في ظل التحولات التي يشهدها العالم المعاصر، وما أحدثته الثورة التكنولوجية الجديدة من انفتاح، بات الاعتقاد أنّ الحرية التي منحتها هذه الوسائط الجديدة، قد قوّضت مؤسسة الرقابة، وفتحت مجالات عِدة لتحرّر المبدع والكتابة. فهل هذا صحيح؟. أم أنّ الواقع يُؤكد غير هذا، إذ يمكن الحديث عن بروز سياسة رقابية أخرى لا تقل تأثيرا وخطورة عن سابقاتها؟
إستطلاع/ نوّارة لحــرش
حول هذا الشأن «الرقابة في ظل الثورة التكنولوجية»، يتحدث في ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، بعض الكُتاب والنقاد الدكاترة، كلٌ حسب وجهة نظره ومقاربته الخاصة للموضوع.
عبد الله العشي/ جامعة باتنة
الوسائط الجديدة لم تحد من سلطة الرقيب
لا يبدو أنّ سُلطة الرقيب قد ولت؛ فما منحته الوسائط الجديدة للكاتب من إمكانات للتعبير، وما هيأته من فضاءات للحضور، وما أشاعته من مناخات للتفكير والإبداع، لم يُقوض مُؤسسة الرقابة ولم يحد من سُلطة الرقيب، لأنّ الرقابة تطورت وأصبحت تُغير جلدها لتواكب ما يطرأ من تحولات، قد تفقد بعض آلياتها غير المُناسبة للعصر ولكنّها في المُقابل تكسب آليات جديدة قادرة على التكيف، تمامًا مثلما تفعل الأنظمة الديكتاتورية التي تُحافظ على استمراريتها بتغيير شعاراتها وبرامجها وآلياتها حتى تتماشى مع التحوّل الجديد، فالرقيب والديكتاتور شقيقان، يعيشان معًا ويُفكران بنفس الطريقة.
كان الرقيب الكلاسيكي، بطريقة غبية، يقطع الطريق أمام الكاتب حتى لا يصل مقاله أو كِتابه إلى القارئ، يُصادر المجلة أو الكِتاب، ولكنّه كان أحيانا يقبع، بشيء من الذكاء، بتعليماته وقوانينه، داخل الكاتب فيحجب رأيه قبل الصدور. واليوم ، ورغم وهم الحرية الّذي صاحب الوسائط الحديثة التي يبدو من ظاهرها أنّها تفتح باب الحرية للمبدع على مصراعيه، إلاّ أنّ مستوى الرقابة فيها ربّما يكون أعلى، بحيث تجاوز الرقابة إلى الجوسسة التي لا تكتفي بمراقبة محتوى فكري معين كما كان يفعل الرقيب القديم بل تتجاوز إلى مراقبة كلّ شيء، فالشركات الكبرى التي تملك فضاءات الانترنت يمكنها أن تُراقب كلّ نص يُكتب، أو صورة تُنشر، أو تَحاور يتم بين اثنين، فكلّ المُدونات والمواقع والحسابات البريدية وحسابات التواصل الاجتماعي تحت سلطتها وبإمكانها أن تحجبها أو تلغي ما يُدون فيها، كما أنّها تستطيع أن تُجيش من تشاء ليُمارس الرقابة ويقوم بعملية التبليغ عن نص أو شخص أو شريط أو صورة أو غيرها. ومُعظم الشركات المُهيمنة على الشبكات العالمية ذات توجه إيديولوجي مُعين يخدم مصالح أنظمة وحكومات، ولذلك فمن الصعب أن تسمح بمرور ما له علاقة مثلا بقضايا العرب والمسلمين وخاصة في صراعهم مع إسرائيل.
كانت الرقابة بمعناها الكلاسيكي ذات طابع محلي، فالنظام يُراقب ما يراه معارضًا له، أمّا اليوم، وبفعل العولمة، فقد أصبحت الرقابة ذات طابع عالمي، ليس من الضروري أن يكون الكاتب من دولة المراقبة حتى تراقبه بل يمكن لجهاز مُراقبة ما أن يُراقب من يشاء ويحكم عليه، ولعل أوضح نموذج ما حدث للعلماء العراقيين الذين تمت مراقبتهم واغتيال عدد منهم.
