قد نجد أن الاسم يصبح هدفا للتصفية، القضاء على الاسم ومحوه هو قضاء على منظومة إيديولوجية ونظرة سياسية اجتماعية تبدو نشازا في فضاء يتبنى قيما تتعارض مع مواقف المسمى، "لأن الأسماء إشارات حية لنظامنا الحياتي بتقاليده ورموزه". (سيرة المنتهى 132) الاسم لم يعد ثقيلا وحسب ولكنه أصبح هدفا للتصفية.
حسيــن خمـــري
يعرض واسيني الأعرج تراجيدية الاسم بكثير من الحلم والحنين، رغم تسببه له في العديد من المشاكل في فترة من فترات المجتمع الجزائري، قبل أن ينطلق في فضاء أرحب فيتحوّل إلى أيقونة.
اسمه لم يعد بحاجة بأن يرفق بلقب العائلة، سواء بعده أو قبله. اسم فريد في جنسه، غريب في معناه، رغم أنه يصرح بأنه لم يكن استثناء عظيما في هذه الدنيا، ولم يكن الآه صغيرا، لكنه لم يمر على هذه الحياة كغيمة جافة، (ص 42) هذا الاعتراف يتكرر أكثر من مرة في روايته، وربما ردا على بعض الانتقادات حول طريقة سرده للأحداث.
قلت واسيني اسم فريد، لا أعني بالفرادة أي تميز أو إعجاب، ولا هو حكم قيمي ولكنه مجرد توصيف. فأنا شخصيا لي كثير من الأصدقاء في ناحية الغرب الجزائري، ولكن هذا الاسم بالنسبة لي غريب و ربما نادر.
لم أسأل واسيني عن اسمه طيلة المدة التي قضيناها في باريس حيث كنا نتقابل يوميا، تقريبا، وتحدثنا في مواضيع شتى، منها الجدي ومنها ما هو غير جدي. لست أدري لماذا لم أطرح عليه السؤال. ونظرا لندرته، فإن الروائي يحس بنوع من الحيرة، فيطلب من أمه، "ميما أميزار"، أن تحكي له قصة اسمه، مثلما فعل صموئيل شمعون تماما، لأن وراء كل اسم قصة، سواء كانت هذه القصة معلومة، أي ترتبط بحدث عائلي أو اجتماعي أو مجرد إحساس يصعب تفسيره في بعض الأحيان.
الحيرة تصيب المسمى الذي يطلب تفسيرا لاسمه، ليس التفسير بمعناه اللغوي، لأننا يمكن أن نفسره بالمواساة، كما يمكن يعني باللهجة المحلية المساعدة. تتحسس الأم حيرة ابنها تجاه اسمه، فتجيبه، حتى دون أن يسألها "لكن أنت قصتك مع الاسم تختلف."(ص129) إذن هناك قصة وراء الاسم، لكنها قصة مختلفة.
الأسماء في القرية، وفي المجتمعات الزراعية ترتبط بالفصول والظواهر الطبيعية والمناسبات الدينية. المولود واسيني، ليس استثناء، ولد فجر عيد الأضحى، القضية بسيطة ستحتفل العائلة بعيدين، عيد الأضحى وعيد ميلاد طفل ذكر طال انتظار الأم له بعد أن سبقه عديد البنات. لم يجد الجد صعوبة ولم ينتظر رأي أحد، لا من العائلة ولا من المهنئين والمباركين: "سيكون اسم حفيدي اليوم مباركا: عيد."(132) اقتراح الجد اعترضته أم المولود، والاعتراض في هذا السياق تجاوز للأعراف، خاصة إذا كان موجها ضد الجد، السلطة المطلقة في العائلة التقليدية. أوامره لا ترد حتى لو كان فيها مضرة للآخرين وأقواله لا تراجع. تنتقل نبرة الأم الاحتجاجية إلى توسل"أنا في عرضك يا عمي، لا تحرمني من ابني."(132) كيف لجد أن يحرم زوجة ابنه من ولدها؟
شيء غريب، وهو الذي رقص فرحا عندما أعلم بازدياد مولود ذكر. هل الاسم الذي اختاره الجد، عيد، اسم قاتل، أليس اليوم يوم مبارك. الموقف بدا فيه الكثير من الغموض وحتى الإرباك. المطلوب من الأم، وهي ما زالت في حالة نفاس أن تبرر هجمتها الشرسة تجاه الجد وتترجاه لقبول اعتذارها. لقد أصيبت بالرعب لمجرد أن نطق الجد، الرجل الذي لا يرد له قرار. فكان عليها أن تعترف وأن تسرد عليه حلمها.
