أعراس على الطريقة التركية و المصرية و فيديوهات تقضي على الخصوصية
بين حمل العروس على الأكتاف على متن «العمارية» المغربية، و جلوسها في «الكوشة» على الطريقة المصرية، في قاعة أفراح ذات ديكور فرنسي، و إدراج أزياء و حلي و صناديق «حريم السلطان» التركية ضمن جهازها، و إحياء حفل الزفاف ب»هالو» للأمريكية أديل و «شاطر» للبنانية نانسي عجرم، و « تخونوه» للمصري عبد الحليم حافظ ، انسلخت الأعراس القسنطينية من الكثير من العادات و التقاليد الأصيلة المتوارثة منذ أجيال، لتحل محلها استعراضات و مظاهر زائفة، مأخوذة في الغالب من المسلسلات و الأفلام و الفيديوهات و الصور المنشورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
إلهام.ط
بعد أن كانت الأعراس تنظم في المنازل في أجواء عائلية حميمية، حسب قدرات و إمكانيات كل عائلة، هاجمتها اليوم مختلف التيارات و الموضات و الممارسات الدخيلة، بدءا بالمغالاة في قيمة المهر، و مطالبة العريس بشراء الحلي الذهبية الثمينة لعروسه، على غرار «الشبكة» التي تروج لها المسلسلات المصرية و الخليجية و التركية، حتى أن بعض العائلات لا تتوانى اليوم في استعراض تلك الحلي بين طاولات المدعوين في قاعات الأفراح في نوع من التباهي المثير للاشمئزاز، و تتهافت بعض العائلات على تأجير هودج «عمارية» لحمل العروس على الرؤوس، على الطريقة المغربية.
و عوض الاحتفال في المنزل كما جرت العادة، يتم كراء قاعة أفراح فخمة بكل مستلزماتها من أثاث و ديكور و تجهيزات مختلفة، إلى جانب تخصيص مغن أو فرق غنائية لإحياء العرس، على طريقة الأفلام المصرية و المسلسلات التركية الرائجة، لكن بدل إحضار راقصة محترفة، يتحول جميع الحضور إلى راقصين و راقصات، يستعرضون مواهبهم في الرقص الغربي و الشرقي و المحلي، ما جعل مواقع التواصل الاجتماعي تعج بالصور و الفيديوهات المهربة من الأعراس التي تسببت بعضها في نشوب مشاكل و فضائح عديدة.
أعراس بأغان هابطة وكوكتيل شرقي غربي
و ذكرت السيدة صباح، موظفة في العقد الرابع من عمرها بمؤسسة استشفائية، بأنها لاحظت بأن أصحاب الكثير من الأعراس التي دعيت إليها شعارهم «أزرب... أزرب و روح للفوياج»، أي أن كل مراحل العرس في قاعات الأفراح تتم بريتم سريع و كأن الضيوف حضروا إلى مطعم، لمجرد الأكل و الرقص ثم الانصراف، ليتمكن العروسان من السفر لقضاء شهر العسل، و تأسفت لأن أعراس اليوم يحييها في الغالب «دي جي» بأغان جزائرية جوفاء أو هابطة، إلى جانب كوكتيل غريب من الأغاني الأمريكية و التركية و المصرية و اللبنانية، ترافقهاـ حسبها ـ رقصات فاضحة ، و كأن العرس نظم في ملهى و ليس حفلا عائليا، أما المالوف فقد أصبح غريبا في مدينته، كما أكدت.
و استغربت من جهتها أم حاتم، ربة بيت، من اختزال الأعراس القسنطينية في عروض أزياء و حلي العروس و المدعوات و الأغاني الهابطة و الرقص الماجن و الولائم المكلفة، و التفاخر بما يذر من أموال في حفل أغاني «واي واي» و «آي آي»، على حد تعبيرها. في حين تمنت الجدة فاطمة لو يتم تخفيض قيمة المهر الذي أصبح يتراوح بين 15 و 30 مليون سنتيم، من أجل تسهيل الزواج لمحدودي الدخل، و الحد من المصاريف و الشكليات التي أصبحت ملازمة للأعراس.
أما الدكتورة هناء، طبيبة أسنان شابة، فقالت بأنه من الطبيعي الحرص على أن تكون ليلة العمر مميزة تواكب صيحات الموضة الرائجة، و تتوج العروس ملكة في شكلها و أزيائها و حليها، و ترى بأن كل ما ينفق على حفل الزفاف ليس تبذيرا ، حسبها، فالمرء يتزوج مرة واحدة في حياته، لكنها تتمنى بأن يحرص أصحاب العرس على عدم السماح ببث أغان تافهة عبر «ديسك جوكي»، لكنها منتشرة بكثرة في أعراسنا، على غرار «خطيرة»، «كوليها يا الدودة»، « واي واي» و غيرها، مرحبة بالأغاني الأجنبية الجميلة و المالوف و الشعبي في عرسها الذي سيقام بعد شهر تقريبا.