ربّما كان الرقيب الكلاسيكي يبذل جهدا للوصول إلى النص أو الشخص، وربّما كان ينفق مالاً ووقتًا لإتمام عملية الرقابة، أمّا اليوم ، ونظرا لأنّ الكاتب لا يسمح له بأن يطأ الأرض الجديدة، أرض الانترنت، إلاّ إذا قدم كلّ معلوماته، فإنّ الأمر لا يتطلب جهدا ولا وقتا ولا مالا كثيرا.
تكذب الوسائط الجديدة حين تُوهم بالحرية وتدعي أنّها تُوفر فضاءً غير مسبوق لحرية التعبير، وتمنح مساحة لا محدودة للكتابة، إنّها تمنح الحرية لمن تشاء وتمنعها عمن تشاء، لأنّ تلك الوسائط ليست حيادية وليس من غاياتها أن ترقى بالحرية الإنسانية، إنّها مؤسسات ذات برامج تُديرها أنظمة تسعى إلى الهيمنة سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
الحرية التي تُوهمنا بها تلك الوسائط هي حرية من يُسير تلك الوسائط، حريته في أن يَصِل إلى كلّ بيت آخر، وإلى كلّ عقل آخر، وإلى كلّ ضمير آخر.
عبد الحميد ختالة/ جامعة خنشلة
الانفتاح التكنولوجي انعتاق أم تعدّي؟
شهد العالم المُعاصر انفجارا تكنولوجيا رهيبًا يكاد يسبق التصوّر البشري في كثير من الحالات، إن لم نقل بأنّ العقل البشري اليوم لم يعد يمتلك إمكانية توقيف الحركة السريعة للتكنولوجيا، وهو فشلٌ غير مُعلن لضعف العقل البشري أمام العقل الالكتروني، إلاّ أنّ حسنات هذا الانفتاح التكنولوجي عديدة ولعل من بينها المستوى العالي جدا الّذي بلغه التواصل الاجتماعي الراهن، إذ تمكن العقل الالكتروني من توفير أدوات مُتطورة جدا قلّصت المسافات والمساحات بين الأفراد، بل واختزلت الزمن حتى عاد الاتصال من أقصى المعمورة إلى أقصاها الآخر يتم في أجزاء من الثانية الواحدة.
وقد فتح هذا التطوّر التواصلي المجال لإثبات الفردية والحرية والحق في التعبير، هذا المطلب العميق للإنسان الحداثي، بل أسهمت شبكات التواصل في دعم حركات الرفض والاحتجاج، وتبادل المعلومات، وكسر هيمنة الحجب والحظر، وفضح ممارسات الفساد، وغيرها من الاستخدامات التي جعلت من الحديث عن «مراقبة» محتوى مواقع التواصل الاجتماعي أمرًا مثيرًا للقلق والمخاوف، إنْ على الأفراد أو الهيئات بمختلف صنوفها.
كما أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في بعث نوع من الإبداع الفني والأدبي، لم يكن ليجد لنفسه موضعا في الحراك الإبداعي، ولم يجد الدرس النقدي المُعاصر حيال ذلك إلاّ أن يُحيّن قاموسه المُصطلحاتي فأصبحنا نقرأ ما يُسمى بالأدب التفاعلي، أدبٌ يرمي فيه المبدع بفكرته النواة لتعود إليه بعد زمن محدود نصاً يتكلم بكلّ اللغات ويفكر بكلّ الذهنيات وتقبل كلُ الأذواق نكهتَه، يحدث كلّ هذا مع ضمان حرية مُطلقة للناشر الّذي قد يكون متخفيا خلف اسم مستعار يلجأ إليه إذا ما شحذ النُقاد رماحهم.
