ياسين بــوذراع نـوري
الحركة الأولى
أحيانا أسأل . كيف يكون الليل بهذي الألفةِ؟
كيف يكون الليل صباحا ملفوفا بقوالب فحم داكنةٍ؟
حبرا يتناضح من أقلام ملائكةٍ
يقفون على أقدار الناسِ ؟
أصابع غيلان
هرمت تتلصّص من أبراج حكاياتٍ
الآن تربت فوق رؤوس المفزوعين
..............................
كضوء منفلت أتسرّب نحو الشارعِ
شارع (L’acacia) المفتوح على طرقات بائسةٍ
أتقرّى أبواب القصديرِ
وأشعر أن بيوت الفلاحين مقدّسة كرغيف الخبز
معرّقة كزنود متعبةٍ
في الشارع أشجار تصطفّ على الجنبينِ
جنود ينتظرون الموت بلا فزعٍ
جدران كنيسة (Bizot) .. لم تعد الأجراس كما كانت من قبلُ
ولكنّي ـ إن شئت ـ سمعت حفيف أصابعها
نقرا يحتدّ كطرطقة البلوط بموقد فحم شتويّ
ورأيت (أبونا) يحمل طفلا زنجيّا
ويعمّده في ماء الجنّةِ،
يخرجه شفافا مثل الفجرِ
فراشات بيضاء تهلل في فرح (هللويا)
..............................
أبناء الفقراء المنتشرون على الطرقات كطوب الأرضِ
فتى يتحرّش بالزوارِ
وعن قصد يتحرّى أيام الآحاد ليعرض سلعتهُ
( بيضٌ، وأرانب، عقد من خزر، وزرازير سوداء)
فتاة تحمل دمية قشّ بائسة
وتغني للفرح المعقود برجل الغيبِ
متى اخترقت زليج الغيمة طائرة بدخان أملس
منفوش كنديف القطنِ
تغني .. تنبت أجنحة للصوتْ
( يا طيّارة ينعل بوك ..... جيبي بابا من مروكْ)
وأبي، ما غادر ضيعته
جذع الأكاسيا المندفع الأغصانِ
أحدّثه بالهاتف، يخبرني، ويطمئنني
(صليت العصر، وقفت بباء الروضة، كان الجوّ مهيبا
والمعتمرون خليّة نحل هائجةٌ
صلّيت العصر، دعوت لكم بالتوبةِ)
أحيانا أتساءلُ ..
..............................
كيف أستطاع كارل أورف أن يستلّ من جلد الكاتدرائيّة (Carmina Burana) ؟
كيف كوّرها بهذا الشكل الأسطوريّ لتصبح (O Fortuna) ؟
حلمت مرة أن أكتب سوناتا
أن أفلت لحمي من كمّاشة الشعر ـ ولو مرّة ـ
خانتني الرغبة في تعلّم الصولفاج
لكنّ كارل أورف ركّب لعربات الشحن أجنحةٌ
لتصير هكذا (O Fortuna).
ليس سهلا أن تخلق من العتمة قنديلا
أن تجمع في طبخة واحدة صرير جندب مع أزيز طائرة
ليس سهلا أن تكون كارل أورف
لهذا نسيت فكرة السوناتا.
..............................
فتيات مثل عرائس ضوء ..
ما بين النافورة والحوض الإسمنتِ
الماء نشيد مضطرب يتململ فوق شفاه القلّةِ
تضحك واحدةٌ
وتنبّهها الأخرى أن تصمت حين يمرّ الشيخ الأعرجُ
ما معنى أن تضحك في زمن مقطوع النسلِ ؟
الآن يا شجر الأكاسيا
هل ستبقى هكذا
صنما يحيّي العابرين بنسغه المسفوح في الأرض الخرابِ
برجفة الغصن الكسيرِ
تؤمه الغربان والجرذان والبجع المهاجرُ
والحمامات الخجولةُ
كلّما حطّت تورّمت القصائدُ
واستدارت دفّة الكلمات نحو الصفرِ
هل نأوي إلى ليلٍ
نقدّسه، ونجعله دثارا
كلّما كشف الصباح خدوشنا الأبديّةَ ؟
الليل المقدّس فكرة منتوفة الريشِ
انتظار عند باب لا يفتّح مطلقا
أو سلم يرقى إلى عبث وجوديّ
(يقول العائدون من الجنازةِ)
هل ستبقى هكذا
يا آخر الأشجارِ
يا شجر الأكاسيا ؟
الحركة الثانية
يحتاج البحر لزرقته ليكون البحرَ
لقطرة ماء فالتة من ضرع الموجِ
لأشرعة تتمدّد مثل فراش أبيض فوق زجاج الأفقِ
لأسماك تتراقص مثل بنات الحورِ
لشمس ذائبة في حوض الماء كحبّة خوخ يابسة لم تنضج بعدُ
فما معنى أن يترك صيّاد للريح شباكا مفلسة
ما دام البحر بلا بحرٍ؟
ما دام الأزرق محض عناء يحمله الربّان الشارد في لوح الأكتافِ؟
وما معنى أن تحمل منديلا وتلوّح للسفن الأثريّةِ؟
كم يحتاج البحر لراكبه ليكون البحرَ
لشيطان ينفض أوقية من ملح غوايته في الرمل
وفي شعب المرجانِ.. وفي الخلجان اليائسة الممسوسة بالأصدافْ
..............................
