الدقسي حي سكني وإداري في قسنطينة بوجهين مختلفين
يختفي حي الدقسي بمدينة قسنطينة خلف وجهين مختلفين ومتناقضين، فالداخل إليه من الجهة العلوية يجد نفسه بين عيادات أطباء يقصدها المرضى من مختلف المدن الشرقية ومستشفى أمراض الكلى وبين مقر الولاية وإدارات مختلفة، لكن المشهد سرعان ما يتغيّر ليتحوّل إلى سوق فوضوية على تخومه مع الأحياء السفلية الأخرى، حيث تنتشر طاولات الباعة التي تُعرض فيها مختلف أنواع السلع، فضلا عن أكوام كبيرة من القمامة تُترك على قارعة الطريق في المساء.
النصر قامت بجولة في الحي خلال المساء، بعد أن غادر مئات الباعة المكان إلى وُجهات مختلفة، حيث التقينا برئيس جمعية الحي أحمد بوغازي، الذي قادنا مباشرة إلى موقع السوق المغطاة مقابل عمارات الشطر الثالث من الحي أو ما يسميه السكان «الدقسي 3».
اللقلق يقتاتُ على مخلفات السوق الفوضوية
على الجهة الخلفية للمرفق، المُقابلة لخط السكة الحديدية، بدا المنظر “مُزريا”، على حد وصف مُرافقنا، حيث داهمتنا أدخنة قوية متصاعدة من النيران التي أضرمها الباعة وبعض أعوان النظافة في أكوام كبيرة من القمامة وبقايا الورق المستعمل في التغليف، بالإضافة إلى الأكياس البلاستكية. وكانت الروائح الكريهة تنبعثُ من المكان أيضا، حيث اختلطت رائحة الأطعمة المُتعفنة مع الدخان المتصاعد من النيران ومع روائح بقايا الدجاج وريشه، في حين امتزجت صورة المكان بسائل أسود شكل على الأرض خطا طويلا، ظننا في البداية بأنها مياه صرف صحي لكن رئيس الجمعية أكد لنا بأنها بقايا السوائل المستعملة في تصبير الزيتون، التي يصبها الباعة بعد نفاد الكميات المعروضة.
وتجمعت مجموعة من اللقالق والعشرات من الطيور البيضاء المحيطة بها على أكوام القمامة تنقرها بحثا عما تأكله، في حين كان بعض الشباب يزاحمونها للقيام بتنظيم ما بقي في المكان من الدعائم الخشبية لطاولاتهم، حيث وجدنا بأن الأخشاب تمتد على خط طولي بمنتصف مساري طريق السيارات، الذي يكون عامرا بالمركبات والمواطنين خلال النهار. كما أضاف مرافقنا بأن الأرضية الترابية التي تترامى عليها مختلف أنواع القمامة تختفي خلال “ساعات دوام الباعة”، كما وصفها، لأن الملابس القديمة تُعرض عليها.
سور مركز التكوين المهني و نصب الصحفي بوخزر لعرض السلع
وتمتدُ التجارةُ الفوضويةُ إلى غاية مدخل حي الكيلومتر الرابع، الذي يقوم بينه وبين الدقسي جسر صغير أُنجز فوق السكة الحديدية، لكننا لاحظنا عند الوُقوف عليه بأن أرضيتهُ متدهورة جدا، فالإسفلتُ منعدم بشكل شبه تام، والحفر الموجودة فيه كبيرة وتعرقل حركة المواطنين الذين يعبرون منه نحو بيوتهم. أما ضفتا الجسر فسيطر عليها الباعة، ولم يتركوا لأطفال المدرسة الابتدائية إلا حيزا صغيرا يخرجون ويدخلون من خلاله.
وتصلُ الطاولات على الجهة الأخرى من الحي إلى غاية مسجد حمزة مرورا بالعمارات، حيث أوضح لنا مُحدثنا بأن بعض التُجار الفوضويين يقدُمون من ولايات شرقية مختلفة لتسويق بضائعهم في الدقسي، و”كأن الأمر لا يتعلق البتة بحي سكني”، على حد تعبيره.
إلى الأمام يبدو السور الخلفي لمركز التكوين المهني، وعليه كتابات مختلفة، لكنها ليست كتابات حائطية عبثية مثل التي وجدناها من قبل في الحي بالقرب من الجسر، وإنما هي عبارة عن أسماء التجار الفوضويين الذين قسموا الجدار إلى مربعات لعرض سلعهم ومن أبرز العبارات تكرُرا على الرقع المحددة بخطوط متموجة، يجد المار كلمتي “تاع ماليها” باللهجة الدارجة، ويقصد بها “ملكية خاصة”، في حين احتل الباعة أيضا الساحة المجاورة لملعب بورطل.
