وسط حقول زراعية واسعة شرقي قالمة، مازال المنزل الريفي الجميل منتصبا منذ أكثر من 100 عام، يقاوم عوامل الطبيعة و الزمن و يد البشر العابثة، هو واحد من عشرات المباني التي تشبه الفيلات و القصور و المنتجعات الجبلية التي بناها المعمرون، ليستقروا فيها بعد أن أحكموا قبضتهم على الأراضي الزراعية و الأقاليم الغابية و هجروا الجزائريين إلى الأودية و الشعاب و رؤوس الجبال، ليواجهوا المستقبل الصعب و ليل الاستعمار الطويل.
كان كبار المعمرين يعيشون حياة الترف داخل هذه المباني المحاطة بحقول القمح و البساتين و منابع المياه، يخدمهم الخماسة من الجزائريين المجبرين على قبول الأمر الواقع و التحول إلى عبيد بسهول القمح ومزارع البقر و بساتين الحوامض و الكروم التي كانت تغطي سهل سيبوس الكبير و سهل الجنوب المترامي الأطراف.
بعد استقلال البلاد صارت هذه المباني و كذلك الأراضي الزراعية من الأملاك الوطنية، بموجب قرار الاسترجاع الصادر آنذاك و منذ ذلك الحين بقيت هذه الممتلكات العقارية الثمينة عرضة للإهمال و النهب و الانهيار، حتى صار الكثير منها أطلالا شاهدة على حقبة زمنية مثيرة من تاريخ الجزائر الحديث.
هنا في قالمة كما في ولايات أخرى، يمكنك أن ترى هذه المباني الجميلة أو ما تبقى منها بالمناطق الريفية النائية و وسط الغابات و قد يدفعك الفضول و الرغبة للاقتراب منها و ربما الدخول إليها، لتسترجع بعضا من التاريخ و تتساءل في حيرة لماذا كل هذا الإهمال الذي يطال ملكا استغل في مرحلة الاستعمار للتمتع بخيرات الجزائر و صار اليوم للمجموعة الوطنية؟ من يستغل هذه المباني و من يملكها؟ لماذا تركت هكذا و لم تخضع للترميم و تتحول إلى مصدر للجباية المحلية المتهالكة؟ هل تحوز هذه المباني على سندات إدارية قانونية؟
النصر زارت هذه التحف الهندسية النادرة في عمق الريف القالمي و سلطت الضوء على هذه الممتلكات التي بدأت تثير اهتمام الناس في السنوات الأخيرة و تدفعهم إلى التساؤل عن المتسببين في انهيارها و عن الجهات التي تستغلها و أيضا عن مستقبل هذه التحف الجميلة القادرة على العيش سنوات أخرى طويلة إذا وجدت من يصونها و يحميها من النهب و عوامل الطبيعة و الزمن.
و على خلاف المباني التي تركها المعمرون بالوسط الحضري بمدن و قرى قالمة، فإن منازل و منتجعات الريف بقيت مهجورة بعد استقلال البلاد، عقب موجة النزوح الريفي الكبير الذي بقيت آثاره إلى اليوم، و في غياب الجهة المسؤولة عن هذه الممتلكات العقارية ذات القيمة الكبيرة امتدت إليها أيادي النهب و حولت الكثير منها إلى خراب و القليل فقط من بقي صامدا وسط الحقول الزراعية القريبة من الطرقات و المدن و القرى.
«زيمو»...موطن المزارع والمباني الريفية الثمينة
بلدية بلخير التي أصبحت اليوم ضاحية من ضواحي قالمة الكبرى، كانت تسمى «ميلي زيمو» زمن الاحتلال، سيطر عليها كبار المعمرين و حولوها إلى مزارع كبيرة ما زالت قائمة إلى اليوم بمبانيها الجميلة و أراضيها الخصبة التي استحوذت عليها مزارع نموذجية عملاقة مرت بمراحل صعبة في السنوات الأخيرة، لكنها بدأت تتعافى.
واحدة من هذه المزارع تسمى بومعزة السعيد، يتواجد بها منزل ريفي جميل على طريق حجر منقوب مدينة المستقبل، بناية بهندسة عمرانية مميزة تشبه هندسة منازل الريف الأوروبي، جدران من الحجارة و سقف مغطى بالقرميد الأحمر و أنظمة للتهوية والتدفئة ونوافذ وأبواب من الخشب الثمين و نوعية رفيعة من البلاط و شرفات و أقبية تحت الأرض.