و اعترف عمي رابح، موظف متقاعد، بأنه اضطر إلى الاقتراض من معارفه لتنظيم حفل عرس ابنه الأكبر، إذ تجاوزت النفقات، حسبه، 100 مليون سنتيم بين كراء قاعة الأفراح و الديكور و الأطباق و الحلويات و المشروبات و الكعكة و هدايا العروس و حليها، إلى جانب المهر، و تأسف على اندثار عادات الأعراس القديمة التي كانت تتسم بالحميمية و البساطة.
أصحاب قاعات الأفراح يتبرأون من سلوكات بعض العائلات
في جولة قادت النصر إلى ثلاث قاعات أفراح بقسنطينة، علمنا من أصحابها بأنهم قرروا عدم قبول تأجيرها للأشخاص الراغبين في تنظيم أعراسهم في الفترة الليلية، و ذلك، حسبهم ، تجنبا لما قد يصاحبها من خمر و مجون ، كما أنهم يخصصون قاعة للنساء و أخرى للرجال، لتفادي مشاكل الاختلاط.
قصدنا إحدى أكبر و أشهر قاعة للأفراح بقسنطينة و أكثرها طلبا من الراغبين في تنظيم أعراس فخمة، نظرا لنمط بنائها و أثاثها و ديكورها الفاخر. و قد أخبرنا صاحبها بأنه حدد سعر الكراء مبدئيا ب12 مليون سنتيم لإقامة الحفل، لكن المبلغ يمكن أن يخفض حسب الحالة المادية لأصحاب العرس و ليس كما هو معلن عنه بمديرية التجارة، كما قال. و أشار إلى أنه يتعمد عدم حضور أي عرس ليترك كامل الحرية لأصحابه و لا يرى شيئا قد يزعجه، فهو بريء من كل ما قد يفعلون في غيابه، لكنه لا يسمح بتواصل الحفل إلى غاية الليل.
في حين قال لنا صاحب قاعة أخرى بالمنطقة الصناعية 24 فيفري بأن سعر الكراء يتراوح بين 11 و 13مليون سنتيم، لكنه لا يؤجرها، كما أكد، لمن هب و دب، تجنبا للمشاكل و تعاطي الخمر و المخدرات و ما ينجم عنها، لذلك يتحدث إلى الزبون و يحاول التأكد من هويته و أخلاقه، قبل أن يوافق و يشترط عليه أن ينهي الحفل في المغرب.
صاحب قاعة أخرى حدد سعر الكراء ب 10 ملايين سنتيم، و رصد عدة مظاهر سلبية يراها يوميا في حفلات الأعراس التي تقام لديه، و في مقدمتها اللهفة و التبذير، فكافة العائلات ، كما أكد السيد طارق، تلقي بالطعام في القمامة بعد انتهاء الحفل، لأنها تحضر كميات هائلة، دون أن تحصي مسبقا عدد المدعوين و احتياجاتها، ذلك رغم غلاء المعيشة. و تأسف محدثنا لغياب تقاليد الأعراس القسنطينية، التي أصبحت، حسبه، تركية بنسبة 80 بالمائة، تجسد ما يبث في المسلسلات و الأفلام، سواء من حيث العادات أو السلوكيات أو المراسيم أو الأزياء غير المحتشمة، و كذا ما يفرضه أصحابها من روتوشات على ديكور القاعة الأصلي، إلى جانب أغاني الملاهي و الرقص الغريب. و أشار إلى أنه وضع تعليمات صارمة يشرف طاقمه على تطبيقها تجنبا للمشاكل. و في مقدمتها منع المشروبات الكحولية و حظر دخول الرجال إلى قاعة النساء و العكس و كذا التصوير، خشية نشر صور و فيديوهات المدعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي. و إذا دعا صاحب العرس مغنيا لإحياء حفله من الضروري أن يدخل قاعة الرجال مع عدد محدود من العازفين، دون السماح له بإحضار أصدقائه، أما «ديسك جوكي» فمسموح به في قاعة النساء تحت إشراف امرأة «دي جي». و رغم قائمة المحظورات، فقد سجل نشوب شجارات و خلافات عديدة بين أسرتي العروسين و بين الضيوف، آخرها تتعلق بأخ العريس الذي رفض إحياء العرس بديسك جوكي، فدفع ل «دي جي» أجره و أرغمه على الانصراف، رغم معارضة أهل العروس الشديدة. و آخر موضة في الأعراس التي شاهدها في قاعته، اتفاق بعض أصحاب الأعراس مع المغنيين بعد أن يتقاضوا أجورهم مسبقا،على اقتسام المبالغ المالية التي يجمعونها من عادة «الرشق»، و تتعلق بإهداء المدعوين للمغنيين مبالغ مالية خلال إحيائهم للحفلات إذا أعجبوا بأدائهم، و بذلك لكي يتمكنوا من استرجاع بعض ما أنفقوه في العرس.