الحلم في بعض الأحيان نبوءة ويتعين الالتزام بها، لأن مخالفتها تنجر عنها أسباب مخيفة قد تكون الموت أو العدم. المولود كان قد سبقه حلم أي ولد في الحلم قبل أن يولد في الواقع، لقد بشر به "سيدي أمحمد الواسيني، الولي الصالح المعروف بكراماته وبركاته ... فقد قضى العمر كله زاهدا في الدنيا واختار خلوته التي مات فيها."(ص 131) إذن الاسم قد يكون التبرك بالولي الصالح والزاهد العابد. الأم لم تكن تعرف صورة هذا الولي لأنه قد مات منذ زمان، وجاء إلى الأم، التي ربما قد بدأ المخاض يراودها، فعرفها بنفسه وأعلن لها عن مهمته. الصالحون لا يأتون إلا لمهمة، ليس لهم وقت للتلهي: "أنا أمحمد الواسيني .... سترزقين ذكرا وسيكون له شأن في هذه الدنيا ...(ص 131) يكشف لنا الحلم عن هوية الفارس القادم الذي يمتطي حصانا عربيا أصيلا، لكنه يحمل أيضا بشارة، وأي بشارة بالنسبة لأم رزقت بنات وتتمنى أن يكون لهن أخ يحميهن.
لم يتوقف طيف الولي الصالح سيدي أمحمد الواسيني عند الإعلان عن قدوم مولود ذكر، ولكنه قدم للأم طلبا وتحذيرا في الوقت ذاته. مخالفة الطلب تؤدي إلى السقوط في المحظور (أي كثير الآفة وإن الجن تحضره، مختار الصحاح). المخالفة هي خرق لميثاق بين الأم وطيف الرجل الصالح، يبدأ بالطلب الذي هو في الحقيقة أمر"لا أطلب منك شيئا سوى أن تسميه باسمي لأتمكن، بقدرة المولى، من حفظه من أي مكروه." وهل لأم أن ترفض مثل هذا الطلب وهي التي حرمت من الولد الذكر، وفوق هذا يحمل اسم ولي صالح تداولت الأجيال حكايات كراماته وامتثلت لأعماله الصالحات.
لم يتوقف الولي الصالح عند الطلب - الأمر ولكنه وجه للأم المقبلة على الوضع تحذيرا "لكن إذا أسميته بغير اسمي يكون كل شيء قد خرج مني."(ص 131) مخالفة الأوامر تعرض المولود إلى الموت، وربما الخطف من طرف كائنات غريبة غير منظورة. التهديد نفسه نقلته الأم إلى الجد الذي خضع لأوامر الولي لأنه يعرف قوته و سلطانه.
