الحفر بحثا عن الذات في مجموعة عاشقة من إفريقية
صدرت مؤخرا، عن دار الصفصافة بمصر أول مجموعة قصصية للكاتبة والناشطة التونسية مها سالم الجويني موسومة بـ”عاشقة من إفريقية”، حيث تصارع شخوصها في سبيل الحفر بحثا عن الذات الأصيلة الرازحة تحت ركام سياقات التاريخ المجحفة والمنصاعة لقيود المجتمع والقراءات المختلفة للتراث، كما تحاول تحرير روحها من خلال التعلق بالوطن الحقيقي الكامن بداخلها.
سامي حباطي
وتتداخل قصص المجموعة، التي جاءت في 126 صفحة، مع بعضها في تعبيرها عن الوطن الساكن في الشخوص، بما فيها القصة التي اختارت الكاتبة أن تكون البطلة فيها تحمل اسمها ولقبها، لكن الكثير من ملامح هذا الوطن الذي أخفته السياقات والظروف تختفي وتبتعد عن واقع المكان الذي تعيش فيه لتتحول إلى مشهد ضبابي يدخل الفرد في متاهة، مثل سفينة في بحر أمواجه مرتفعة ولا يستطيع ركابها رصد ضوء المنارات البعيدة في الظلمات الحالكة والأجواء المعكرة. ويعكس هذا الأمر أيضا جانبا من حالة الاختلاف في الرؤى بين عدة تيارات استطاعت دخول الساحة ورفع أصواتها تعبيرا عن آرائها في مرحلة ما بعد ثورة الياسمين.
وقد تكون متاهة المكان المشتركة في مختلف أجزاء المجموعة هي ما دفع بالكاتبة إلى اختيار القصة الثالثة الموسومة بـ”عاشقة من إفريقية” كعنوان للمجموعة كلها، حيث تغوص شخصيتها الرئيسية توناروز في بحر الذكريات أثناء جلوسها في مطار قرطاج بالعاصمة تونس في انتظار طائرتها المتوجهة إلى بيروت، لتفتح دفتر يومياتها المكتوب على رأسه عبارة “خذ تاريخك وامض” التي تشد القارئ مباشرة، كما أن اختيار المطار يحمل دلالة تعبر عن الحيادية، لأنها محطة انطلاق ووصول تساوي بين المسافرين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الطبقية والثقافية والعرقية، كما تمثل عتبة الوطن كرقعة جغرافية، لا يبقى بعدها إلا ما يسكن بداخل الإنسان من ذكرياته وما تحمله روحه من ندوب ناجمة عن صراعاته مع نفسه ومحيطه.
ولعل هذه الرؤية تكتمل بمضمون القصة الذي تسترجع فيه توناروز ذكرى مناجاتها للنجمة القطبية بعد الغروب حتى تُشعل الحب في قلب حبيبها، لكنها تستعيد أيضا مرارة خيبة الأمل التي تجرعتها جراء قصة حب فاشلة مع شاب مرتبط بفتاة أخرى ولم يبادلها نفس الشعور لكن اجتمعت فيه مكونات تربطها بحميمية تاريخ عالمها ووطنها الذي تنتهي إليه، لتختتم القصة بمساءلة ولوم الذات بالقول “كم أنا غبية. فمتى كان الرجال أوطانا لنا؟”.
ويجب التنبه أيضا إلى كلمة “إفريقية” في عنوان المجموعة، التي تمثل بلاد المغرب العربي الكبير مثلما ورد اسمه في النصوص القديمة وكما كان معروفا لدى العرب والمسلمين الأوائل، لكن هذا الأمر لا يحد من التداخل مع أصول الشخوص العميقة في قارة “إفريقيا”، فتوقيع الكاتبة للقصص يشير إلى أنها كتبت بدول مختلفة، من بينها النص الموسوم بـ”الصبية الضائعة” والذي كتب بأديس أبابا، كما يدور جزء من أحداثه بنفس المدينة، التي تقصدها الشخصية الرئيسية الحاملة لنفس اسم مها الجويني من أجل العمل، لكنها تجد نفسها في مواجهة نفس الصور النمطية التي لاحقتها منذ طفولتها في تونس بسبب شعرها الأشعث “المتميز” عن باقي شعور زميلاتها في الدراسة، فقد كان غير كاف لتكتمل به إفريقيتها بالنسبة لغيرها من سكان نفس القارة الذين اختارت لهم الطبيعة بشرة أكثر سمرة.