وسّعت وسائطُ التواصل الجديدة مساحةَ حرية الفرد، فمكّنته من كشف ما كان مستورا، وأتاحت له النطق بما كان مسكوتا، وفسحت المجال لتعدّد غير منتهٍ للرأي، ما دعّم رغبة التمرد الكامنة في الإنسان وفضح ممارسات كلّ أنواع الفساد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، ولم يكن هذا مُمكناً فيما سبق، والسؤال الجوهري هنا: هل رغبة الإنسان المُعاصر في كشف الفساد تنطلق من قناعة شخصية ومبدأ راسخ لا يُبالي صاحبه لو أدى به إلى التأذي؟ أم أنّه محض انتشاء يعيشه الناشر في لحظة خلوة مع شاشة الحاسوب؟
إنّ الّذي نعيشه اليوم من ثورة إلكترونية في المبادئ غير مُطَمْئِن من تصورين، التصور الأوّل هو أنّ مُعظم أصحاب تلك الصفحات يختفون خلف أسماء مُستعارة وحروف تمويهية، تجعلنا نخشى من رسوخ القناعة عند أصحابها وحينها يصبح العطب أكثر عمقًا، إذ يتحوّل المسار من التقويم إلى التشهير وما هذا الأخير إلاّ فسادا آخر، وأمّا التصوّر الثاني فمتعلق بالفهم السليم لمساحة الحرية التي يمتلكها كلّ فرد في المجتمع، ولعلّه يغيب عن البعض أنّ حرية الفرد لا تستدعي تعدّيه على حريات الآخرين، فقد نقرأ في بعض الصفحات تعدٍّ فاضح للنقد سواء أكان مُوجها للأفراد أو الهيئات، وهذا أيضا فساد آخر يجب لَجْمُه.
ويستدعي حديثنا عن لَجْم حرية التعبير في الوسائط الاجتماعية ما يُسمى بــ»الرقابة الالكترونية»، فمن المعروف أنّ إدارات مواقع التواصل تمتلك سلطات رقابية واسعة على المحتوى المنشور عبر صفحات وحسابات مستخدميها، وهي الرقابة التي تمارسها وفق شروط الاستخدام التي يلزم المُوافقة عليها إجباريًّا وبصورة مُسبقة، والتي تختلف بدورها من موقع إلى آخر إلاّ أنّها تتفق إجمالا على الحق في مراجعة المحتوى، ورفض أو حذف أي مضمون أو حساب يُخالف سياساتها الآنية أو المُستقبلية ودون الالتزام بتقديم إخطار مسبق.
كما لا يخفى أنّ هناك مستويات أخرى من المُراقبة تتصل بأطراف تُعنَى برصد ومتابعة المحتوى المنشور، وهو ما لا يقتصر على الجهات الأمنية فحسب، إذ باتت المؤسسات المحلية والدولية تخصص الإدارات والمراصد والفِرق المعنية بمراقبة محتوى وسائل التواصل، وهو عمل ردعي تصنفه الهيئات ضمن حقها المشروع في تأمين خصوصيتها.وقد أثبت الواقع فشل أجهزة الرقابة ومراصدها في حجب حرية النشر والنقد على الفرد، بل قد أصبحت سلطة الرقابة في كثير من الحالات حافزا مُهمّا في التمرّد والبوح بلا حدود، لاقتران مفهوم الرقابة الالكترونية بالتجسس والتعدي على الحريات.
عبد السلام فيلالي/ جامعة عنابة
الثورة التكنولوجية لم تتح أي حرية
السؤال حول الرقابة من غير معرفة أدواتها واستراتيجياتها وطُرق عملها لا يُحيل إلى أي إجابة، فوجود وسائل الاتصال لا يكفي لتأكيد الحرية، بل أنّه يجعلنا نتحدث عن هوية المُتكلم. يمكن أن يكون المخاطب حرا إذا كان بهوية مُستعارة، فحيثما كان الكلام منسوبا لصاحبه يمكن القول بوجود رقابة. والرقابة مستويات، تبدأ من الرقابة الذاتية، الأصدقاء، الأسرة، المجتمع، القضاء. ثمّ أنّ حرية التعبير لا تعني قول أي شيء، طالما أنّها يمكن أن تمس حرية أشخاص ومصالح خاصة.
