المأساة العراقية على منصّة السرد
صدرت في بيروت عن دار الآداب للنشر والتوزيع، رواية الكاتب العراقي محمد حيّاوي الجديدة «بيت السودان»، وهي الخامسة له، بعد رواياته: «طواف متّصل»، «ثغور الماء»، «فاطمة الخضراء» و«خان الشّابندر» التي حققت حضورًا طيبًا وكانت من أفضل روايات دار الآداب مبيعًا العام الماضي. ومما جاء في توصيف الناشر للرواية نقرأ ما يأتي: "نصٌّ مكتوب بمستويات مُتعدّدة".
يُقرأ بانسيابية ويحمل هويّة عراقية أصيلة. تبدو العلاقة بين الثلاثي «علاوي، ياقوت، عفاف» كأنّها مُثلث من نّار، لا يسمح لمن هم خارجه بالدخول أو الاقتراب منّه. علاقةُ دهشة طفوليَّة تكتشفُ العالم بواسطة اكتشاف الجسد. مُرتكزةٌ على ثنائيات مُحيّرة، تجمع بين العاطفةِ والرغبة، الاحتياج والارتواء، النقص والاكتمال. حتى تأتي صدمة النهاية القاسية بمثابة صرخة مدوِّية ومكتومة تضعنا أمام سؤال صادم هو الآخر، جوهره: هل من حدٍّ فاصل بين القسوة والجنون؟
ويؤسس الروائي محمد حيّاوي في روايته الجديدة «بيت السودان» لواقعٍ موازٍ للواقع العراقي بطريقة سرديّة سلسة مبطنة بالكثير من القراءات السياسية والأنثروبولوجية/ الاجتماعية لاستلهام لحظة التاريخ الراهنة للأحداث التي مرّ بها العراق في العقد الأخير، مرسخًا مرجع الدلالة والرمز بواسطة الأمكنة والشخوص.
وتأتي أهمية الخيال، لدى الكاتب، في تطويع العجائبي والغرائبي لصالح العمل عبر سيل جارف من توارد القصص والأحداث عن واقعٍ يبدو أغرب من الخيال نفسه، وبتطور درامي للأحداث التي مرَّ بها العراق، وكلّ هذا على خلفية المتن السرديّ، الّذي يتناول في ثيمته المحورية قصة بيت السودان، وهو بيت كبير على أطراف مدينة الناصرية الجنوبية تسكن فيه مجموعة من النساء سوداوات البشرة، يمتهنّ الرقص والعزف على الدفوف والغناء كمصدر لعيشهن، في حين يجد البطل، أبيض البشرة الوحيد، نفسه مُحاطًا بأولئك النسوة الجميلات اللواتي يغدقن عليه الحب، قبل أن تظهر على سطح الأحداث فتاة بيضاء يسارية متمرّدة تبدّد سكون بيت السودان ويومياته المسترخية. في حين تجري الأحداث المتداخلة تلك على خلفية الوقائع والمتغيرات السياسية العميقة التي حدثت في العراق. ويطلق العراقيون بتحبب صفة “السودان” على ذوي البشرة السوداء الذين عُرف عنهم حبهم للحياة والسخرية من واقعهم المرير وقدراتهم الفذّة في تجسيد المشاعر الوجدانية والإنسانية النبيلة بواسطة العزف والغناء والطرب والحياة الاجتماعية المنفتحة. وفي معرض توصيفه للرواية يقول الناقد العراقي البارز محمد جبير: “حشد من المواقف والشخصيات النادرة التي نسجت ببراعة من واقعية بروح الخيال تنبض الحياة في عروقها.. حيث يختزل الروائي تاريخ وطن بأكمله وبتقلباته السياسية والاجتماعية عبر عالم من العواطف والتفصيلات الإنسانية المثيرة التي تجعل من العجائبي مألوفًا ومن الوقائع مستحيلات صعبة التصديق. تنتمي رواية «بيت السودان» إلى زمن الأعمال التي تنتصر للنفس البشرية ضدّ تاريخ الحروب والعقائد المشوهة. حيث يطالعك حشد من الشخصيات المتنوعة الغنية والمحكمة البناء التي يستكمل بواسطتها محمد حيّاوي حيوات أخرى صنعها في روايته الشهيرة السابقة (خان الشّابندر) الصادرة عن دار الآداب أيضًا.
وتسعى الرّواية الجديدة في المُحصلة لإعادة قراءة التاريخ والوقائع المتداخلة، وصولًا للحاضر المتداع، بعد أن نجح السارد في جعل الخيال قوّة خارقة لاستعادة الأشياء المغيّبة قسرًا، إذ يلعب الخيال الروائي–السردي، ممزوجًا بالمخيال الجمعي بطريقة مبتكرة، دورًا في إنجاز هذه الإضافة السرديّة المتفردة التي بدأها الروائي في رواية السابقة «خان الشّابندر».
لقد استطاع السارد-بطل الرواية ـ أن يمنحنا متعة اكتشاف الذات وأسرارها المحرمة، تلك المعرفة المقموعة التي منحتنا الرّواية صيغة مواربة للحديث عنّها وتلّمسها، على الرغم من السريَّة المطبقة التي تحيط بها والتي أُريد لها أن تبقى طي البوح السردي في عالمنا الواقعي المُعاش، حيث لا توجد فرصة لاكتشافها سوى بواسطة التخيَّل والأحلام المكبوتة التي لا يمكن أن ندركها في واقعنا اليومي المحكوم بمنظومة معقدة من الأطر والقواعد.
عبد الغني بومعزة