتاريخ 13 جانفي 1935 كتب بيسوا رسالة إلى صديقه الفيلسوف الشاعر أدولفو كاسائيس مونتيرو رسالة مطولة حول طريقة تكوين وميلاد القرناء، بعد أكثر من عشرين سنة عن ميلادهم الحقيقي، وبعد أن أصبحوا يشكلون جزءا من نسيجه الشعري وركنا من مخيلته. فأصلهم يوجد في التوجه الهستيري العميق الموجود في نفس الشاعر «كما أنهم يستمدون قوتهم العقلية في توجهات الشاعر الثابتة في الانسلاخ عن الشخصائية والتوجه نحو الاحتماء بالظل ( طابوكي صندوق 177-178). ما يريده فرناندو بيسوا هو شعر متجرد من الذاتية وأقرب إلى الأشباح منه إلى الحقيقة، لأن هذه الأخيرة متغيرة، لا تلبث على حال، كما تتبدى بأشكال متباينة عند كل من يقاربها، الحقيقة زائفة لأنها تتوقف عند الظاهر وتعجز عن النفاذ إلى عمق الأشياء وجوهر الوجود.
ولكي يقبض على الحقيقة، أو على الأقل على جزء منها يلجأ فرناندو بيسوا إلى قرنائه، يستنجد بهم لفك لغز الحياة وغموض المشاعر وتداخل الأحاسيس. ولكن كيف يتسنى له الولوج إلى عقول قرنائه ويستل مشاعرهم. يوضح بيسوا في رسالته إلى أدولفو مونتيرو قائلا: «كيف أكتب باسم هؤلاء الثلاثة؟ بالنسبة لكايرو، فإن ذلك يأتي عقب إلهام غير منتظر، في حالته الأكثر صفاء، دون أن أعرف بأني عقب مداولة مستحيلة تتجسد فجأة في شكل نشيد. أما ألبارو كامبوس عندما أحس برغبة مباغتة للكتابة، دون أن أعرف ماذا أكتب» (ص 185) بهذه الكيفية يشتغل القرناء الثلاثة في عقل بيسوا، فيكتب من خلالهم أشعاره البالغة التجريد والمتناهية الحساسية.ولكن من أين جاءت قوة أشعار بيسوا، وغموضها وسحرها في الوقت ذاته؟ إضافة إلى تعلق القرناء بالشعر وتوقهم للكتابة نصوص غير مسبوقة، تتطلع إلى مستقبل مجهول في الفضاء أوروبي تتزايد فيه الصراعات السياسية وتتضارب فيه المصالح الاقتصادية وتبرز فيه، بشكل عنيف، الحميات العرقية والعواطف الوطنية التي لا تعرف حدودا. أي التمزق بين البشر الذي ينذر باندلاع حرب عالمية بعد أن مهدت لها الحروب الأهلية والإقليمية المتعاقبة. كان لزاما تعدد الرؤى لمحاصرة الواقع وملامسة حدوده لهذا جاء قرناء بيسوا من آفاق مختلفة.
فألبارو دي كومبوس مهندس في البحرية تلقى تكوينه في غلاسكغو ببريطانيا، ولم يمارس مهنته لأنه اختار التشرد، و ريكاردو رايس طبيب اختار الهجرة إلى البرازيل بسبب ميوله الملكية في برتغال كان الصراع فيه محتدما بين الملكيين والجمهوريين، تناغما مع ما كان يحدث في الجارة اسبانيا. أما الثالث فهو ألبرتو كايرو الذي توفي سنة بعد ميلاده كقرين أي سنة 1915 والذي توفي وعمره لا يتجاوز 26 سنة و كان الأكثر قربا من حساسية روح بيسوا. كان يدعوه دائما «المعلم». لقد كان معلم الثلاثة جميعهم، كومبوس، رايس و بيسوا . فكان أن كتب بيسوا قصيدة «راعي القطعان» باسم ألبرتو كايرو بعد وفاته. هذه القصيدة أحدثت ثورة داخل القرناء الثلاثة، وطبعا من بينهم فرناندو بيسوا وتحولت إلى ما يشبه «البيان الشعري» أو القصيدة النموذج التي يحاول كل واحد تمثلها واستعادتها ثم كتابتها باسمه.
لقد كان ألبارو دي كومبوس مستقبليا وريكاردو رايس كلاسيكيا جديدا أما ألبرتو كاييرو فقد كان شاعرا مطلقا، ملهما لدائرته يشع عليهم جميعا لأن لغته «لغة بريئة»، وصمت حيث لا شيء يقال لأن كل شيء قد قيل»( باث 29) وهو عكس ريكاردو رايس الذي يوصف بأنه رواقي «يعيش خارج الزمن» و يؤمن بأن إلهه هو «الهاديس» أي إله الجحيم.