البناية القريبة من قرية «لاصاص»، تعاقبت عليها عائلات كثيرة بعد الاستقلال و ما زالت مأهولة إلى اليوم، لكنها تتعرض للتدهور و أصبحت جدرانها الخارجية عرضة للمؤثرات المناخية و لم تعد بذلك الجمال الذي كانت عليه خلال سنوات الاستقلال الأولى.
و بالرغم من أن البناية تتواجد بقلب المزرعة، إلا أنها تعاني من نقص كبير في الصيانة و ربما سيكون مصيرها الانهيار بعد سنوات قليلة كما حدث مع بنايات أخرى بعدة بلديات بقالمة.
وقد حاولنا التحدث مع العائلة التي تقيم بهذا المبنى، لكننا لم نتمكن من ذلك، وكل ما عرفناه أن هذه الإقامة مؤقتة و أن المبنى الذي يحمل الرقم 235 مدرج ضمن الممتلكات السطحية للمزرعة النموذجية بومعزة السعيد، لكنه لا يحوز على الوثائق القانونية اللازمة التي تسمح بتأجيره و تحويله إلى مصدر للدخل.
و عند تنقلنا إلى مقر المزرعة بحي «لاصاص» على الطريق الوطني 80 لم نتمكن من لقاء مديرة المزرعة لمعرفة مزيد من التفاصيل بخصوص الممتلكات العقارية المتواجدة بها، و منها هذا المبنى الجميل الذي يعد بمثابة تحفة معمارية نادرة بالمنطقة الريفية الواقعة شرقي قالمة، أين توجد مباني كثيرة تواجه نفس المصير ببلديات بلخير، بومهرة احمد، لخزارة، بوشقوف، وادي فراغة، وادي الشحم و مجاز الصفا.
و قال رئيس بلدية بلخير للنصر، بأن هذه المباني أصبحت مدرجة ضمن ممتلكات المزارع النموذجية و المستثمرات الفلاحية الفردية و الجماعية و لا يمكن للبلدية أن تتصرف فيها سواء بالترميم أو الإيجار و التسوية وفق القانون 15/8 المتعلق بمطابقة البنايات.
وادي الشحم موطن آخر للمباني الريفية
إلى أقصى شرق قالمة على الحدود مع ولاية سوق أهراس، تقع بلدية وادي الشحم العريقة موطن المراعي الخصبة و غابات الفلين و الزان، هنا أقام المعمرون مزارع للقمح و الكروم و البقر لنهب ثروات الجزائر فيما كان الشعب يجوع، و بنوا منازل جميلة من المواد المحلية كالحجارة و الخشب و القرميد، و بعد أن غادروا تركوا هذه الصروح العمرانية الجميلة التي طالها الإهمال ، كما هو حال هذا المنزل الجميل قرب قرية لمسن بوادي الشحم.
وتحيط بالمنزل بنايات ريفية جديدة، لكن هندستها غير متجانسة و مواد بنائها غير ملائمة لطبيعة المنطقة التي تمتاز بالبرودة و الرطوبة على مدار السنة تقريبا.
مباني المعمرين المتواجدة وسط وادي الشحم، كلها مستغلة و ربما أصبحت ملكية خاصة بالتنازل و التسوية، لكن المباني الريفية ما زالت مدرجة ضمن قائمة الممتلكات شبه المهملة، و ربما يكون قد استولى عليها مواطنون غير عاملين بهذه المزارع و المستثمرات الفلاحية النشطة فوق الأراضي التابعة للمجموعة الوطنية.
و غير بعيد عن بلدية وادي الشحم، تتواجد مباني كثيرة تعود إلى مرحلة الاحتلال ببلدية مجاز الصفا على حدود ولاية سوق أهراس، بينها منشآت ثمينة أصبحت اليوم تابعة لقطاع النقل بالسكك الحديدية و تخضع للصيانة الدورية و الترميم، على خلاف العقارات المتواجدة بالمناطق الريفية.