حوادث حرق و إتلاف للأجهزة و الأثاث و الديكور
توجهنا بعد ذلك إلى حي شعاب الرصاص، حيث وجدنا الكثير من المحلات تعرض أرائك فخمة من مختلف الأنواع و الأشكال و قطع ديكور و لوازم الإضاءة و كراس و طاولات و ثلاجات و مجمدات و غيرها من اللوازم للكراء، و علمنا من أصحاب المحلات بأن الأرائك الفخمة التي تستخدم لجلوس العريسين في حفل الزفاف في ما يعرف ب»الكوشة» عند المصريين، لا توجد ورشات لصنعها بالحي و بقسنطينة ككل، بل يشترونها من حرفيين يعملون بورشات خاصة منتشرة في مدينة العلمة و هي مصنوعة من مادة «السكاي» و الألمنيوم أو النحاس، و مزينة بمختلف الزخارف و الأشكال الهندسية و الورود.
بخصوص أسعار كراء الأرائك و الديكور المرافق لها، قال لنا التاجر نصر الدين بأنها تتراوح بين 5 آلاف و 40 ألف دج لليوم الواحد، حسب النوعية المطلوبة، و أكد صاحب محل مجاور له، بأنه يعرض بعض الأرائك للبيع، لمن أراد ذلك بسعر يتراوح بين 120 و 200 ألف دج، و سألنا أصحاب المحلات و كذا الورشات إذا كانوا يصنعون «العمارية» أو يعرضونها للكراء أو البيع، فأجابوا جميعا بالنفي، باستثناء تاجر واحد قال بأنه يمكن أن يجلبها لمن أراد تأجيرها في حفل عرس أو ختان من عند شقيقه مقابل 7 آلاف دج لليوم الواحد، مشيرا إلى أن شقيقه أحضرها من المغرب، كما قال لنا صاحب قاعة حفلات بالمنطقة الصناعية بأنه جلبها أيضا من المغرب ، و يتهافت على استعمالها أصحاب الأعراس .
نصر الدين أشار من جهة أخرى، إلى أن العديد من اللوازم التي أجرها لأصحاب الأعراس قاموا بإتلافها و عندما يطالبهم بتعويضات يغضبون و يتشاجرون معه، مشيرا إلى عطل في الثلاجة و حرق أريكة و تحطيم مصابيح... كما أكد العديد من زملائه تعرضهم لمشاكل مماثلة، خاصة في الصيف موسم الأفراح و الكراء، ما جعلهم يفكرون في تغيير النشاط و فتح وكالات لديكور الأعراس، نظرا لازدهارها بقسنطينة، بفضل مواقع التواصل الاجتماعي و القنوات التلفزيونية.
أستاذ علم الاجتماع بجامعة قسنطينة 2 محمد زيان
الزواج مشروع للتمظهر يخفي الخيبات و الإحباطات
يرى أستاذ علم الاجتماع بكلية العلوم الاجتماعية و الإنسانية بجامعة قسنطينة 2 محمد زيان، بأن الزواج من وجهة نظر المجتمع عبارة عن طموح قوي و مفتاح للرغبات يمس كل الأفراد، مهما بلغت مستوياتهم الاجتماعية و الثقافية، كما أنه مشروع العمر الذي يأخذ بعدا واسعا و يلتف حوله الجميع في نوع من الالتحام و المشاركة في المتعة و الفرح، حيث تجدهم يستعملون صيغة الجمع و هم يتحدثون عنه.
و أضاف الأستاذ زيان بأن في كل مجتمع مشاريع علمية و ثقافية و رياضية و تجارية ، و في ظل غياب هذه المشاريع و كثرة الإحباطات الموجودة في مجتمعنا، يتحول الزواج غالبا إلى غاية كبرى و مشروع يخفي تلك الخيبات و الإحباطات، فتنفق عليه الأموال مهما كلف، و يتم التجمهر و التمظهر و المبالغة في كل شيء، لكن في حالات كثيرة ينتهي الفرح بانتهاء العرس، و ينتهي الزواج بانتهاء اللذة.
محدثنا أكد بأن الزواج أصبح بالنسبة للكثير من الشباب، مشروعا لمواكبة عادات مجتمع تقليدي، و تحقيق السعادة في العرس، و علاقة سطحية مع الطرف الآخر أو نزوة مرتبطة باتباع الغرائز ، لكن بعد العرس تبقى الأبواب مفتوحة على المشاكل و الطلاق، قال محدثنا ، مشيرا إلى أن المجتمعات التقليدية القديمة كالقبائل الإفريقية و الهندية، كانت تعاني في حقب زمنية من المجاعة و لا تأكل اللحم إلا في المناسبات، حيث يلتف أفرادها حول الطعام في أجواء احتفالية، خاصة إذا تعلق الأمر بالزواج الذي بقي مرتبطا بالولائم و التجمعات إلى حد اليوم، و تطور الأمر إلى مصاريف أكبر بتنوع و انتشار المواد و التجهيزات بكل أشكالها، لكن بقي الفرح مرتبطا باللذة الفموية بتناول ما لذ و طاب في تلك الولائم، و الإسراف في الإنفاق لكراء قاعات الأفراح و الديكور الفخم و السيارات الفارهة في المواكب، و الأزياء و الحلي و الهدايا ، و كأن قيمة العريس و العروس تتجلى في تلك المظاهر و الماديات في يوم العرس لا غير.