سهولة النشر تسببت في حالة رداءة وفي ظهور فقاقيع «روائيين»
يتحدث الكاتب والناقد والأكاديمي الدكتور مخلوف عامر (أستاذ الأدب بجامعة سعيدة) في هذا الحوار، عن أحوال وواقع القصة القصيرة، والقصيرة جدّاً في الجزائر وعن «التهافت» على الرواية الذي تسبب في حالة من الرداءة. للإشارة، الدكتور مخلوف عامر، هو واحد من أبرز النقاد في الجزائر، بين إصداراته الكثيرة: «تدريس العربية وآدابها: دعوة إلى التجديد»، «مراجعات في الأدب الجزائري»، «الهُوية والنص السردي»، «مظاهر التجديد في القصة القصيرة بالجزائر»، «ألوان من الحكي»، «تطلعات إلى الغد: مقالات في الثقافة والأدب»، «تجارب قصيرة وقضايا كبيرة: دراسات في القصة والرّواية»، «الرّواية والتحولات في الجزائر»، «متابعات في الثقافة والأدب»، «توظيف التراث في الرّواية الجزائرية»، «الواقع والمشهد الأدبي»، «قراءة جديدة في نصوص قديمة»، «الكتابة لحظة حياة»، «تطبيقات في الأدب القديم»، «مناهج نقدية».
حاورته/ نــوّارة لـحـرش
واكبتَ بالنقد والدراسات والمقالات، الكثير من الروايات والمجموعات القصصية وحتى الشّعرية، لكن الملاحظ أنّ بريق القصة القصيرة في الجزائر يشهد بعض الخفوت والتراجع، رغم بعض الأعمال القصصية التي تصدر هنا وهناك من فترة لأخرى. هل هذا لأنّ الرّواية سيدة الحضور والمعارض والتتويجات؟ وهل القول بموتها حقيقة أم فقط ذر كلام هنا وهناك بعيدا عن واقع الحال وواقع القصة؟
مخلوف عامر: كنت قد أجبتُ عن بعض الأسئلة في كتابي ((مظاهر التجديد في القصة القصيرة بالجزائر))، وبعض الأجوبة مازالت قائمة. إذ كان الكُتاب في بداياتهم يتعلقون بالقصة القصيرة لاستسهالها أو لسهولة نشرها، ولا يلبثون أن ينتقلوا إلى تجريب الرّواية بدعوى أنّها تفسح المجال لأفكارهم التي لا تتسع لها القصة القصيرة، وعادة ما يكون ادِّعاء لا أساس له.
فالخفوت الّذي يشهده هذا الفن الأدبي الجميل، هو من بريق الرّواية التي صار يهاجر إليها كلّ من جمع كومة من الأوراق ومبلغاً ماليا ووجد له ناشراً يبحث عن الربح السريع كما يبحث هو عن شهرة أسرع، ويتوهَّم أنّه يكفي أن يسجل على صفحة الغلاف كلمة «رواية» ليصبح روائياً معروفاً. ثم هناك عامل يعود إلى طبيعة القصة القصيرة ذاتها، فمساحتها ضيقة تقتضي أن يلتقط كاتبها لحظة حياتية خاطفة، وأن تكون لديْه القدرة على ترويض اللّغة بحيث يستغني عن كلّ مفردة لا ضرورة لها. فهي من هذا الجانب أقرب إلى اللّغة الشّعرية، من حيث الاختصار والتركيز، والتقاط الومضة الحياتية المؤثرة، وقليلون هم الذين يتمتَّعون بهذه المَلَكة.
ثم يأتي –لا شك- دور وسائل الإعلام والهيئات المهتمَّة بالأدب والتي انساقت وراء بريق الرّواية والروائيين واختزلت النشاط الأدبي في هذا اللون دون سواه، تشجيعاً وتكريماً حتى إن الاسم الواحد قد يتكرر مرات ومرات، بصرف النظر عما قد يشوب هذه العملية من شبهات.