وتحولت غُرف تبديل الملابس في نفس الملعب إلى خزانات لحفظ السلع الخاصة بالباعة مقابل المال، كما يقومُ بعض القاطنين بالمنازل الموجودة بمحاذاة السكة الحديدية منذ عهد الاستعمار الفرنسي بنفس المهنة، حيث يحفظون دعائم خيم الباعة خلال الليل لحمايتها من السرقة مقابل مبالغ مالية. أما بالساحة المذكورة فما زال النصب التذكاري المخلد لمكان اغتيال الصحفي مخلوف بوخزر من طرف الجماعات الإرهابية خلال العشرية السوداء مُحطما. وأدمج النُصب أيضا ضمن سلسلة الطاولات الموجودة في المكان، حيث تعرض عليه السلع أيضا.
الدقسي يستقطبُ طالبي الشفاء من مُختلف الولايات
أما الجهة العلوية من الحي المحاذية لمقر الولاية فهي ما يسميه السكان “الدقسي 1”، وأسفلها توجد عمارات الدقسي 2 إلى غاية الدقسي 3، حيث أوضح مرافقنا وجاره عمي الشريف، بأن الشركة المعروفة سابقا باسم “سوناتيبا”، هي من قامت ببناء جزء كبير من البنايات الموجودة بالحي، الذي اعتبراه سكنيا بامتياز لولا تدهور وضعيته، على حد قولهما. وأشار محدثانا إلى أن تاريخ الحي يعود إلى مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث قطنهُ في البداية الأجانب الذين استُقدموا للعمل في الجزائر وخصوصا في مجالات التدريس، كما مُنح جزء آخر من الشقق لأساتذة الجامعات وغيرهم من الموظفين، في حين وُزعت وحدات أخرى فيما بعد على عائلات كانت تقطن سكنات هشة بضواحي وسط المدينة وغيرها من الحالات الاجتماعية.
وأضاف بأنه بعد مغادرة الأجانب استفاد عدد كبير من الأساتذة من شقق بالحي، حيث ما زالت إلى اليوم على مستوى الجهة القريبة من ثانوية سعدي الطاهر حراث مجموعة عمارات محاطة بسور وتدعى بحي المعلمين، في حين اختلط بعد ذلك سكان جدد أيضا بالمكان بفعل البيع والشراء خلال ما يقارب الخمسين سنة. وأشار رئيس جمعية الحي إلى أن ملاءمة المنطقة للسكن رفعت من قيمة العقار على مستواها، فسعرُ الشقة يصل إلى أكثر من مليار ومائتي مليون سنتيم في الوقت الحالي، بينما ينخفض في العمارات الواقعة بالأسفل.
وتُمثل عياداتُ الأطباء واحدة من السمات المُميزة لحي الدقسي، خُصوصا بالجهة العلوية القريبة من سيدي مبروك، حيث يتمركز أطباء بمُختلف التخصصات وعياداتُ طب الأسنان، كما قام البعضُ بفتح مخابر لإجراء التحاليل، ولذلك لا يستغرب السكان من مشاهدة الكثير من السيارات الحاملة لترقيم ولايات أخرى ومن أماكن بعيدة، سعيا وراء الشفاء على يد أطباء اكتسبوا شهرة كبيرة لخبرتهم الكبيرة، بحسب ما علمناه.
وساهم هذا الأمرُ أيضا في ازدهار نشاط حراسة الحظائر وعمل المحلات، التي تبيع الأوراق وتوفر خدمات الصور طبق الأصل، بالقرب من عيادات الأطباء وملحقات الإدارات الكثيرة أيضا بالدقسي، بالإضافة إلى وجود صيدليات كثيرة. من جهة أخرى، يشتهر الدقسي أيضا بمستشفى أمراض الكلى والمسالك البولية الذي يعتبر موضع استقطاب لمواطنين من مختلف الولايات.
الثعابين تُطارد سكان العمارات السفلى
ويُعرف الدقسي بوجود مضمار وساحة بين العمارات لتعليم القيادة، حيث قال محدثانا خلال مرورنا بالطريق “هنا تعلم المئات من الشباب قيادة المركبة”، في حين اعتبر قاطن آخر بالحي بأن الكثيرين يحفظون عن ظهر قلب مختلف الطرقات داخل الحي بفضل هذا الأمر، كما وجدنا بين بعض العمارات ساحة مغلقة ببوابة حديدية ومخصصة لتلقين السياقة.
من جهة أخرى، تبدو وضعية التهيئة داخل حي الدقسي عبد السلام جيدة مقارنة بالكثير من أحياء المدينة، باستثناء الجهة الخلفية لعمارات الجهة السفلى القريبة من مجرى مياه الوادي، حيث قال لنا الشريف وهو من السكان القدماء بالحي، إن الهاجس الأول بالنسبة إليهم عند اقتراب موسم الحر هو الثعابين الكبيرة التي تهدد حياة أبنائهم بسبب الأعشاب الكثيرة التي تنبُت ولم يتم جزها من طرف الجهات المخولة بالإشراف على نظافة المحيط، مضيفا بأنهم قاموا باصطياد العديد من الثعابين من قبل في فصل الصيف عندما تخرج بحثا عن المياه.