أمّا السؤال عن تحرّر المبدع والكتابة فهو مكفول دائما بالدستور، وإذا ابتعدنا عن التعميم نرى أنّ هذا الأمر مُمكن. فحتى في الدول التي تفرض رقابة على المنشورات، كان يمكن إيجاد بدائل للنشر في الخارج. وقد كانت بيروت تُتيح هذا الأمر. ولكن المُضايقات والمُتابعات القضائية تظل قائمة إلى غاية اليوم، فنحن نسمع عن متابعة الكاتب الفلاني والمدون الفلاني بحُجج مُختلفة. وهذا لا يقتصر على بلداننا، بل وحتى في أعرق الديمقراطيات. فليس كلّ ما يُكتب يمكن أن يجد طريقه للنشر عبر مؤسسات رائدة، كما أنّ اللجوء إلى التكنولوجيات الجديدة لا يؤدي حتما إلى وصول المنتوج طالما لم يتم الترويج والدعاية له.
كلّ مجتمع محكوم بضوابط خاصة به، وبالتخصيص والكلام عن مجتمعنا الجزائري يمكننا استقصاء نزعة محافظة مهيمنة. حيث أنّ أي قراءة نقدية لقيمها تفتح المجال لاستهجانٍ ورفض، وهذا نظرا لأنّ عملية التغير الاجتماعي هي بطيئة جدا كما أنّ مبادرات الإصلاح محدودة ومُتردّدة دائما. فالكاتب مثلا صعب عليه أن يكشف عن الوضعيات المسكوت عنها، بل أنّه يستحيل عليه أن يكتب عن تجربته الخاصة بصدق. قليلون هم الكُتاب الذين يكتبون عن المجتمع مثلما يعيشونه ويعرفونه، وإن وجدنا كاتبا يكتب عن مواضيع النفاق، الكذب، الجنس، الزواج، الأسرة بحقيقة تُوجه إليه سهام الزجر والاستهجان. فالرقابة عندنا اجتماعية وليست سياسية، الفرد/الكاتب مُحتو من قِبل المجتمع.
في نظري لم تتح الثورة التكنولوجية أي حرية، الحرية هي وعي بها ومُمارسة. لا بدّ من تعريفٍ للحرية، أن نقول ما نعيش دون خوف أو عُقدة. أمّا ظواهر الشتم والتسخيف التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي فهي مجرّد فقاعات عابرة. نحتاج إلى مجتمع جديد، مجتمع لا يهرب من ذاته يُقرر نقده وصراحته. كيف يمكن أن يكون المجتمع حُرا وهو يُقيد المرأة لكي تحيا ضمن ضوابط متجاوزة، نذكر على سبيل المثال النساء المطلقات، الأرامل، العازبات، مكانة المرأة العاملة وكرامتها. إنّ معركة الحرية ليست سياسية بل اجتماعية، فسهل أن تنتقد السياسي لعدم وجود روابط مشتركة لكن من المستحيل نقد من تعرفه (جار، زميل، صديق، بائع...). ليس مفسرا الخوف من الأمر الثاني واعتبار الأوّل عاديا ومرغوبا. متى يستطيع الفرد أن يملك الشجاعة بالتنديد بمظاهر الفساد والخديعة والنفاق التي يراها وعلى صلة بها يومذاك نقول بوجود حرية، ليس تحت أقنعة بل بشكل مباشر وإلى العدالة مباشرة.
عابد لزرق/ باحث أكاديمي في جامعة سيدي بلعباس
رغم هامش الحرية الّذي تمنحه الوسائط التقنية إلاّ أنّ غياب الرقابة بشكل مُطلق أمرٌ غير مُتيسّر
يحقّ لنا اليوم أن نُصنّف ثورة التقانة والطفرة التواصلية التي أحدثتها على المستوى الثقافي، خصوصًا، بأنّها أهمّ الثورات البشرية التي شهدها هذا العصر بفضل ما نتج عنها من آليات تفاعلية ثقافية جديدة، وما نجم عن هذه الآليات من خروج عن السائد والمألوف في أشكال التعبير الإنساني وفي فعل الكتابة، وما ترتّب عن هذا التطوّر من تغييرات في فعل التسويق وفي تلقّي المُنتَج الثقافي إذا صحَّ المُصطلح، حيث انتقلنا من ثقافة الورق إلى ثقافة الوسيط الميدياوي والشبكي، ومن ثقافة النصّ التقليدي إلى أفق النصّ الرقمي أو النصّ التفاعلي المُترابط، الأمر الّذي ينشأ عنه تغيّر في نمطية طرح الأسئلة التقليدية المُصاحبة للكتابة وللأدب بوصفه فنّا من الفنون التي يمسّها هذا التطوّر التقني بشكل بارز حاليًا.