لعلّ ما طال القصة القصيرة من خفوت لم ينجُ منه النقد ولا الشّعر إلى حد كبير. وأعتقد أنّ الناس ما زالوا يجرجرون فكرة بالية كوْن الناقد لا يعدو أن يكون تابعاً للمبدع ولذلك لا يحظى بالتقدير نفسه مهما بذل من جهد في القراءة والبحث. ولكن لا يمكنني أن أتصوَّر النشاط الإنساني دون شِعر أو نقد أو قصة قصيرة، بل أزعم أنّ النصوص القصيرة قد تصبح مؤهلة أكثر من غيرها للتلقي في المستقبل بفعل الحياة المتسارعة ووسائل التواصل المدهشة والعزوف عن القراءة عامة، ناهيك عن أن النصوص الطويلة لم تعد تُغْري القارئ إلا نادراً جدّاً وخاصَّة إذا هي لم تكن مشوِّقة منذ البداية.
فمعظم الكُتاب لا يقرؤون أعمال بعضهم، وغالبا ما لا يقنع الروائي بنص واحد ويتريَّث ليرقب صداه، بل سرعان ما يتعجَّل إصدار نصوص أخرى بنوع من الإسهال لا ينمُّ إلاّ عن ضحالة فكرية وضيق أفق.
أسماء تاريخية كبيرة اشتهرت بفضل القصة القصيرة أمثال: تشيخوف، وأدغار ألان بو، وجي دو موباسان، وها هي «أليس مونرو» من كندا تنال أكبر جائزة، وهي جائزة نوبل، لأنّها تكتب القصة القصيرة بأسلوب واقعي في المضمون وانطباعي في الشكل كما قيل. لكن هذا يحدث عند الأمم التي لم يصبها الانحراف واستمرت تنظر إلى النشاط الإنساني في مجمله ومنه النشاط الأدبي الّذي لا يقبل الفصل الإقصائي بين فنونه مادامت ترتقي بالإنسان فكراً وذوْقاً وجمالا.
أيضا القصة القصيرة جدا في الجزائر، تقريبا غير مرحب بها، في حين يُحتفى بها وبشكل كبير ومتواصل في كامل الوطن العربي، حيث تشهد الكثير من الاعتناء والاحتفاء وهذا بإقامة ندوات ومؤتمرات ومسابقات ودراسات ومقاربات، وهناك مخابر بحث خاصة بها وبعوالمها وكُتابها، كما تفتح لها دور النشر أبواب وفرص النشر الواسعة. برأيك لماذا هذا الإجحاف في حق هذا الفن؟
مخلوف عامر: حال القصة القصيرة جدّاً من حال القصة القصيرة والشّعر. فهي أنواع أدبية تراجعت لهيْمنة الكتابة الروائية على الساحة. فعادةً ما نشهد لدى الأدباء المبتدئين إقبالهم على كتابة القصة القصيرة أو الخاطرة وما شابه، لأنّهم يستسهلون شأنها ويسهل نشرُها، ثم لا يلبثون أن ينتقلوا إلى كتابة الرّواية. وقد يبرِّرون هذا التحوُّل بكون الرّواية تمنحهم مساحة أرحب للتعبير عن أفكارهم التي لا تتسع لها القصة –كما أسلفنا الذكر-، بينما هم لا يملكون في الواقع من الفكر إلاّ ما يدفعهم إلى البحث عن شهرة مفقودة.
فأمّا النقد في بلادنا فلم يواكب الحركة الأدبية، لأنّ المهتمين بالأدب لا يروْن في الناقد إلاّ تابعاً للمبدع يقتات على ما يتساقط من مائدته، وقد يشترطون فيه أن يكون شاعراً أو كاتباً ليتسنَّى له الحكم على الإبداع. وإنهم- وإن هم لم يصرِّحوا بقناعاتهم- إلاّ أنّها ليست بعيدة عمَّا عبَّر عنه «ميخائيل نعيمة» منذ قرن من الزمن حين كتب «الغربال» يقول: ((وأي فضل للصائغ الّذي تَعرض عليه قطعتيْن من المعدن متشابهتيْن. فيقول في الواحدة إنّها ذهب، وفي الأخرى إنّها نحاس؟ أو تعطيه قبضة من الحجارة البلورية البراقة فينتقي بعضها قائلا: هذا ألماس. ويقول فيما بقي: هذا زجاج؟ إنّ الصائغ لم يخلق الذهب ولا أوْجد الألماس (...) ولولاه لظل الذهب نحاساً والألماس زجاجاً أو العكس بالعكس. وكَمْ هم الذين يميزون بين الألماس وتقليد الألماس)).