ولكن من هؤلاء القرناء؟
إنهم كائنات شعرية اخترعها شاعر البرتغال الأوحد فرناندو بيسوا، لم يكتب باسم مستعار، ولم يكتب نصوصا مزيفة ينسبها لشعراء مشهورين أو مجهولين، ولكنه كتبها بواسطة بدلاء، شعراء تجمعهم روابط فلسفية وعلائق جمالية وتفرقهم حساسيات تعبيرية، وكانوا قريبين من فرناندو بيسوا. يفرق بيسوا بين الكتابة باسم مستعار أي عندما يمضي الكاتب نصه بغير اسمه الحقيقي، أما الكتابة باسم قرين فهي عمل الكاتب لكن خارج شخصيته أي شخصية من صنعه كلية.»(رسالة إلى مونتيرو) يرفع بيسوا اللبس بين ممارستين أدبيتين.
قد نتساءل لماذا لجأ بيسوا إلى هذه الطريقة؟ الجواب في غاية البساطة لأنها علاج ضد العزلة لتجاوز حزن تراكم منذ قرون، وقد عبر عن ذلك بقوله: « لا أوجد إلا متنكرا» (Fragments98)، أي إن وجد، مثل اسمه، هو عبارة عن دور يشبه طرفة بصر في مسرحية العالم الكبرى.
ومن غرائب الصدف أن يموت ثلاثتهم: بيسوا كامبوس و رايس في اليوم ذاته والشهر نفسه و العام عينه، إنه يوم الثلاثين من شهر نوفمبر1935. ثلاثتهم ماتوا دون الخمسين، وحده ألبرتو كاييرو»المعلم» استبقهم إلى الموت بعشرين سنة وعمره كان آنذاك ستا وعشرين سنة. من النادر جدا أن يموت فنانون لهم قرابة وعلاقات جمالية في يوم واحد، قد يكون الموت رمزيا، عندما يتوقف مبدع عن العمل حزنا على اختفاء صديقه أو ظله أو حتى خصمه، أما الموت الحقيقي بهذه الطريقة ففيه كثير من الغرابة. ربما هذا ما جعل باث يلاحظ أن «كاييرو و رايس و كامبوس «هم أبطال رواية لن يكتبها أبدا بيسوا»(باث 24). تداخل العلاقات وتشابك المصائر يجعل من هؤلاء البدلاء، ومن ضمنهم مخترعهم، أبطال ملحمة شعرية.
فقد تكون ملاحظة أكتافيو باث نبوءة أو مجرد إيحاء أو حتى تحريضا، لقد تحول بيسوا وقرناؤه إلى شخوص روائية ذات كثافة سردية. ولكن قبل ذلك، هل وجد بيسوا حقيقة أم هو مجرد اختراع لا غير. لم يتوقف عن اختراع القرناء حتى بعد موته.
ذات يوم من سنة 1970 كان الكاتب الإيطالي أنطونيو طابوكي متوجها إلى محطة ليون بباريس للعودة إلى بلاده بعد أن أقام مدة في باريس وأثناء الطريق عرج على بائع الكتب ليأخذ معه «زاد الطريق»، لأن الرحلة بالقطار، في ذلك الوقت كانت شاقة، والرحلة كانت دائما قطعة من العذاب. من بين مقتنيات طابوكي ديوان صغير تحت عنوان «مكتب تبغ» لكاتب كان يجهله تماما إلى ذلك الوقت، اسمه فرناندو بيسوا. لم يكن طابوكي يدري أنه حمل معه جرثومة (لقاء مع تيزريانا كولومبو بجريدة الريبوبليكا) .هذا اللقاء مع شاعر ملعون سيغير حياة طابوكي ويدفعه إلى مسارات لم يفكر فيها ولم يخطط لها. لقد وقع طابوكي في دائرة السحر، وكانت هناك قوة غامضة دفعته إلى تعلم البرتغالية، لغة بيسوا الأصلية، رغم أن أشعاره تترفع على كل أنواع اللغات وتتعالى على المدهش والغريب لتحكي البسيط والمبتذل والعادي. كان هناك وسيط في شكل شبح، هو فرناندو بيسوا.
طابوكي تعلم البرتغالية بعد أن أصابته جرثومة بيسوا
تعلم اللغة البرتغالية لم يكن كافيا، بل تعين على طابوكي الدخول في الثقافة اللوزيتانية (البرتغالية) كيف ذلك؟ التنقل إلى البرتغال، التعرف على نبض الحياة من خلال الاحتكاك بالمواطنين، الاستماع إلى أفكارهم، التعمق في نفسيتهم، ارتياد الأوساط الثقافية والمشاركة في الجدل المعرفي والعلمي والسياسي. لكن هذا لم يكن كافيا أيضا. كانت تدفعه رغبة مجنونة للعيش داخل التراث اللوزيتواني والعيش كما يعيش المواطن البرتغالي الأصيل.
