من يواكب من؟
يواكب النقد الأكاديمي الرّواية الجزائرية الجديدة، ويدرس آخر الإصدارات الروائية متى ما ظهرت، وهذا على اختلاف مستوياته ومنابعه. ويبقى هذا الحكم عاما وصائبا إن لم نخض في بعض إشكالاته التي يمكن فتحها في هذا الباب، والتي من بينها طبيعة ونوعية الدراسة المُتابعة للرّواية الجديدة من طرف النقد الأكاديمي، وهذه هي القضية التي أردنا طرقها في هذا الموضوع.
د/وسيلة سناني
وقبل الدخول في طبيعة النقد الأكاديمي للرّواية الجزائرية المعاصرة سنعطي لمحة تاريخية عن النقد الأكاديمي للرّواية الجزائرية في مراحله المختلفة، بداية بمرحلة النشأة أين تبلور هذا الأخير في السبعينيات من القرن الماضي مع نشأة الجامعات وكليات الآداب ودخلت معها الحركة النقدية المشرقية إلى الجزائر، وقد استعمل الأكاديميون منذ ذاك الوقت عدة مناهج نقدية فنية وسياقية منها: النقد الفني، والنقد التاريخي، والنقد الاجتماعي، والنقد النفسي، رغم غلبة الجانب الانطباعي للأكاديمي الجزائري في بدايات دراساته واستعماله لهذه المناهج. وكان النقد التاريخي والاجتماعي في فترة السبعينات يعبران عن النصوص بوصفها انعكاسا للحالة التاريخية والاجتماعية التي أنتجتها، لذلك اهتم كثيرا بمضامين وبموضوعات الروايات المدروسة.
وجاء النقد الأكاديمي في هذه المرحلة تاليا وتابعا بطريقة سلسة للمدونات الروائية، حيث أنّ الرّواية الجزائرية المكتوبة باللّغة العربية والتي تبلورت في مرحلة السبعينات مع عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار رغم اعتمادها على التوظيف الفني إلاّ أنّها تبقى رواية مضامين بالدرجة الأولى وهذا بتعبيرها عن طبيعة المرحلة التاريخية والسياسية.
أمّا المرحلة الثانية من النقد الأكاديمي للرّواية الجزائرية فهي مرحلة النقد النصي بكلّ فروعه، أين بدأ التعرف عليه مباشرة من منابعه الغربية وترجمة نظرياته مباشرة منها، وهذا منذ فترة الثمانينيات حتى اليوم. وعندما نقول عن هذه المرحلة أنّها امتازت بالنقد النصي فإنّ هذا لا يلغ تواجد أنواع النقد السياقية الأخرى حتى يومنا هذا، لكنّها بنسبة قليلة جدا مقارنة بالدراسات النصيّة. ويتعرض هذا النوع من النقد لبنية النص الداخلية معزولا عن بيئته، وعصره، وصاحبه، ومجتمعه، ويتعامل مع النصوص بوصفها إنتاجا يمكن تعريضه لدراسة داخلية تتعرض لكيفية بناء هذا النص والجماليات المترتبة عن ذلك. ولذلك تحولنا من نقد الرّواية إلى نقد السرد، لأنّ السرد هو الطريقة الخاصة التي يكونها ويشكلها الروائي لعرض القصة على مستوى الحكي.
وبالتالي، فإنّ مواكبة النقد الأكاديمي الجزائري للرّواية الجزائرية الجديدة يتم في أغلبه عن طريق الدراسات النصية بكلّ فروعها التي تهمل الجوانب السياقية للرّواية وتبحث في شكل النص وآخر مبتكراته الجمالية. ولعل اهتمام النقاد بتطبيق هذا النوع يعود إلى الاعتقاد بمواكبة آخر ما توصل إليه النقد الغربي، كما يعود إلى مباشرة هذا النوع من النقد ويسر تطبيق قواعده على أي نص كان. لنطرح هنا أيضا كيفية اختيار النصوص، فهي لا تختار لجودتها بل لأنّ المدونة مُروّج لها مثلا، أو لأنّ صداها بلغ الناقد عن طريق ما. ويعود السبب الآخر أيضا إلى التجريب الّذي تمارسه الرّواية الجزائرية الجديدة على مستوى شكلها وبنيتها حيث يكون صالحا لمثل هذا النوع من الدراسات، فالروائي صار يعتني بالجوانب الشكلية والتجديد فيها.