ثم هل يُشترط في المرء أن يكون دجاجة كي يُميِّز صالح البيض من فاسده؟. والّذي قد لا يعيه الذين يهجرون كتابة الشّعر أو القصة القصيرة أو القصيرة جداً، أنّ كتابتها من أصعب ما يمكن أن يتصوَّره المتطفلون على الأدب. إذ أنّها تستوْجب مكنة عالية في اللّغة وتقنيات الكتابة واختزال شريحة من الحياة في لحظة شاعرية مركَّزة.
الخفوت الّذي يشهده فن القصة هو من بريق الرّواية
كان «محمد الصالح حرز الله» -في حدود معرفتي- من أوائل مَنْ جرَّبوا كتابة القصة القصيرة جداً، وقد نجح إلى حد بعيد في أن يتميَّز بلغته وطريقته في الحكْي، كما في مجموعاته: «الابن الّذي يجمع شتات الذاكرة» و»النهار يرتسم في الجرح» و»التحديق من خارج الرقعة». كما يمكنني أنْ أذكر «عبد الكريم ينِّينة» و»السعيد موفقي» ممَّن قُدِّر لي أنْ أطلع على أعمالهم المُميَّزة.
فأما وقد أصبحت الرّواية جسراً للعبور إلى شاطئ الشهرة، ولم تعد في أغلب التجارب سوى فيض من الثرثرة، فإني لا أطمئن إلى أنّ القراء يجلسون طويلاً لقراءتها، وأشك في أن يكون الروائيون أنفسهم يقرؤون بعضهم. خاصة ونحن نشهد اليوم التسارع اللامسبوق في وسائل الاتصال. واكتفاء القارئ بنص قصير كاكتفائه بأكل سريع، قد يؤشِّر هذا إلى العودة إلى هذه الفنون القصيرة، تماماً كما يكتفي القارئ أحياناً برسم كاريكاتوري يعبِّر في لمحة من البصر وبما هو أجمل، عمَّا لا يغنمه من خطب مطوَّلة أو نصوص مشوَّشَة ومشوَّهَة.
إنّ العزوف عن الممارسة النقدية وعن بقية الفنون الأدبية، لا يمكن أن يدل إلاّ على ضحالة في الفكر وفقر في المعرفة الأدبية. وقد شهدنا في فترة سابقة كثيرين من أولئك الذين لا يتوفَّرون على أدنى حد من معرفة التراث الشّعري وقواعده قد هربوا إلى شِعر التفعيلة وقصيدة النثر. كما نشهد اليوم حالة من الرداءة سهَّلتها عمليةُ النشر، فطَفَتْ على السطح فقاقيع «روائيين» لا تلبث أن تنطفئ بمرور الأيّام.
على ذكرك لسهولة وسرعة النشر خاصة مع سيولة الدعم التي كانت. كيف ترى واقع النشر في الجزائر، تحديدا من ناحية القيمة الأدبية والجودة الفنية؟
مخلوف عامر: يظهر لي عند الحديث عن دور النشر الجزائرية أنّ هناك ثلاثة أمور، لا بدّ من أن تؤخذ في الحسبان:
الأوّل: أنّها تجربة محدودة في الزمن.
الثاني: ضرورة تجنب التعميم في الأحكام.
الثالث: أنّ الذين فكَّروا في تجارة الكِتاب، فكَّروا في تجارة من النوع النبيل. هناك من الناشرين من حرصوا على إخراج الكِتاب في طبعات أنيقة، ربّما لأنّهم انتبهوا إلى ضرورة الاستفادة من تجارب أخرى سابقة، وهذا جميل. إلاّ أنّني لستُ متيقِّناً من أنّهم يسعوْن جميعاً إلى إنتاج كِتاب رفيع لغة ومضموناً. لأنّ اللهاث وراء الربح السريع قد يحجب عن الناشر أن يُفكِّر في لجنة قراءة تتكوَّن من ذوي الكفاءات العالية.
وماذا عن حقوق المؤلف؟
مخلوف عامر: فأما حقوق المؤلف فهي قصة أخرى ومأساوية بلا شك. لذلك قد يأتي الناشرَ شخصٌ محمَّل بكومة من الأخطاء على أنّها (رواية)، إذ يكفي هذا الشخص أن يُسجَّل على صفحة الغلاف جنساً أدبياً صار موسم هجرة ومطية لتحقيق شهرة مفقودة. وما دام المعني يحمل من المال إلى الناشر بقدر ما يحمل من الأخطاء والتهويمات، فإنّ الناشر لا يتردَّد في أن يقبل وينشر ويُشهر ولو كان عاجزاً عن التوزيع، أو لا يهمُّه التوزيع أصلا، ما دام قد أخذ مستحقَّاته وما فوقها قبل الطبع.