لم يكن يريد أن يعيش على الهامش، أن لا يرى إلا السطح، فتزوج من سيدة برتغالية، وتعرف على المطبخ المحلي وتذوق أطباقه حتى صار من العارفين به. ويلحظ كل من يقرأ أعمال طابوكي، بالإضافة إلى الشبح المتخفي، فرناندو بيسوا، المطبخ البرتغالي ومدينة ليشبونة و بورتو، تكلم عنها كواحد من أبناء البلد، ولكي يعبر عن امتنانه «لبلدي» الثاني، وولادته الجديدة أنشأ في جامعة سيينا» التي كان يدرس بها، معهدا للدراسات البرتغالية حيث يدرس فيه فريق الأساتذة، اللغة البرتغالية والأدب، والسياسة والثقافة والطبخ والفن، وتكفل طابوكي بترجمة كل أعمال بيسوا إلى اللغة الإيطالية. ألا يصدق هنا قول الشاعر»ومن الحب ما قتل.»
لقد خصص أنطونيو طابوكي أربع روايات للبرتغال: حنين الممكن، بيريرا يزعم، جنون مونيترو و»الأيام الثلاثة الأخيرة في حياة فرناندو بيسوا». إلى جانبها مجموعة من الدراسات الأدبية والثقافية، كلها ذات صلة بالبرتغال منها: صندوق ملئ بالبشر (حول بيسوا)، أحلام الأحلام، صلاة للموتى» إضافة إلى ترجماته لأعمال فرناندو بيسوا كاملة. لكن هذا الإعجاب لم يتوقف عند الكتابة بالإيطالية ، بل كتب مجموعة من النصوص باللغة البرتغالية.
لم تتوقف علاقة طابوكي ببيسوا عند مجرد الاهتمام و العناية، ولا حتى الإعجاب المبالغ فيه، بل إنه حاول تملك نصوص الشاعر البرتغالي، وقد تجاوز ذلك إلى الاعتقاد بأنه التقى به حقيقة ولكن هذا الالتقاء تم من خلال التخييل ( بوجو 186)، كما اعتقد بأن بيسوا التقى بالإيطالي لويجي بيرانيللو، وهو أيضا، أحد الوحوش التي مارست هيمنتها على طابوكي، وذلك عندما كان هذا الأخير في لشبونة، لكن الوثائق التاريخية تؤكد أن اللقاء بين بيسوا وبيرانديللو لم يتم لقد كان بيسوا دليل طابوكي مثلما كان فيرجيل دليل دانيتي . إنه النزول إلى الجحيم، جحيم الشعر الروحي في أبهى صفاته «هناك التقيتك، في هذا الكتاب الذي كنت أقرأه تحت شجرة التين البري» الكتاب هو كتاب العالم وظل التوت هو الذي يخفي عورته، أو يعرضه عاريا، كما آدم عليه السلام ، لأن الحقيقة المطلقة هي» الاختلاق».
هذا التماهي مع بيسوا جعل طابوكي يشك في وجود «صانعه» قد ننتهي بالشك بأن بيسوا لم يوجد أبدا، وأنه لم يكن إلا اختراع شخص ما هو فيرناندو بيسوا، شبيها له، قضى ثلاثين سنة في اختراع قرناء، يتقاسمون مع موظف في مكتب الإقامات البسيطة في لشبونة» (صندوق16)، ولكنه بعد أن توفي، بعد أربعين سنة يخترع شبيها آخر، من فضاء لغوي وثقافي مغاير. فهل كان طابوكي واعيا بأنه دفع بشخص ما أن يتحول بدوره إلى قرين من بين القرناء الذين اخترعهم بيسوا؟ (بوجو 184) ألا يعني الشك في وجود بيسوا شكا في وجوده ذاته، وأن المجهود الثقافي والسردي الذي خصصه للشاعر البرتغالي لم يكن إلا عبئا أو هذيانا.
يعرف عن فرناندو بيسوا أن حالته الصحية كانت هشة إضافة إلى معاناته من أعراض الهستيريا التي تقترب من الجنون، هذا ما جعله، في الكثير من الأحيان يعرف حالات من الهذيان.
وفي هذه الحالات، ينثال عليه الشعر ويتداعى عليه قرنائه، يملون عليه القصائد، ويكتبون بدله شذرات، قد يصعب عن العقل المتماسك أن يقبض على معانيها أو أن يرتبها ضمن خانات دلالية يمكن فهمها أو تداولها. هذه الحالات عانى بيسوا منها كثيرا، فجعلته يعاني الأرق، فيحول ذلك إلى أعمال أدبية.
وطابوكي الذي عرف بعمق هذه الحالات، وعاينها عند شاعره الأعظم حولها إلى رواية سيرية تحت عنوان « الأيام الثلاثة الأخيرة لفرناندو بيسوا –هذيان» رواية ظريفة في حجمها الذي لا يتجاوز السبعين صفحة نشرها بدار سيليريو بمدينة بالارمو سنة 1994، تحكي هذه الرواية الأيام الثلاثة الأخيرة أي 28 و 29 و 30 نوفمبر من سنة 1935، وهي الأيام كان فيها بيسوا يحتضر، فدخل في حالة هذيان وتعاقب عليه قرناؤه في غرفته في المستشفى، استعادهم لتصفية حساباته أو لتصحيح بعض المواقف الشعرية وفي مرات للتعبير عن الشكر والاعتراف بالدين وربما الاعتذار.