ويُعدّ سؤال الرقابة على الكتابة والإبداع وعلى حرية التعبير، عمومًا، من الأسئلة المُلِحّة مع هذا التحوّل. فلطالما شكا الكُتّاب من سُلَطٍ مادية تُراقب مُنجزاتهم وتُقيّد طُرق ومجالات تعبيرهم، وقد سعوا مِرارا إلى التخلّص من هذه الأغلال المفروضة عليهم بقيدٍ من مؤسسات سياسية أو دينية أو أدبية نقدية، أو بقيد ثقافي اجتماعي يُكرِّس لأنماط فكرية/طابوهات يمنع تعدّيها والخوض فيها، ولطالما تبنّوا فكرة أنّ الإصدار الورقي التقليدي هو الأكثر عُرضة لهذه السُلط، مِمّا خُيِّل للذات الكاتبة وهي تُؤسّس لفعل كتابةٍ إلكتروني، وما تعلّق بها من خصائص وصفات (الإيتوس)، أنّ في هذه الكتابة شكلا جديدا للتعبير وفرصةً حقيقية لها للانفلات من القيود، كون أنّ الباتوس الّذي تتوجّه إليه اليوم والمجتمع القرائي الّذي تخاطبه لم يعد مجتمعا كلاسيكيّا مُقيدا بالمكان، الأمر الّذي كان ينتج عنه تقييد في النمط الفكري بفعل الترسّبات الثقافية التاريخية لذلك المجتمع. إنّها تكتب الآن واضعةً في ذهنها أنّها تتوجّه نحو فضاء جديد مفتوح ومجتمع شبكي تفاعليّ غير معهود بفضل ميزة الوسائط وثقافة وسائل التواصل الاجتماعي التي تغزو عالم الفكر والثقافة والأدب في زمننا الحالي، مِمّا يمنح هذه الذات حريةً أكبر في البوح بفضل ما أصبحت تجده من حرية كتابة وإبداع مُطلق وسط هذه الفضاءات الافتراضية، ويُمَكِّن لنزعتها الفردانية أن تبرز أكثر على حِساب انغماسها سابقا في نزعات جماعية، فاليوم يتأسّس تصوّر جديد في الوطن العربي لأدبٍ إلكتروني تتمثّله فئة من الكتّاب الشباب، ولدُورِ نشر رقمية تُتيح للكاتب القدرة على التخلُّص من شروط النشر التقليدية التي كانت تفرض عليه المرور على سيف الرقابة الّذي تسلّه الهيئات الثقافية المُشرفة على مُتابعة ومُراقبة عالم النشر الورقي، والتي تعمل تحت سلطة مادية أخرى أكبر منها تتبع توجّهاتها وقوانينها.
ولكن أحقّا تنتفي كلّ سلطة رقابية وتزول نهائيا بفضل هذا التطوّر التقني، وبفضل تغيّر أشكال الكتابة؟
الحقيقة أنّه رغم كلّ ما أشير إليه من هامش الحرية الّذي تمنحه هذه الوسائط التقنية إلاّ أنّ غياب الرقابة عن الكتابة بشكل كلّي ومُطلق أمرٌ غير مُتيسّر. فقد تزول أشكال الرقابة المادية، ولكن تبقى رقابات أخرى رمزية لا يمكن للكاتب تجاوزها؛ رقابة الذات الكاتبة أوّلا وما تفرضه من مُتابعة داخلية لكتاباتها، ورقابة أخرى يؤسّسها فعل الاستقبال والتلقّي المفتوح أمام الجماهير التي توهّج حضورها ثقافيا بفضل هذه الوسائط، وقد أشار الناقد السعودي «عبد الله الغذّامي» إلى ذلك في مقدّمة كتابه [ثقافة تويتر: حرية التعبير أو مسؤولية التعبير] عندما تكلّم عن القيد الّذي يفرضه على حرية الكاتب حضورُ الآخر المُستقِبِل لأنّه يحضر بشروطه لا بشروط هذا الكاتب. ناهيك عن استحالة غياب رقابة بعدية على مواقع التواصل يفرضها الجانب الأمني القومي للدول.. ممّا يجعل أيّ كاتب وهو يكتب أو يدوِّن يستحضر وجود هذه السُّلط الماديّة أو الرمزية المُحيطة به دوما.