اختيار الاسم في رواية 'سيرة المنتهى" يعود لأسباب دينية، مثلما حدث في رواية "عراقي في باريس" وفي الحالتين فإن الأم هي التي تختار الاسم لأنها هي مصدر المولود ويقصي صوت الرجال لأن للمعتقد سلطة عليا لا يصح مناقشتها والاعتراض عليها. ما حدث فعلا أن المولود واسيني يحمل اسم سيدي أمحمد الواسيني. لكن لماذا، حسب قصة الراوي، أسقطت المولود "ال" التعريف، هل يعود ذلك إلى تغير السياق التاريخي والاجتماعي، أم لتمييز الولي الصالح عن الكاتب الروائي؟
يزول الغموض نهائيا حول غرابة الاسم "واسيني" وندرته، وقد تكون القصة التي جاءت في رواية "سيرة المنتهى" مجرد تخيل وأن الحلم مختلف. يجب الحذر من الخلط بين المتخيل والواقعي، وبين الحقيقة والتخييل. القارئ الواعي هو من يميز بين المقولات ويأخذ كلا منها في سياقها، لأن الرواية كلها تتطور وتتفاعل أحداثها داخل حلم كبير، أي منامة يعبر من خلالها الراوي البرزخ متوجها إلى سدرة المنتهى، على طريقة ركن الدين بن محمد بن محرز الوهراني، الحياة والتنقل داخل
السديم. Juan Goytisolo
إن غرابة الاسم وندرته، أي قلة تداوله تجعله يقترب من الأسطورة، أي يمكن أن يكون اسما مستعارا، وهي ممارسة معروفة في الأدب بين الفنانين، اختيار اسم جديد مثل اختيار علامة تجارية، سواء لأن الاسم يبدو "غير فني"، أو استعماله كقناع للتخفي والهروب من سلطة أقبيلة أو لأي سلطة تشبه بها، بما فيها سلطة المجتمع. وهذا ما جعل الكثير يعتقدون اسم واسيني "خاصا وإيحائيا وربما غير حقيق أيضا. مجرد اسم مستعار، لأنه نادر ومحصور بين سواحل وهران وأمسيردا وسواحل الناظور البربري في المغرب."(ص 132) وأنا شخصيا، ربما علاقاتي كثيرة بسكان هذه المنطقة من الجزائر، إلا أنني لا أعرف إلا شخصا واحدا بهذا الاسم والذي هو الروائي واسيني الأعرج.
ولكن أليست الأسماء كلها مهما كانت غريبة ونادرة أو مألوفة ومتداولة هي استعارات "لهذا الأسماء ليست أكثر من استعارات تتغير معانيها الداخلية."(ص 409) وهذا يعود إلى عدم تطابق الاسم مع المسمى، أو لأن اختيار الاسم يكون لأسباب مختلفة قد تصل إلى حدود اللامعقول. كما أن الأماكن لها أسماؤها، فإن اسم الإنسان يتنوع و يتلون حسب تغير المكان، ولكي ينسجم مع المكان، وأن لا يصبح عنصر نشاز فيه.
يحاول الراوي التخفيف من حدة غرابة الاسم، و لهذا فإن هذه العلامة الاسم تتفرع إلى ثلاث إشارات، كل علامة يتم تداولها في فضاء معين وضمن جماعة محدودة. هذا ما صرح به الروائي لمينا التي تشتغل في الدار الكبيرة تحت رعاية عيشة الطويلة "واسيني، لكن ينادونني سينو في الثانوية، و لزعر الحمصي في القرية." (ص 286). إذن لكل فضاء اسم. واسيني على أغلفة الكتب وارتباطه بنشاط الكتابة والتواصل الأدبي، وفي الإدارات والوثائق الرسمية، وهذا معروف من قبل الكثيرين، وحتى الذين لم يقرؤوا سطرا واحدا مما كتب، أما سينو، والذي ظهر أول مرة، وباحتشام كبير، كما اعتقد، في رواية "أنثى السراب" فهو اسم كان متداولا بين زملائه في الثانوية، أي أنه انتهى منذ أربعين سنة أو يزيد، وكما تفرق من كان يستعمله ومنهم من لم يعد من أهل هذه الدنيا. ومن بين هؤلاء نجد الكاتب الاسباني سرفانتس، لم يكن طالبا في ثانوية ابن زرجب ولكن اللقاء الأول بين الروائيين كان في الثانوية نفسها عن طريق أستاذ الفرنسية، فبقي يناديه بهذا الاسم سينو لأنه ما زال يراه طالبا في الثانوي، ولأن العلاقات بين الأشخاص عادة ما تحددها اللقاءات الأولى فيتم التوافق أو التنافر.
أما الاسم المتداول في القرية لزعر الحمصي، فإنه ملغز. إذا كانت لزعر تفيد الأشقر المائل إلى الحمرة، أي لون البشرة إلا أن صفة الحمصي تظل صعبة التفسير، فما كل الأسماء تفسر وتفهم.
إذا كان الاسم يتجاوز كونه مجرد علامة، فإنه يرتبط بممارسات اجتماعية وقيم إيديولوجية فيحل الاسم محل المسمى، فينتقل الاهتمام من الشخص إلى العلامة، ويصبح القضاء على الاسم ضرورة أكثر من القضاء على المسمى. يورد صاحب "سيرة المنتهى" قصة تراجيديا الاسم، أي العلامة التي تصبح هدفا للإلغاء والإزالة. قد يتخذ الإنسان مواقف عدة من الأحداث تتعلق بحياته فيها ما يسره وفيها ما يزعجه، أما أن يقرأ خبر موته فهذا يخرج من دائرة المعقول إلى دائرة الجنون.