كان طابوكي قد أشار إلى هذه الحالة النفسية المتوترة لبيسوا والتي تقترب من الجنون وذلك عندما تم فتح «صندوقه» الذي تركه، صندوق مليء بالوثائق، إذ يكشف عن رسالة كتبها بيسوا لخطيبته «أوفيليا « معلنا عن نيته في الإقامة بمصحة للأمراض العقلية، مستغلا صدور مرسوم حكومي يسمح للمرضى عقليا الاستفادة من علاج مجاني على حساب الدولة.»(صندوق 80) وهو بالفعل ما حصل. لم يكن وحيدا في مصحة الأمراض العقلية لأنه هناك التقى الفيلسوف أنطونيو مورا، الذي كان «مجنونا رسميا» ولكن ذلك لم يمنعه من التفكير حول الوثنية في علاقتها بالمسيحية. قد تكون بذرة الجنون إحدى الجينات الوراثية التي ورثها عن جدته، وكثير ما كان يعتز بالإرث الجيني.
هذه الهشاشة في الجهاز العقلي لبيسوا جعلته، باستمرار، عرضة لحالات الهذيان. هذه الحالة جعلته يعيش الوهم. إنها حالة من حالات انفصام الشخصية أو الازدواجية، واختلال في علاقة الذات بالواقع لأن»الهذيان يتعلق عموما بالعلاقات مع الأفراد، الميدان الذي يكون فيه الانحراف شخصيا فيؤسس بشكل كبير هذه العلاقات»(بايار 116). لكن يجب أن نؤكد أن الذي يهذي لا يغش ولا يكذب ولا يحتال، لأن الذي يكذب يعرف أنه لا يقول الصدق ولكنه يوهم الآخر بأن ما يقوله حقيقة. كما لا يغش لأنه، هو ذاته، مصدقا لما يقول.
هذه الوضعية تجعل الذات في علاقة انحراف مع الحقيقة، وهو ما جعل خطاب الذات غير مطابق للواقع، أي في حالة انزياح مع الحقيقة اللغوية والوجودية، حيث تفقد الكلمات علاقاتها الدلالية مع الأشياء فتحدث بذلك حالة من الغرابة والغموض. لن يستطيع تفكيك خطاب الهذيان إلا من كان يتمتع بذكاء فائق في إعادة بناء العلاقات بين الكلمات والأشياء من جديد مع الأخذ بعين الاعتبار أن الخطاب نابع من ذات غير سوية ولها مقاربة مغايرة للواقع والحقائق الوجودية.
هناك مقدمات، في رواية طابوكي توحي بدخول فرناندو بيسوا في هكذا حالة. لقد بدأ ذلك عندما كان مقيما في بيت السيدة ماريا داس فيرتوداس، وهي سيدة ذات الستين سنة، كانت كل مساء عقب تناولها لشرابها تقوم أمامه بحصص لتحضير الأرواح. كانت تدخل في حوار مع الماريشال بيريرا، زوجها المتوفى، بينما كان فرناندو بيسوا يقوم باتصال روحي مع برناندو سواريس ليكتبا معا»كتاب اللاطمأنينة.» كانت هذه الحصص، تحضير الأرواح، بداية للانزلاق في الهاوية التي لن يخرج منها أبدا.
مساء اليوم الثامن والعشرين من شهر نوفمبر يصاب فرناندو بيسوا بالتهاب الكبد فينقله صديقان إلى المستشفى، في الطريق يعترض شرطي السيارة التي تنقلهم، ولكنه ينزع قبعته وينحني إجلالا للشاعر. إنه أحد القرناء النادرين، كوليو باشيكو، شاعر مقل، بأسلوبه القوطي، يكتب أشعارا غامضة رؤياوية، توقف عند القليل من الشعر.» لم يتوقف الموكب طويلا عند الشرطي ـ القرين بل اكتفى بيسوا بشكره بابتسامة متعبة.
تحول المستشفى، بمجرد دخول بيسوا إليه، إلى مغارة، أو قصر مسحور تتعاقب عليه الأشباح، القرناء جاءوا إليه، في شكل أشباح، كل واحد كانت له غايته وكل له مسلكه في عيادة الشاعر الأعظم الذي ربما يقف الآن في المحطة الأخيرة. يقتحم ألبارو دي كومبوس الغرفة المتواجد بها بيسوا « المهندس الشبح الذي درس علم البحار بغلاسغو لكنه لم يرض إلا أن يكون شاعر الطليعة في لشبونة»(صندوق 81)، يعبر دي كومبوس لبيسوا عن أسفه « لأن الحياة انفلتت منه» ويحن إلى الزمن الذي كان فيه شاعرا متحللا ويسخر من الحياة.» (20)، ثم يصفق الباب وراءه و يودع الشاعر. الحياة تسخر من الذي يتهاون بصددها لهذا يعتبر ألبارو دي كومبوس نفسه على الهامش وهو ليس بنادم على ذلك. لقد قام بتصفية حساباته مع الشاعر وفي الوقت ذاته أعلمه بأن مصيرهما مرتبط وأنه سيرحل معه. لقد أعلمه بأنه يجب عليه انتظار «الآخرين» لأن لديهم ما يقولون له.