عبد القادر رابحي/ جامعة سعيدة
الوسائل التكنولوجية التي اعتقد المبدع أنّها حررته هي أكثر سطوة
لم تكن الرقابة في يوم من الأيّام بعيدة عما يمكن أن تُحدثه الاكتشافات العلمية من تحوّلات وما تفرزه من طُرق جديدة في التعامل مع الإبداع من أجل التحُكم في مساراته أو في توقيف طموحاته. ذلك أنّ هَمْ الرقيب يتوقف عند محاولته الاستفادة من الوسائل التكنولوجية التي تنتجها المعرفة فيسخرها من أجل الدفاع عن مصلحته الراهنة والمستقبلية التي تخدم موقفه أو إيديولوجيته أو سلطته. المصلحة في هذه الحالة مُرتبطة بالخوف مِمَا يمكن أن يُحدثه الإبداع من انفلات هو من خصوصيته يتنافى مع السقوف التي حدّدتها الرقابة سلفًا. ومن هنا كانت مسألة التحُكم في الخصوصية مسألة في غاية التعقيد بالنظر إلى ما تحققه التكنولوجيا من اختراق للأخلاق المُتعلقة بالأفراد والجماعات، أي للديونتولوجيا بوصفها سقفًا يجب أن يُدافع عنه الإبداع الّذي يُحاول أن يستغل التكنولوجيا نفسها من أجل التحرّر مِمَا يمكن أن يعانيه المبدع من معوقات نشر الأعمال الأدبية خاصة والإبداعية عامة من جهة، والإدلاء بالرأي والجهر به بكلّ حرية عبر وسائل التواصل في كلّ مراحل تطورها عبر التاريخ.
ثمّة حربٌ باردة لا تتوقف بين مؤسسة الرقابة بوصفها مؤسسة أبوية فوقية قاهرة تارة ومُوجهة تارة أخرى، وبين الإبداع بوصفه حالة توق وجودية مُتجاوزة دومًا للانغلاق والأسر والنمطية. يتجلّى ذلك في ما تقدمه الأعمال الأدبية الكبرى من طموح يحمل الكثير من المُغامرة والتحدي في فتح المجالات المُغلقة على فسحة الحرية، كما يتجلى في ما تقدمه مؤسسة الرقابة من إمكانات حجر أو حجب أو توقيف لما يمكن أن يحدثه الإبداع من خروج عن المحددات، أو من تجاوز للسقوف بنقده للبنيات الفكرية والثقافية والأيديولوجية التي تستعمل مؤسسة الرقابة للحفاظ على مصلحتها الآنية والمستقبلية.
لقد بات مُؤكدا أنّ وسائل التواصل المُعاصرة التي اعتقد المبدع أنّها حررته من مكرهات ما كان يُعاني منه سابقا، إنّما هي أكثر سطوة في تحديد هذه الحرية، وأعمق نفاذا في معرفة وكشف ما كان يعتقد أنّ الرقيب لن يصل إليه أبدا. وأصبح لِزامًا على المُشرعين إعادة صياغة المنظورات القانونية والتشريعية القديمة بما يتوافق مع الوضع الجديد الّذي أحدثته التكنولوجيا في جانبها الرقمي.
لقد غيرت الثورة الرقمية جُل المفاهيم الفلسفية التي كانت تُقارب أخلاقيات التواصل الإنساني في علاقاته المُعقدة وحوّلت الخصوصية الإنسانية إلى (داتا) قابلة للاستحضار في أيّة لحظة لتكون شاهدة على الفعل الإنساني في حقيقته الجوهرية.
وبات من المستحيل التخفي وراء أقنعة كاذبة كانت في وقت سابق دليل صدق ومفازات هروب من مواجهة الحقيقة. وتكاد تصبح حقيقة الإنسان المعاصر وكأنّها مرآة عاكسة لوهمه ولغرور رؤيته وهي تريد أن تُغطي صورة الذات المُتعدّدة التي طالما أرقت الفلاسفة في فهم تناقضاتها وازدواجيتها وانفصامها وكذبها.