ويمتاز هذا النوع من النقد بكونه يُعلي من شأن النصوص الروائية الأكثر توظيفا لتقنيات سردية جديدة ولأشكال جمالية أخرى، كالتناصات بكلّ أنواعها، والتحاور مع الفنون، وتعدّد الأصوات وغيرها، بناءً على النظريات البنيوية ونظريات الخطاب والسيميائيات ونظريات البنيوية التكوينية وغيرها.
هذا الأمر جعل من الروائي الجزائري يتسابق في العناية بالشكل على حساب المضمون، وصار الروائي يتبع النقد ويقوم بمغازلة أحدث نظرياته لكي يفوز بالاهتمام النقدي السائد.
رغم أنّ هذا الأمر لم يكن موجودا في المرحلة الأولى من دخول هذا النقد وتطبيقاته وهي «رواية الأزمة»، حيث أنّ هذه الرّواية عنت بالمضامين أكثر من عنايتها بالشكل، عدا بعض الروايات مثل رواية «ذاكرة الماء» لواسيني الأعرج التي يبدو فيها أنّ الروائي من خلال بنائه للزمن في الرّواية كان قد اطلع على كتاب جيرار جنيت «خطاب الحكاية».
ومع أحوال هذا النوع من النقد الأكاديمي في مواكبة الرّواية الجزائرية الجديدة، صرنا نتساءل: من يواكب من؟ هل النقد يواكب الإبداع؟ أم الإبداع يواكب النقد؟
إنّ هذا النوع من النقد جعل الروائي لا يعتمد العفوية في الإبداع من حيث الشكل، كما جعله يميل نحو التكلف أحيانا وهو يقعّد لنصه، كما جعل من الروائي يهمل مضمون أعماله على حساب العناية بشكلها، بل أحيانا نرى أنّ الرغبة في بناء رواية هي التي دفعته لكتابة رواية وليست فكرة ناضجة ما ضغطت عليه ليخرجا في شكلها المناسب.
ومن خلال هذا يمكن أن نقول أنّ التجريب الّذي تُوصف به الرّواية الجزائرية الجديدة هو محصلة لهذا السعي وراء إبهار النقد النصي بكلّ تفرعاته، لذلك فإنّ دليل مواكبة النقد للرّواية بالمناهج النصية قد جاء من الرواية نفسها.
لقد أضحت مواكبة النقد الأكاديمي للرّواية الجزائرية الجديدة مواكبة فيها الكثير من التشويش والفوضى، تخضع للانتقاء العشوائي والبراغماتية من طرف الباحث من أجل إظهار مقدرته النقدية بمناهج علمية لا تقدم أيّة محصلات أخرى قد نحتاجها في التأسيس إلى تاريخ أدب محلي مثلا، خاصة أنّ تاريخية الأدب مرهونة بمدى تعبيره عن بيئته، وعصره، ومجتمعه. وأمام هذا التشويش والتداخل في الأدوار نتساءل إلى أين تسير الرّواية الجزائرية؟ التي كان قد عبر عنها الكثيرون أنّها في إطار التجريب، في حين أنّ هذا التجريب لا يعود إلى البحث عن مستقر أو تأسيس لشكل ما، بقدر ما هو محاولات غير منتهية للتجديد في الأشكال السردية من أجل إبهار الناقد بجديد شكلي ما.
إنّ الذين أسسوا للرّواية الجزائرية حديثا أو حتى تلك الأنواع الروائية التي خرجت من جغرافيا الجزائر الحالية وشكلت سبقا في الرّواية العالمية لم تعرف نقدا نصيا. وأشار إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة والإمبريالية» إلى أنّ الرّواية وجدت في الجزائر وفي الهند، وهذه الإشارة من إدوارد سعيد مبنية على قوة الرّواية التابعة للجغرافيا الجزائرية منذ القديم على تحصيل الواقع والمجتمع وتقديم تاريخ حقيقي، وبالتالي المقدرة على تعرية كلّ الأشكال الثقافية. ورؤية إدوارد سعيد هنا مبنية أيضا على نقد أشكال النقد النصي، التي تصادر وتحارب هوية النصوص الأدبية، ومقدرتها على إعطاء التاريخ الحقيقي.