قطع فرناندو بيسوا علاقته مع الزمن، لقد نسي أن الليل قد انقضى وها هو الصبح قد حل، هناك زيارة تؤرقه، تجعله يعيش على أعصابه إنها زيارة ألبرتو كاييريو، الذي مات منذ مدة، منذ عشرين سنة تقريبا، وسنة بعد ميلاده كقرين، مات مسلولا، مثل والد بيسوا، ربما هذا ما جعل كاييرو ويتعجب «كيف لي أن أصبح أباه و معلمه.»(25) لقد كان بيسوا يلقبه دائما ب»العلم» وهو الشاعر الذي عاش في أحد أرياف «ريبا تيجو» في بيت متواضع ومنه أملى على الثلاثي بيسوا كومبوس و رايس مذهبا غريبا. يشكر بيسوا «المعلم» كاييرو لأنه «بسببه وجدت تماسكا» (25). لقد أعاد إليه تماسكه، لكن الانسجام مع الوجود ومع الواقع الذي كان في حال انفصال معه.
يوم التاسع والعشرين من شهر نوفمبر يستقبل بيسوا، في مستشفى» القديس لويس» الفرنسي، الغرفة رقم أربعة، شخصية كانت قد غابت عن الأنظار، أي اختفت من مدينة ليشبونة، لكنها بقيت متصلة شعريا مع الشاعر الأعظم والزملاء القرناء، إنه ريكاردو رايس، الطبيب الشاعر، الذي اختفى منذ مدة، و اختار منفاه في البرازيل بسبب أفكاره الملكية، غير أنه صرح لبيسوا بأنه لم يهاجر إلى البرازيل بل كان متخفيا في قرية صغيرة ويمارس مهنته كطبيب القرية، وهناك كتب أشعاره تمجيدا للإمبراطور قيصر ومارك أوريل. لقد عاش ريكاردو رايس كما يعيش الرواقيون، حالة شديدة من التقشف، وأن أشعاره «المنتحلة» امتصتها أشعار بيسوا، لأن نصوص هذا الأخير كانت مفتوحة على الجميع تهضم الكل وتجتر الكل وتقبل الكل.
الغفوة التي عاشها بيسوا، لا يمكن تقديرها زمنيا، لأنه كان خارج الزمن، يعيش ديمومة ومدد غير محددة. الآخرون هم الذين يضبطون هذه النتف من الزمن، أما هو فلا يعنيه ذلك في شيء. لقد دخل زمنيا في اللازمن. إن الصوت الذي يقطع شريط الزمن المستمر، هو صوت بيرناردو سواريس الذي أحضر له طبقه المفضل «سرطان البحر المعرق» و»الحساء الأخضر» البارد. إنها أكلته المفضلة، لأنه «عاش دائما حياة متواضعة»(44) كما كلمه عن ببغائه»سيباستيو» الذي علمه بعض أشعار بيسوا وقد صار هذا الببغاء يردد الأبيات الأولى لقصيدة «مكتب التبغ» الذي صار فيما بعد الجرثومة التي أصابت أنطونيو طابوكي.
في الليلة الأخيرة يطرق باب غرفة بيسوا شبح شيخ سرعان ما تعرف إليه، إنه شيخ أنطونيو مورا، الفيلسوف المجنون الذي تعرف عليه في المصحة. كان يمزج في كتاباته بين المسيحية والوثنية، وها هو بصدد إنهاء كتابه «هل من عودة الآلهة؟». يطمئنه بيسوا بأنه قد احتفظ في صندوق بكل كتاباته التي سلمها له عندما كانا في مصحة المجانين بكاسكاييس، والتي اتهمت الصحافة الأدبية بيسوا عندما تم الكشف عن الصندوق العجيب بسرقتها وانتحالها. وهل كان يتهم بيسوا تهمته بالانتحال؟ ألم يكن هو مخترع المنتحلين المزورين؟
الحوار بين الشاعر الشاب، المقبل على الموت، والفيلسوف الشيخ المجنون، كان فلسفيا بامتياز، أخبر بيسوا أنطونيو مورا بحادثة، هي أقرب إلى أفعال المجنون منها إلى فعل الشاعر عندما كان يلقي أشعاره على كلب أسود اسمه «جو.» لقد كان بيسوا يعتقد أن هذا الكلب هو حلول الألوهية مصرية، وتمنى أن يلتقي بع في العالم الآخر.( (Delirio 52 هذا ربما ما جعله ينسى الموت ويعيد ربط صلته بالحياة. ولكي ينهي اللقاء مع بيسوا لتركه يموت في سلام قاطعه قائلا: «عزيزي أنطونيو مورا، بروزربينا (إله العالم السفلي) يطلبني في مملكته، حان وقت الرحيل والآن أترك مسرح هذه الصور الذي نسميه الحياة.» وقبل أن ينطفئ صوته طلب منه أن يعطيه نظارتيه (ص 53). وهذه النهاية، طلب النظارات، لكي يرى بها العالم بطريقة جديدة واضحة، ولكي تتجلى له الحقيقة ناصعة.