فقد أعلن اغتيال الروائي الجزائري واسيني الأعرج. تناقلت وسائل الإعلام الحدث، وكنت آنذاك باحثا متفرغا في جامعة السربون فسمعت الخبر من قناة "إذاعة الشمس" التي كنا مشدودين إليها ولا نسمع إلا أخبار الدم والاغتيالات، خاصة وسط الجامعيين والمثقفين.
كنا نلتقي تقريبا يوميا، أنا واسيني إما في الجامعة أو مقهى الانطلاق بنهاية شارع "سان ميشال" Saint-Michelبمجرد سماع الخبر اتصلت به، فقابلني بإجابة ساخرة، فيها الكثير من الفكاهة "أنا أكلمك من القبر." بعدها انتقلنا إلى المجاملات، لأن كل واحد منا كان يريد التخلص من موقف لا يريد أن يطول. التقينا بعد أيام وعرفني بحيثيات الخبر "الرجل الذي قتل خطأ، كان موظفا بسيطا في الأمم المتحدة، يمر كل صباح بالقرب من الجامعة قبل أن يذهب نحو عمله. كان اسمه: واسيني لحرش، لم يكن يعرف وهو يخرج في ذلك الصباح، أنه سيقتل في مكان رجل آخر ....لم تكن لي فيه مسؤولية سوى قدر الاسم." (ص 133)
يورد الراوي، بكثير من النبل، الاعتراف بالدين لرجل قتل مكانه، لم تقتله مواقفه السياسية ولا أي جرم ارتكبه، جريمته الوحيدة هي تقاسمه اسم رجل آخر، صرخ عاليا في وجه "بني كلبون" و"حراس النوايا". المسؤولية يتحملها الاسم.
يعطي الفيلسوف العربي مطاع صفدي تفسيرا لهذه الممارسة المرضية التي تعبر عن ضيق أفق وشهوة في إلغاء الآخر و تغييبه. "فقتل فرد يعني قتل الاسم، وبالتالي فالاسم يحارب ويحمي ويثأر من الاسم العادي. وقتل أي واحد يحمل الاسم المعادي يغطي الثأر فليس مطلوبا قتل القاتل وإنما المستهدف هو الاسم العلم الذي يحمله، لأن في قتل هذا الاسم يتحقق الثأر من كل من يحمله، وليس من القاتل فقط الذي هو واحد."(إستراتيجية التسمية 142)
إن قتل الاسم أهم من قتل المسمى، خاصة إذا كان الاسم يحمل رمزية ثقيلة. وقد يصبح الاسم قاتلا لهذا الشخص، ويقصد التهرب من مسؤولية الاسم ومقالبه ينبه بعض الروائيين في الصفحة الأولى من أعمالهم، عبارة متداولة "كل تشابه بين .......هو مجرد صدفة."
و لكي لا تسقط ضحايا أخرى، بسبب الاسم في سياق تاريخي وسياسي عرفته الجزائر، يعرض الراوي فكرة راودته، تشبه المونولوج أو الخيال السري، "فكرت في التخلي عن اسمي العائلي لعرج برغبة عميقة في توريط العائلة في وضع كان شخصيا جدا وخيارا فرديا."(ص 132) لم ينتقل الراوي من التفكير إلى الفعل، لم يغير لقبه العائلي، لان المشكلة ليست في اللقب العائلي، فهو متداول في مناطق عدة من الجزائر بالشرق وبالغرب، لكن المستهدف هو الاسم الشخصي "واسيني" ولا يهم إن كان لقبه العائلي لعرج ولا حتى خمري.
ربما تراجع عن هذا الخيار لأنه غير مجد وقد يكلف ذلك تغيير هويته الأدبية واسمه الذي بدأ يأخذ مكانته لدى القراء. فلو غيره، ربما ما كان يصل إلى ما هو عليه. الاسم علامة ترتبط بالشخص وعليه أن يتعايش معها وبالتالي يتحمل تبعاتها ويتقبل مسؤولياتها.
ح.خ