برج القارد.. تحفة وسط جبال بني عمران
و ليست قطاعات السكن و الزراعة النقل فقط من تحوز على هذا النوع من المباني الثمينة بقالمة، حتى قطاع الغابات أيضا له نصيب من الغنيمة التي تركها المعمرون عندما رحلوا.
و يعد برج القارد وسط جبال بني عمران ببلدية بوحمدان، واحدا من التحف العمرانية القديمة بالوسط الريفي و الغابي بقالمة و ظل هذا الصرح قائما لسنوات طويلة بعد الاستقلال يقيم به حراس الغابات المتعاقبين على الإقليم الجبلي الواسع.
و لم يبق من هذا الصرح، إلا الجدران الحجرية السميكة و أحواض السقي و جداول المياه التي كانت تنساب بين أشجار العنب و التين و التفاح و غيرها من الفواكه التي وجدت المناخ الملائم هناك فنمت بقوة و حولت البرج الشهير إلى جنة ساحرة تحرسها عيون ساهرة على الثروة الغابية التي ظلت تمد الاقتصاد الوطني بكميات كبيرة من الفلين و الخشب.
كان يسكن بهذا القصر أو المنتجع الجبلي الساحر حارس غابات يسميه السكان سي محمد القارد و بعد تدهور الوضع الأمني منتصف التسعينات، تحول البرج إلى موقع مهجور تسكنه الأشباح و كائنات الليل، ثم امتدت إليه أيادي الخراب بالنهب و التحطيم و لم تبق منه إلا الجدران الحجرية العصية على الهدم، حتى أنظمة المياه و البساتين أصبحت من الماضي.
و لم تتمكن محافظة الغابات بقالمة من حماية البرج الجميل و اتخاذه مقرا للإشراف على غابات المنطقة المعرضة للحرائق و عصابات الفحم التي عاثت فيها فسادا و خاصة بالمنطقة الواقعة بتراب ولاية سكيكدة.
و مازال بعض سكان المناطق الريفية بقالمة، ينظرون إلى هذه المباني الجميلة كبقايا استعمارية لا مانع من الاستيلاء عليها و حتى نهبها و تحطيمها، غير مدركين بأن هذه الممتلكات الثمينة أصبحت ملكا وطنيا يجب حمايته و صيانته و تثمينه، حتى يتحول إلى مورد داعم للاقتصاد الوطني و الخزينة المحلية.
«لا سلطة لأملاك الدولة على المنازل الريفية»
يقول مدير أملاك الدولة بقالمة للنصر، بأن كل الأراضي الزراعية و الممتلكات العقارية التي كانت تحت سيطرة المعمرين، قد تم استرجاعها إلى ملكية الدولة الجزائرية بموجب الأمر رقم 102/66 المؤرخ في 6 ماي 1966 المتعلق باسترجاع الممتلكات العقارية و الأراضي الزراعية و غيرها من الممتلكات الأخرى التي كانت تحت سيطرة الاحتلال، بما فيها المنازل الريفية التي بناها المعمرون عبر مختلف مناطق الوطن.
و أضاف المتحدث، بأن هذه العقارات أصبحت اليوم تحت إشراف القطاعات المستحوذة عليها و في مقدمتها قطاع المزارع النموذجية و المستثمرات الفلاحية الفردية و الجماعية، مؤكدا على أن مديرية أملاك الدولة ليست لها سلطة على هذه المباني و لا يمكنها في الوقت الحالي أن تتصرف فيها أو تجبر ملاكها على المحافظة عليها و تثمينها.
و حسب مدير أملاك الدولة بقالمة، فإن مشكل العقارات المتواجدة فوق الأراضي الزراعية لا يقتصر فقط على مباني الفترة الاستعمارية، بل طال أيضا التوسعات العمرانية الجديدة التي أتت على أراضي المستثمرات و المزارع النموذجية و أصبح من الصعب تسويتها في إطار القانون 15/8، في انتظار إجراءات ربما قد تتخذ مستقبلا لتسوية هذا الإشكال الكبير و ذلك بالتنسيق مع عدة قطاعات بينها الزراعة و مديرية مسح الأراضي و ديوان الأراضي الزراعية، لإخراج هذه البنايات الثمينة من المساحة الزراعية و من ثم التصرف فيها وفق الإجراءات سارية المفعولة و المحافظة عليها و تثمينها و حمايتها من الاعتداءات التي تطالها باستمرار.
فريد.غ