وتوجد على مستوى نفس الموقع في الجهة المقابلة لحي القماص، بنايات كبيرة أنجزت خلال السنوات القليلة الماضية، بعد أن قام أحد الخواص ببيع قطع أرضية، ومن بين البنايات قاعة حفلات وأخرى ما تزال في طور الانجاز لكنها كبيرة وأخذت شكل المراكز التجارية. أما في آخر نقطة من حي الدقسي يقوم أصحاب الآليات المُستعملة في ورشات البناء بالركن.
وطالب رئيس جمعية الحي السلطات بتجديد أعمدة الإنارة على مستوى “دقسي 3”، لأن الموجودة حاليا قديمة جدا وأغلبها مائل، في حين اشتكى لنا بعض السكان من الفوضى المرورية التي يتسبب فيها كثير من أصحاب الحافلات بسبب عدم احترامهم لنقاط التوقف الخاصة بهم، ما يلتقي مع الحركة الكثيفة للمركبات الأخرى ويؤدي إلى الاختناق المروري.
قارعة الطريق مُتنفس لشباب الحي
وشد انتباهنا خلال جولتنا بالحي، الشباب المتجمعون حول لعبة الأوراق والدومينو خلال المساء، حيث أوضح لنا مرافقنا بأن نقص أماكن الترفيه والفراغ يدفعانهم إلى التسلي باللعب، منبها بأن الحي ضخم ويضم أزيد من ستين ألف نسمة، في حين أشار إلى أنه استفاد مؤخرا من ملعبين جواريين، لكنهما يظلان غير كافيين. ويطالب سكان الجهة السفلى أيضا بتحويل إحدى المساحات الشاغرة إلى فضاء لعب للأطفال.
لكن شبابا آخرين من نفس الحي، أكدوا لنا بأن نشاط التجارة الفوضوية بالجهة السفلى من الدقسي، هو مصدر رزقهم الوحيدُ لأنهم لم يتمكنوا من ممارسة نشاط آخر، كما أن بعضهم يحملون شهادات جامعية في تخصصات مختلفة ودفعتهم البطالة إلى العمل في السوق.
وطرحت جمعيات رياضية لحي الدقسي مشكلة عدم القدرة على تنظيم مقابلات كرة القدم في ملعب بورطل، الذي ما زال مُغلقا بسبب التجارة الفوضوية، فالجهاتُ المعنية رفضت المصادقة على سلامة المكان، لصعوبة التدخل في حال وقوع مشاكل أو حوادث بداخله، لما يحيط به من تجار فوضويين. وتوجد بالحي أيضا قاعة متعددة الرياضات يلجأ إليها كثيرون لممارسة رياضات مختلفة، ككرة السلة وكرة اليد والملاكمة.
مندوب المندوبية البلدية سيدي مبروك عبد الحكيم لفوالة
سنقوم بحملة تنظيف شاملة خلال الأيام القادمة
وأفاد مندوب المندوبية البلدية سيدي مبروك، عبد الحكيم لفوالة للنصر، بأن الدقسي أحد من أهم الأحياء الواقعة ضمن حيزه، مشيرا إلى أنه سيتم تنظيم حملة واسعة للتنظيف خلال الأيام القادمة، في حين أوضح لنا بأنه قام بجولة من قبل للاطلاع على وضعيته، والتقى بالسكان ورئيس جمعية الحي، الذين تمحورت مطالبهم حول النظافة وضرورة زبر الأشجار بعد أن صارت تشكل خطرا على الكثير من العمارات، منبها بأن التجارة الفوضوية تمثل مشكلة كبيرة أيضا.
وأضاف نفس المصدر بأن مصالحه قامت بإعداد دراسة لإنجاز فضاء لعب للأطفال على مستوى الجهة الخلفية من مقر الولاية بالقرب من مستشفى أمراض الكلى، حيث أرسل مقترحا بشأنها إلى البلدية من أجل النظر في الأمر، فيما أضاف بأن التوقُف العشوائي للحافلات وسيارات الناقلين غير الشرعيين، يمثل مشكلة بالنسبة للسُكان أيضا، وقد طالبوا الجهات المعنية بوضع حد لها. ونبه محدثنا بأن المؤسسات العمومية البلدية تتكفل في الوقت الحالي بعملية تنظيف الحي، بالإضافة إلى التجمعات السكنية الأخرى التابعة لمندوبية سيدي مبروك.
روبورتاج: سامي حباطي// تصوير: الشريف قليب