بعدما عدتُ يوماً من أحد معارض الكتاب، اقتنيْتُ مجموعة من الأعمال، وكان من بينها ما استغرق مني وقتاً طويلاً لإحصاء الأخطاء المزعجة التي لا ينبغي أن يرتكبها تلميذ في الطور المتوسِّط، بنيَّة أنْ أنقلها في شكل جدول وأوافي بها الكاتبة المعنية لعلَّها تراجع وضْعها في المستقبل. لكن صاحبة الكِتاب يوم التقيْنا بدَتْ مزهوَّة، لا تلتفت إلى أحد فقد أصبحت (روائية)، بل وكبيرة أيْضاً. فما كان منِّي إلا أن احتفظت بأوْراقي. لذلك فإنَّه، إذا لم تكنْ مثل هذه الظاهرة مشبوهة فإنّها –بالتأكيد- ليست سوية. والغريب أنّهم يحاولون دوماً أن يستغفلوك، سواء أيستغفلك ناشر ملاييري لا تلاقيه إلاّ شاكياً باكياً، أم متطفِّل على الكتابة جرَّب الطيران قبل أن يكتمل ريشُه.
ثم ما قيمة الحديث عن ناشر إذا كان الكُتَّاب أنفسهم لا يقرؤون بعضهم بقدر ما يمارسون الإقصاء على بعضهم متلذِّذين بنرجسية مُفْرطة؟!
لكن –وفي كلّ الحالات- دعوهمْ يكتبوا، دعوهمْ ينشروا، دعوهمْ يجمعوا الأموال. (ما يبقى في الوادي غير حجاره)، لأنّ من يعيش لعمره ستبدو له الحياة قصيرة قِصَر عمره، ومن يعيش لفكرة وقناعة، ستبدو له طويلة لا تنتهي. ورحِم الله امرأً عرف قدْر نفسه.
نعود إلى الرّواية التي قلت أنّ الخفوت الّذي يشهده فن القصة هو من بريقها. كيف ترى واقع وحال الرّواية الجزائرية؟ وكيف تفسر ما يدعيه البعض من وجود أزمة في الرّواية؟ أيضا هل الكم الهائل من الروايات التي تصدر كلّ يوم، لا يعني بالضرورة أنّه دليل عافيتها بقدر ما يعني أنّه وبشكل ما هو دليل آخر على أزمتها. وكيف يمكن أن يُنظر إلى واقع وحال الرّواية الجزائرية؟
مخلوف عامر: إنَّ الرّواية وقد نالت هذه الشهرة الواسعة، فإنَّه من الطبيعي أن تتَّجه صوْبها الأنظار أكثر من سواها، وتنال الحظ الأوْفر من النقد والانتقاد، فإذا قِيل إنَّها ليست بخير أو في أزمة، فهو انطباع تعميمي قد لا يكون مصدره –فيما أقدِّر- أكثر من ثلاثة احتمالات:
فإمَّا، أنَّ هناك فنّاً أو فنوناً أخرى في الكتابة صارت تزاحمها وهو الأمر الّذي لم يحصل إذا ما استثنيْنا وسائل التواصل. وإمَّا، أنَّ حظَّها من المقروئية يسير إلى تراجع -وهذا يحتاج إلى سبْر دقيق- فضلاً عن أنَّ التراجع في الإقبال على الكِتاب ظاهرة عامة لا تخصُّ الرّواية وحْدها، وإمَّا، أنَّ حظَّ الكتابة الروائية من الإبداع قليل، ممَّا يستوْجب الاطلاع على أكبر قدْر من النصوص قبل إصدار أيِّ حكم.
إذا ما استحضرنا تجربتنا في الكتابة الروائية بالعربية، فإنَّها قصيرة بالقياس إلى غيرها، بحيث تُقارب خمسة عقود بدءاً من سبعينيات القرن الماضي. وإنَّ الذين أقْدموا على خوْض هذه التجربة يكاد معظمهم أنْ يكونوا عصاميين، لأنَّهم -وإنْ تعلَّموا في منظومة تربوية- إلاّ أنَّ القائمين على هذه المنظومة لم يْهْتدوا إلى طرائق بيداغوجية تُحَبِّب الأدب للمتعلِّمين ناهيكم عن أنْ تمرِّنهم على الكتابة الإبداعية.
