تابعت، ببعض الخجل، كثيرا من النقاشات على شبكة التواصل الاجتماعي، وقد لاحظت، كما لاحظ غيري، أنّ أغلب ما يمس الممنوعات الكبرى، ومنها اللغة والهوية والدين والعلمانية والتاريخ يتسبب في احتقان عجيب، وفي ما يمكن أن يكون تناحرا غير مبرر، وليس نقاشا عقلانيا يبني على منظورات مؤثثة معرفيا ولسانيا. الجدل يؤسس على مرجعيات ثقافية، على علم وحكمة، وعلى صفاء الذهن من النعرات القبلية ومختلف الملل والنحل المهيمنه. هذا التفكير لا يقود سوى إلى جهة واحدة: الخراب الكلي.
كان من الأجدر التعامل مع هذه الموضوعات بحيطة، وبتفكير عميق قبل الخوض في المناقشة، دون زاد مؤهل لذلك، كما يحصل دائما في مجتمعنا. ثمة شيء وجب التنبيه إليه باستمرار لأنه قاعدي في التعامل: التخصص. ليس من باب الأخلاق القفز على كلّ التخصصات دون روية. قد تدخل بعض النقاشات في باب الثقافة العامة، لكنها ستظل قاصرة من حيث الإحاطة بالمشكلة، وهذه آفة حقيقية في سلوكنا اليوم، وفي أغلب الجدل، أو ما يشبهه شكلا، وليس كممارسة فعلية تعي المنطلقات والعلل والمعلولات.
هناك سمتان غالبتان على كثير من المتعاملين مع هذه الشبكة: الحضور الكلي والمعرفة الكلية. لذلك نحلّ محلّ الآخرين في قضايا نجهل حقيقتها وملابساتها. من المهمّ مثلا أن نترك المسألة اللغوية للسانيين والأكاديميين. لا أستسيغ فكرة مناقشة قضية معجمية من قبل هذا وذاك، سنقوم بتبديهها وجعلها سوقية، وذلك ما يحصل عادة في قضايا مربكة تجد لها حلولا سريعة عند العوام والذين لا علاقة لهم بها.
هناك سوقية حقيقية تهيمن على طباعنا، إضافة إلى النعرات القبلية ومختلف العصبيات التي تتجلى أثناء التطرق إلى هذه الموضوعات، وهكذا تتداخل الصلاحيات وتنكشف أعماقنا المنغلقة على شيء من اليقين الخالد، وهو يقين مدمّر لا يمكن أن نعوّل عليه في بناء مدنية، بقدر ما يسهم في ترقية الفشل بتعويم القضايا الجادة.
عادة ما يحلّ الجاهل محلّ الإمام والإمام محل الطبيب والطبيب محلّ الفلاح والفلاح محلّ المهندس والمهندس محل الإسكافي والإسكافي محلّ المفتي، وهكذا. هذا ما يمكن أن نسميه الإحاطة بكل شيء، دون أن نعرف شيئا بدقة، ما يسهم، بالضرورة، في تكريس ثقافة هشة تؤدي إلى صدامات غير ضرورية، لكنها ستتبوأ بحكم الطباع.
الاهتمام بما نعرفه حتمية من أجل خلق نقاش مؤسس على زاد معرفي، إضافة إلى أنّ السياقات تفرض علينا نقاشا معينا، ومجموعة من التنازلات لغايات نفعية. من المهمّ أن نحتكم إلى عقل تداولي، أؤكد على العقل التداولي، وهذا أساسي لإنقاذ الأمة من الفتن، أو لفتح البلد على التنوع، وليس على المحو الذي لن يؤسس للاختلاف، لإنتاج المعنى. ذلك أن التماثل عادة ما يؤدي إلى الركود. كل الحضارات قامت على التباين المتناغم، أو على هذه الحلقية المنتجة للدلالات.
الكراهية المتبادلة التي ظهرت على شبكة التواصل الاجتماعي تبرز شيئا واحدا. كلّ منّا يمثل مركزا مستقلا بذاته، ومعرفة منتهية، والباقي هوامش لا أهمية لها. لذلك كثرت المراكز وانمحى الهامش أصلا. لم يعد هناك من يقبل أن يتعلّم. كلّنا معلّمون، سواء ثقافيا أو سياسيا أو دينيا. نحن اليوم أمام حقائق لا تقبل الممكنات، أو يقين يرفض المساءلة لأنه مكتمل بذاته. قد نلاحظ هذا، بمستويات، في النقاش الديني والعلماني بشكل عام: يقين يواجه يقينا، ومرجعيات تحارب أخرى، نيتشه ضد حسان البناّ، وابن تيمية ضد ماركس وابن رشد، ولا أحد يقبل الآخر. أشبه ما يحدث بمنطق أنا أو أنت، أو بحرب الآلهة، وذاك ما عشناه في التسعينيات، وقد نعيشه في أية لحظة ما لم تتبدل أشكال التفكير في القضايا الحساسة، ما لم نتعامل بهذه النسبية البناءة في علاج المشكلات، وفي حدود معرفتنا. القراءة ضرورية، لكنها لا تكفي دون تفعيل الأسئلة الخالدة، ودون النظر إلى المقامات التي قد تستدعي تنازلات لمقاصد عينية، لكنها ضرورية أحيانا، ونافعة للجميع. أمّا الحروب الحاصلة فتقلل من قيمة بعض المثقفين والمتعاملين مع شبكة التواصل، وبالمقابل، ستنتج، مع الوقت، مادة خاما تفيد علماء الاجتماع وعلماء النفس والأنتروبولوجيين في الكشف عن حقيقة هذا العنف المتزايد وكيفيات معاجته.
السعيد بوطاجين