في المقدمة التي كتبها الشاعر والمفكر المكسيكي أوكتافيو باث لبعض مختارات بيسوا «شذرات من رحلة قارة» قال أن القرناء الذين أخترعهم بيسوا هم في الحقيقة شخوص روائية لسرد لم يكتبه بيسوا(ص24). إنه العمل الذي تكفل به الإيطالي أنطونيو طابوكي في روايته»الأيام الثلاثة الأخيرة في حياة فرناندو بيسوا ـ هذيان» (1994) جمع فيها أغلب القرناء: ألبارو دي كومبوس، و ألبرتو كايير و(المعلم) و برناندو سواريس الذي كتب بمعيته»كتاب اللاطمأنينة» والذي يعتبره بيسوا نصف قرين، والفيلسوف المجنون أنطونيو مورا و ريكاردو رايس .
انتقل ريكاردو رايس من قرين إلى شخصية روائية على يدي خوسيه ساراماغو، الكاتب البرتغالي الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1998. الرواية تحمل عنوان «عام موت ريكاردو رايس» التي نشرت سنة 1984 بلشبونة وترجمت إلى الفرنسية بعد أربع سنوات . رواية تتناول حياة قرين واحد من قرناء بيسوا، يمتزج فيها الخيالي بالأسطوري والأدبي بالتاريخي والواقعي بالمتخيل، تماما مثل حياة ريكاردو رايس الذي عاش أكثر من حياة واحدة، بل حيوات متعددة.
يعود ريكاردو رايس إلى البرتغال بعد ستة عشر عاما من الغياب قضاها بريو دي جانيرو بالبرازيل. مباشرة بعد تلقيه برقية تفيد موت مبدعه فرناندو بيسوا. يسجل سالنادور صاحب إقامة «البراغانسا» البايانات التالية: «ريكاردو رايس، السن ثمان وأربعين سنة، مكان الولادة بورتو، أعزب، المهنة طبيب، آخر عنوان ريو دي جانيرو.»(22) يتساءل القارئ لماذا هاجر إلى البرازيل، ثم لماذا عاد إلى بلده الأصلي البرتغال بعد ستة عشر عاما؟ «لقد رحلت إلى البرازيل سنة 1919، سنة رجوع الملكية في الشمال.»(134) إذا ربطنا القضيتين ببعضهما البعض يمكن أن نقول أن سبب الهجرة سبب سياسي وليس البحث عن وضع اجتماعي مريح. هل كان ريكاردو رايس من أنصار الملكية أم من خصومها؟ أم هل كان يراوغ الجميع.
توقيت عودة ريكاردو رايس إلى البرتغال لم يكن اعتباطيا، السبب الظاهر هو الأمانة لروح صديقه فرناندو بيسوا. يكتب الشعر بطريقة أصيلة ويمارس النقد بذكاء. «مات في صمت قبل البارحة، كما عاش دائما.»(35) إنه الموت الذي هز كل الأوساط الثقافية في البرتغال. قرأ ريكاردو نعيه في الجرائد، بعضها خصص له صفحة كاملة «تمت البارحة مراسيم دفن السيد الدكتور فرناندو بيسوا، أعزب، سبعة وأربعون سنة، مولود بلشبونة، مجاز في الآداب من الجامعة الإنجليزية ، كاتب وشاعر شهير في الوسط الأدبي»(36)
ومن علامات الأمانة أن يزور ريكاردو رايس قبر صديقه لأنه كان غائبا عن مراسيم الدفن. في اليوم التالي بعد وصوله إلى لشبونة واستقراره في الإقامة، خرج باحثا عن المقبرة. لم يكن قبره يحمل أية شارة عدا الاسم واللقب وتاريخي الميلاد والوفاة.(40) مجرد أرقام وحروف لا غير، كما أي إنسان عادي وربما دون ذلك. إنه الصمت والتجاهل الذي عرفه في حياته، والذي يلاحقه في مماته.
بعد غياب طويل، يعود ريكاردو رايس إلى البرتغال في سياق توترات سياسية، ومحيط أوروبي ينذر بالانفجار وتحالفات عسكرية تحضيرا لمجهول قادم. متابعته بلهف للأخبار جعلته يود لو يقرأ هذا الخبر على فرناندو بيسوا «كيف يستطيعون كتابة مثل هذه الحماقات؟»(91) لماذا أزعجته هذه «الحماقات «ألم يكن معنيا بها؟ هل عاد ليسرق أعمال بيسوا أم ليعيدها إلى من يستحقها؟ «ليس حقيقة أنه عاد من ريو دي جانيرو بسبب جبن، و لا لكي يتكلم بوضوح يقول ما كان يريد بلا خوفا ولا حتى بسبب موت فرناندو بيسوا»(90) إذن هناك دافع، أو دوافع مجهولة لعودته بعد غياب طويل. أصبح الماضي يطارد ريكاردو رايس الذي اختفى بسبب مساندته للملكية وأفكاره السياسية.