يحتاج البرد لرعشة كفٍّ
قافلة تتحلّق حول غمامة جمر في ليل الطاسيلي الأزرقِ
لسعة عقربة ...
وأصابع يابسة تتحجّر في جيب السروال الجينزِ
لجلد منتوف، يتكوّر منكمشا في كنزة صوفٍ
لا يحتاج لأكثر من ريح تتناوح فوق السقف الأمردِ
لا يحتاج لأكثر من جبل ثلجيّ تحمله الأكتافْ
..............................
الغيمة لا تحتاج لأكثر من قفر لتصبّ صديد مثانتها
ملعون هذا الصيفُ .. يجرجر أصفرهُ
ويدسّ أصابع كبريت في جلد الوقتِ
وفي فجوات الحلم الأسفنجيّ
تمرّ الغيمة مثقلة بمخاض الحمل الكاذب
(شيء ما يتحرّك خارج رحم الصدفةِ)
قال الحكواتي المبتور الساقِ
الواقف مشدوها في سوق الجملةِ
يروي عن أخبار أبي زيدٍ ملك الفرسانِ
يشقّ الجيش بمهرة برق جامحةِ
أو يحمل قوس ربابته ليراودها علياء القصرِ
الأرض خيام جاهزة للسلبِ
هلاليون على الطرقات
لصوص مختبئون بزهر الحرملِ
والخشخاش دم يتخثّر فوق رؤوس سنابل يابسة
في حقل ملتهب بالإكزيما ، منتوف ، منتفخ بالهرش وبالصدفيّةِ
شيء ما يتحركُ
لا أدري
هل ثمّة سقطٌ جاء على عجل يلتفّ بحبل مشيمتهِ
أم أن ركام اللحم ضفادع باردة تتكاثر في طين العبثيّةِ؟
لا أدري
هل أمضي محتملا ملحا في الساحل أم أرتدّ على العقبينِ؟
سلالات من كل الإصطبلاتِ
هلاليون ... قرامطة ... عبّاسيون ... وحشّاشون
..............................
بقايا من ثورات الزنج ... قراصنة الفيكينغ ... وأتراك عثمانيون
أنا المشنوق على حيطان تدلّلها
المفتون بسمرتها
لا أملك أكثر من غبش العينين
أتيت ببعض سلال من ثمر الرمّان وكمثرى
وعبرت طريقا محتدما بالموتِ
رأيت على كرسيّ في طرف البستانِ
قتيلا يأخذ راحته في مضغة ظلّ
ثم يعود ليكمل ميتتهُ
يأخذه الموت إلى حجرات طافحة بالضوءٍِ
( الموت قرصان يدجّن موجة ويسوقها للساحل العدميّ، جوع متاهة للعابرين إلى نهايتهم فرادى دون أكفان كديدان التراب، الأرض أسئلة، فراغ لولبيّ، جثّة تهوي إلى ما لست أعلم .. غيمة، وشموس بكتيريا تشعّ على كعوب أثقلتها الغنغرينة، قلت : أحملني وأمضي أم أكون كطفلة أعطت براءتها لذئب السنّ، ينهشها ويترك نابه في حمرة الخدين؟ هاهي ذي تقوّس ظهرها وتكلّست أطرافها تلك الطريّةُ)
تخذلني أعمدة النور
شبابيك الشرفات ... اللهجة تخذلني
يخذلني الرسمُ
ويخذلني الخطّ الكوفيّ الصلب كعظم أهمله ضبع شبعان
تخذلني الأقلامُ
(ابن البوّاب) يدوّر ذيل الواو ويعقفه فيصير كمعلاق حجريّ
يغرزه ما بين الكلمة والأخرى
ويجرّ الجملة هادئة للسلخ على أوضام الفهمِِ
ويخذلني وطن يتناسج في أشباح حكايات تتوارثها الجدّاتُ
ويخذلني وجهي المتهالك في المرآة
الخطوة تخذلني .