ويلاحظ بجميع نصوص المجموعة بأن مها اختارت شخوصا أنثوية كبطلات لقصصها، وربما يمكن أن نعزي هذا الأمر إلى تأثرها بانخراطها في التيار الأنثوي التونسي ودفاعها عن حقوق المرأة الطبيعية في المساواة والعيش بحرية في ظل ما تكفله الدولة العصرية، لكن هذا الأمر لم يمس بالرؤية الشاملة للمشاكل التي تعيشها الشخوص، فنجد بأن الذكور أيضا واقعون تحت طائلة القيود التي تفرضها ثقافة المجتمع وأعرافه المحتكمة إلى أفكار رجعية وقديمة أدرجت الكثير من الفئات في مراتب دنيا تنقص من حقهم الطبيعي في “ممارسة الحياة”.
وتمثل حارة السمران في قصة “لن يمروا” قطعة من الوجه الخفي للمدينة، الذي تسكنه العائلات الفقيرة، كما يعتبر ملجأ لصغار المجرمين وبائعي المخدرات لأن أنهجه الضيقة ومبانيه المتقاربة من بعضها تشكل حصنا عمرانيا منيعا يكفيهم شر الملاحقات الأمنية وسكاكين أعدائهم من المجرمين. لكن شخوص حارة السمران يرزحون أيضا تحت ثقل الأفكار المتطرفة، التي كادت أن تجعل نوفل المعروف في حيه بفار الحبس يضرم النار بساقي شقيقته لأنها “مست” بهما شرف العائلة عندما ارتدت تنورة قصيرة.
وتأتي هذه الحادثة في نفس القصة بعد خيبة الأمل التي لاقتها الشخصية الرئيسية المتشبعة بالأفكار الشيوعية والتحررية، عندما توجهت إلى مقابلة عمل في جريدة ودعاها رئيس التحرير إلى مقاسمته فراش شقته “كتعبير عن حريتها”، وهو ما يتداخل مع ما وقع للشخصية المسماة بـ”روعة” في قصة “لحم الظأن” عندما رفضت مضاجعة الطالب الشيوعي صاحب التأثير في الجامعة، واتهمها بالرجعية لتؤكد له في النهاية بأن السبب وراء رفضها يعود إلى تقززها من رائحة اللحم العالقة بأسنانه وليس لأنها تمنع جسدها عن الرفاق. وتظهر في القصتين “نكسة اليسار” من خلال الفكرة الخاطئة القائمة على اختزال التحرر في التنازل عن الجسد بالنسبة للمرأة أو ممارسة المحرم الاجتماعي، بينما تنظر الفئة أخرى إلى الراغبة في ممارسة حقوقها الطبيعية على أنها “فاسقة” وخارجة عن الصراط المستقيم.
ولا يمكن للقارئ حصر شخوص قصص مجموعة “عاشقة من إفريقية” وأحداثها في الواقع التونسي أو المغاربي فقط، فهي تعكس أيضا المشاكل التي يعيشها الإنسان في مختلف العوالم العربية، كما تضم رحلة البحث عن الذات وعن أصالتها الحقيقية كلما اقتربت من فطرتها الإنسانية والطبيعية، على غرار ما نلمسه في قصة “عند مزار بومخلوف”، التي تعاني فيها مراهقة زوجت من شاب “متدين” يكبرها سنا ووافقت أسرتها لأنه يعيش وضعا اجتماعيا مريحا لكنه صار يعنفها جسديا عند ممارسة الحب، فتلجأ أخيرا إلى جدتها القاطنة بالريف والتي تمثل بجسدها الموشوم بحروف التيفيناغ شراسة البيئة الجبلية الرافضة الانحناء أمام الأفكار الداعية إلى إخضاع الإنسان بقراءات متعسفة للتراث.
كما تتناول الكاتبة أيضا الصور النمطية عن التحرر في العالم العربي عند تعامل سكانه ما مواطني دول أخرى، في قصة “تونسية ومزيونة” أين تصف فيها نظرات الشهوة التي يرمق بها الرجال الفتاة التونسية، التي تسافر إلى إحدى دول الخليج للعمل، وهو ما يحمل انتقادا أيضا للتصورات النمطية التي قد تتطور عن مجتمع ما بفعل السياحة. وضمنت الكاتبة الكثير من الكلمات التونسية وعناوين بعض الأغاني التراثية من بلدها فضلا عن أسماء الأماكن، في حين أوضحت لنا بأن بعض الأحداث الواردة في قصصها مستلهمة من الحقيقة ومما عاشته في حياتها. وبعيدا عن المضمون، سيجد قارئ المجموعة نفسه في رحلة داخل المدينة التونسية ومختلف المعالم التي تميزها، خصوصا وأن أسلوب الكاتبة بسيط وسلس في الانتقال من فكرة إلى أخرى.
س.ح