ربما هذا ما جعل «شرطة اليقظة والدفاع عن الدولة» وهي تشبه الحرس أو المخابرات تستدعيه للتحقيق معه، بعد عودته من البرازيل شهرين (172)، وقد صادف ذلك الانقلاب الذي قاده الجنرال فرانكو في اسبانيا والهجرة الجماعية للمواطنين الإسبان إلى البرتغال هربا من الحرب الأهلية. وتورد الرواية (عام موت ريكاردو رايس) تفاصيل الاستجواب في مقرات «الشرطة» (189-192) وكلها تتعلق عن علاقاته في البرازيل وظروف حياته هناك.
ما عزز الشكوك حول توجهاته السياسية قراءته لكتاب «مؤامرة» الذي اقترحه عليه الدكتور سامبايو، موثق مقيم مع ابنته مؤقتا في نفس الإقامة «براغنسا». هذا الموثق له ميول محافظة، وتوجس أن رايس يدين بنفس الأفكار كتاب «مؤامرة»، الذي في نظر ريكاردو رايس «يقدم عقيدة وطنية ممتازة، لغته شهية مع صرامة في عرض التقلبات ... ننتهي من قراءته وكأننا خرجنا من حمام طهور.»(140)قدمت رواية خوسيه ساراماغو، والتي لم أقرأها للأسف، نتكلم عن القمع السياسي واستغلال النفوذ والصراع حول المصالح والتجاذبات التي تتم في الدوائر العليا للسلطة، وكلها مدانة من وجهة نظر الراوي وهو ما كان له صدى عند ريكاردو رايس الملكي الذي تلقى تكوينه عند رجال الدين، لهذا قرأ الكتاب دفعة واحدة، أي على نفس واحد(142)، لهذا يعتبر هذا الكتاب تعميدا ثانيا لكل البرتغاليين»(177).
من هنا يتبين لنا أن استعادة ريكاردو رايس من البرازيل إلى البرتغال من طرف خوسيه ساراماغو يعود إلى أسباب سياسية، مرحلة مفصلية يمر بها البرتغال، والانتقال السياسي من نظام إلى آخر، ثم كان هناك التنافس بين الملكية والجمهورية. وهو ما مكن الروائي من إثارة أسباب الحرب الأهلية في الجارة اسبانيا والانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال فرانكو.
ربما هذا ما جعل «شرطة اليقظة والدفاع عن الدولة» وهي هيئة تشبه الحرس أو المخابرات تستدعيه للتحقيق معه، بعد عودته من البرازيل بشهرين (172)، وقد صادف ذلك الانقلاب الذي قاده الجنرال فرانكو في اسبانيا والهجرة الجماعية للمواطنين الإسبان إلى البرتغال هربا من الحرب الأهلية. و تورد الرواية لعام موت ريكاردورايس ) تفاصيل الاستجواب في مقرات الشرطة (189-192) و كلها تتعلق عن علاقاته في البرازيل و ظروف حياته هناك.
ما عزز الشكوك حول توجهاته السياسية قراءته لحلقات «مؤامرة» الذي اقترحه عليه الدكتور سامبايو، موثق مقيم مع ابنته مؤقتا في نفس الإقامة «براغنسا». هذا الموثق له ميول محافظة، و توجس أن رايس يدين بنفس الأفكار كتاب»مؤامرة»، في نظر ريكاردورايس «يقدم عقيدة وطنية ممتازة،لغته شهية مع صرامة في عرض التقبلات .... ننتهي من قراءته و كأننا خرجنا من حمام طهور» (177) قدمت رواية خوسيه ساراماغو تلخيصا مفصلا لرواية»مؤامرة» (140) و التي لم أقرأها للأسف ،تكلم عن القمع السياسي و استغلال النفوذ و الصراع حول المصالح و التجاذبات التي تتم في الدوائر العليا للسلطة، و كلها مدانة من وجهة نظر الراوي و هو ما كان له صدى عند ريكاردو رايس الملكي الذي تلقى تكوينه عند رجال الدين،لهذا قرأ الكتاب دفعة واحدة،أي على نفس واحد (142) ،لهذا يعتبر»هذا الكتاب تعميدا ثانيا لكل البرتغاليين»(177).
تظهر شخصية أدبية، هذه المرة من اسبانيا، هي ميغال دي أونامونو، الفيلسوف الذي كان كتابه «الإحساس التراجيدي للحياة» من أهم الكتب التي شرحت الوضع الإنساني في ظل تناحرات حادة وصراعات متتالية على أصعدة عدة. لقد ساند الحرب ونصح الرئيس آزانا بالانتحار(376) . مواقف الفيلسوف كانت جد مثيرة بالنسبة لريكاردو رايس، انتقاله من نعم إلى لا، الذي كان يدعو إلى حماية الحضارة الغربية ومنح خمسة آلاف بيزيطاس إلى جيش فرانكو ومطالبة أزانا بالانتحار»(378)، أي أن ريكاردو رايس يمجد من خلال أفكار عميد جامعة سالامانك الديكتاتورية والتي لم يتمكن من التخلص من فكرتها إلا قبيل وفاته.