لقد استطاع الكُتَّاب أن يتخلَّصوا من التوجُّه المضموني الصارخ الّذي فرضته مرحلة تاريخية ساد فيها التقاطب بين معسكريْن، وشاع فيها مفهوم الالتزام، لينتقلوا منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى مراجعة الإرث السابق والعناية بأدبية النص، وإن كانت الفترة السابقة نفسها لا تخلو من ومضات فنية لدى هذا الكاتب أو ذاك.
إنّها فترة العودة إلى الذات الكاتبة، وإنّها -وإن هي جنحت في كثير من النماذج نحو الضبابية والتهويم الّذي لا ينمُّ عن فكر عميق- إلاّ أنّ نصوصاً عديدة تميَّزت باصطناع أرقى التقنيات بدءاً بالاشتغال على اللّغة وخلخلة التسلسل الزمني والأسلوب الساخر وتوظيف التراث بوعي تاريخي لافت وانتهاء بالتحليق في عوالم من التخييل -بما فيها الخيال العلمي- لتنتشل النص الروائي من التقريرية والتسطيح. وهي مظاهر تلتقي فيها مع أرقى الكتابات العربية.
اللهاث وراء الربح السريع جعل الناشر لا يسعى إلى إنتاج كِتاب رفيع لغة ومضموناً
لقد مضى حينٌ من الدهر ظلَّت فيه الأسماء المُكرَّسة تُهيْمن على المشهد الأدبي، غير أنّنا إذا ما اقتصرنا على مطلع الألفية الجديدة، سنكتشف مجموعة من الكُتَّاب -ذكوراً وإناثاً- يُثْبتون تميُّزهم بجدارة. إذْ يمكن أنْ نتبيَّن من خلال نماذج كثيرة، كيف أنَّ بعض الكُتَّاب يتميَّزون بلغة أدبية راقية ويختارون عناوين مثيرة ويُطعِّمون نصوصهم بدرجات متفاوتة من التخييل ويوظِّفون أدوات مستحْدَثة تُكْسِب النص عناصر من التشويق وتؤكِّد قدْراً من الموهبة لا تخطئه العيْن. لذلك يلتقي في النماذج المقصودة كُتَّاب من أعمار مختلفة، ومن فترات متباعدة، لكنَّ كُلاًّ منهم قد شقَّ لنفسه طريقاً مغايراً.
كيف يمكن تبرير هذا التهافت على كتابة الرّواية وهو في معظمه تهافت لا ينتج روايات بقدر ما ينتج كتابات مفرغة وخالية من فن الرّواية؟
مخلوف عامر: لا ينبغي أنْ ننخدع بما نشهده من تهافت على الكتابة الروائية، إذْ ما أكثر الأعمال التي لا صلة لها بالرّواية غير ما أُعْلن على صفحة الغلاف. وإذا كان هذا التهافت قد أدَّى إلى تراكم في الإنتاج الروائي، فإنَّ التراكم –لا محالة- يفرز عناوين مضيئة. فيوم كان الشِّعر يتصدَّر المشهد الأدبي، عاش إلى جانب المتنبِّي عشرات من الشعراء، اختفى أغلبهم في كهوف التاريخ كالخفافيش، بينما ظلّ المتنبي يطالعنا على صهوة جواد لا يكل.
والرّواية -بدورها- وإن كانت تجتذب الموْهوبين والمدَّعين معاً فمنها ما يمكث في الأرض، ومنها فقاقيع لا تلبث أن تنطفئ، كما هي طبيعة الأدب في سائر العصور، وتبقى حاجتنا مُلِحَّة إلى ممارسة نقدية مهما تكن قيمتها، لننتقي من بيْن هذا الركام نصوصاً تُبشِّر بمستقبل واعد وهي موْجودة بالفعل لا بالقول، ما يدفعنا إلى الاطمئنان لحال الرّواية، وحال الإنتاج الأدبي في بلادنا عموماً ويكفي أنْ نتذكَّر النصوص التي نالت جوائز وطنية وعربية، لنقول -أيْضاً- إنّها بخير.