كان ريكادو رايس قد يمر دون أن يعرف القراء عنه شيئا يذكر لولا ارتباطه باسم شاعر البرتغال الأعظم فرناندو بيسوا الذي اخترعه على شكل قرين. يقول بيسوا عن ريكاردو رايس في رسالته إلى أودولفو كاسييس مونتيرو حول «تكوين القرناء» «انتزعت ريكاردو رايس من وثنيته الزائفة التي كانت إلى الآن كامنة» (طابوكي: صندوق 182) ،هذا ربما ما يفسر عودته إلى البلد بعد ستة عشر عاما من المنفى.
قبل أن يتوفى بيسوا كان يستدعي ريكاردو رايس ليكتب بواسطته أشعاره وتأملاته، لكن بعد موت فرناندو يرى ريكاردو رايس أن يأخذ طريق العودة أي الانطلاق من نقطة النهاية للعودة إلى المنبع، أي الأصل. عاد إلى ليشبونة لسبب بسيط، هو زيارة قبر بيسوا. لقد سكنه إلى درجة الوسواس، وهو ما جعله يتردد عليه، وكانت أول زيارة لبيسوا لقرينه عندما كان مقيما ب»برغانسا» لأنه «ما زال له ثمانية أشهر يتنقل فيها حسب رغبته «(80) قبل أن يموت نهائيا. إنها نفس الفترة، أي تسعة أشهر التي يقضيها الجنين في بطن أمه قبل أن ينزل إلى هذا العالم.
يلوم بيسوا صديقه على اختياره للبرازيل كمنفى، لأنه يخاف الثورات لكن رايس يرد عليه بأنه عاد إلى البرتغال لأنه مات، وهو الوحيد القادر على ملء الفراغ الذي تركته(82). يلتقي ريكاردو رايس ببسوا مرة ثانية في الشارع متنكرا، من دون نظارات، فيجره إلى مقهى مارتينهو(93)، أي المكان الذي كان يجتمع فيه بيسوا وأصدقاؤه، ربما لكي يناقشا قضايا فكرية أو جمالية، لكن الشاعر يقترح الانسحاب مخافة أن يتم التعرف عليه، وهو الذي دفن منذ شهر.
يظهر بيسوا لرايس، ذات ليلة وهو في غرفة النوم وقد سقط منه كتاب، انه رواية بوليسية أحضرها معه من الباخرة التي حملته إلى البرتغال. أن يقرأ رواية بوليسية، فهذا لا يمكن أن يصدقه بيسوا، الطبيب الذي درس عند اليسوعيين وذي الميول اللاتينية، هذا يبدو غريبا، وهو ا ما جعل بيسوا يعلق: «تتظاهر كأنك، وأنت لا تعدو أن تكون ظل ذاتك»(177) أي أنك مهما حاولت التظاهر فإنك تبقى في عمقك تلميذ اليسوعيين ومناصر الملكية. لقد فقد اتجاه البوصلة لم يعد يعرف من هو.
إنه الكتاب الذي استحال على ريكاردو رايس الانتهاء من قراءته «إله المتاهة» للأمريكي هربرت كوين إنه»الكتاب الذي لم يستطع أبدا الانتهاء من قراءته رغم الوقت المتوفر، عندما فتحه رأى أن علاماته غير مفهومة.»(412) إذن ما هو هذا السر الذي يكتنف الكتاب رغم أنه كتاب بوليسي، وهذا الجنس من الكتب يكاد يتفق في المضمون، وجود لغز ثم حل اللغز.
لماذا لم يستطع ريكاردو رايس أن ينهي الكتاب؟ بكل بساطة لأن»هناك اغتيال لا يمكن شرحه»،(84) وهذا ما يجعل قارئ «إله المتاهات» حائرا، كل فصل يدفعه إلى آخر، يكتشف حقيقة لكنها سرعان ما يظهر أنها غير التي يقترحها الكاتب وكذا غير التي يريدها القارئ. ترتبط هذه الرواية بلعبة الشطرنج و تأخذ ببعض قواعدها وتحريك البيادق على الرقعة، وهو ما حاول ريكاردو رايس أن يقوم به « لقد سمعت ذات مرة أن لعبة الشطرنج في بلاد فارس، أما الآن فهي هنا، وليس في أي مكان آخر، وأننا نحن اللاعبون ولن يتسنى ذلك إلا لمقتدر، لأن لا شيء حقيقي، كل شيء مجاز. المجاز لا تحده حدود، فهو مفتوح على كل الاحتمالات، وقابل لمختلف القراءات. تلك هي الوضعية تماما في البرتغال الذي عاد إليه ريكاردو رايس بعد ستة عشر عاما من الغياب، فوجد أنه قد تغير وقد حلت الفاشية والطائفية محل الملكية، كما تروي ذلك رواية طومي فييرا» المؤامرة» وأن ريكاردو رايس اجتهد لقراءة كتاب هربرت كوين «إله المتاهات»، بغرض واحد هو»تحرير العالم من لغز غامض» (412) ولكنه لم يفلح لأن الزمن أصبح غير زمنه.