تسجل غالبية البنوك العمومية نقصا كبيرا في صرف المنحة السياحية، في مشكلة باتت تتكرر كل عام، حيث تبرر المؤسسات المصرفية الأمر بنفاد السيولة المخصصة للصرف في كل مرة ونقص الموظفين الذين يتكفلون بإجراء هذه العملية، وهو ما دفع بالمواطنين إلى اللجوء إلى السوق السوداء، التي يعمد فاعلون فيها إلى خلق ندرة في العملة الصعبة من خلال اكتناز «الأورو” و التوقف عن بيعه لرفع الأسعار مجددا، في وقت يرى خبراء أنه قد آن الأوان لتنظيم هذه السوق من خلال استحداث مكاتب صرف معتمدة.
وقفت النصر، في جولتين استطلاعيتين شملت العديد من الوكالات البنكية، العمومية و الخاصة، و في أسبوعين مختلفين بقسنطينة، على وجود العديد من المواطنين الذين لم يتمكنوا من الحصول على المنحة السياحية، حيث أن غالبية البنوك، تمتنع عن تقديم هذا الحق القانوني، و تغلق جل العمليات باستلام 10 جوازات سفر على الأكثر، قبل التاسعة صباحا في أيام متفرقة فيما لم تقم بعضها بصرف العملة لأسابيع كاملة، وهو ما أثار استياء المواطنين، في مشكلة باتت تتكرر كل عام.
المنحة مفقودة منذ أسابيع
بداية جولتنا كانت من بنك الفلاحة والتنمية الريفية الواقع بشارع زعبان المعروف باسم بومرشي، حيث كان البنك مكتظا عن آخره وتعمه فوضى كبيرة بسبب كثرة الزبائن، توجهنا نحو الشباك المكلف بصرف المنحة السياحية، غير أن الموظف أكد لنا أن «الصرف» غير موجود وطلب منا العودة في الأسبوع الموالي، علما أننا قصدناه يوم الاثنين، ولما سألنا أحد الموظفين العاملين بالبنك أكد لنا أنهم لم يقوموا بأية عملية منذ أسبوعين، إذ أن المبالغ التي منحت لهم قد نفدت.
غيرنا وجهتنا نحو البنك الوطني الجزائري برحبة الجمال، حيث أكد لنا نفس الموظف الذي سألناه قبل أسبوع، أنه علينا أن نقدم جواز السفر قبل الساعة التاسعة صباحا، ثم قال “عد باكرا في الغد لعلك تظفر بتصريفة”، ولما طلبنا منه أن يؤكد لنا إن كنا سنحصل على المنحة في الغد، ذكر أنه لا يمكن أن يجزم بهذا الأمر باعتبار أن «لكل يوم ظروفه».
ولم يختلف الوضع بوكالة القرض الشعبي الجزائري، حيث طلب منا الموظفون العودة مرة أخرى في الصباح الباكر، باعتبار أن العملية قد تم غلقها، كما أكدوا لنا أنه لا يمكن إنجاز عمليات في كل يوم بسبب قلة أعداد الموظفين لاسيما في فصل الصيف.
الوساطة للظفر بمنحة سفر
وأوضح لنا إطار سام ببنك عمومي، أنه لا يمكن التكفل في أي حال من الأحوال بجميع الطلبات دفعة واحدة، حيث أن الموظف يستطيع إجراء عمليات لـ 15 جواز سفر في اليوم على أقصى تقدير، كما أكد أنه تم اتخاذ جميع الاجراءات وضبط مستويات الطلب وتقديمها للبنك المركزي، لكن الأموال تنفد وأحيانا يسجل سوء تقدير، لاسيما وأن الطلب يتضاعف خلال شهري جويلية وأوت وفي موسم الحج.
وقد قمنا بالاستعانة بالوساطة، في أحد البنوك التي قصدناه لنتفاجأ بسهولة الأمر، حيث أكد لنا الموظف أنه بإمكانه أن يتكفل بجميع الجوازات التي نقدمها وفي الوقت الذي نريده، لكن الأمر، كان مختلفا تماما في البنوك الخاصة، حيث وجدنا أن العملة متوفرة، وأكد لنا الموظفون أنهم يستلمون جوازات السفر طيلة الفترة الصباحية ثم يعيدوها إلى أصحابها مساء.
بنوك خاصة تتكفل بـ 70 جوازا يوميا في موسم الحج
وأكد لنا إطار في وكالة «فرانس بنك” الواقعة بحي سيدي مبروك السفلي، أن المنحة متوفرة، غير أن ارتفاع الطلب عليها في هذه الفترة يحدث بعض الضغط، لكن يتم التكفل بجميع الطلبات إذ وصل عدد جوازات السفر التي يتم التكفل بها يوميا في موسم الحج والصيف إلى 70، في حين يتم خارج هذا الموسم كما أكد ، إجراء يوميا عمليات تتراوح بين 30 و 40، مؤكدا توفر العملة الصعبة طيلة أيام الأسبوع، مشيرا إلى أنه وفي حال قيام كل وكالة بنكية بإجراء 20 عملية فإن المشكلة ستنتهي تماما. نفس الوضع سجلناه بوكالة “سويستي جنرال”، حيث أكد لنا موظف أن الأموال متوفرة وبإمكان أي زبون أن يتحصل عليها.
100 أورو بـ 19200 دينار
في السوق الموازي
في المقابل انخفضت أسعار الأورو مجددا في السوق الموازية بعد أسبوعين من الارتفاع الطفيف، حيث ذكر ناشطون في السوق أنه قد سجلت زيادة في الطلب خلال الأسابيع الماضية، وهو ما كانت له انعكاسات آنية على أسعار الصرف آنذاك، فقد استعادت ورقة 100 أورو أزيد من 500 دينار كانت قد فقدتها في أسابيع ماضية، لكن الوضع تغير خلال الفترة الأخيرة.
ونزل سعر صرف 100 أورو في السوق الموازية إلى 19200 دينار، بعد أن تجاوز قبل شهر فقط سقف 22 ألف دينار، علما أنه نزل بحسب فاعلين في السوق إلى 18600 دينار ليستعيد عافيته قبل مغادرة الحجاج و يستقر عند المستوى المذكور.
تراجع كبير للتداولات المالية بالسوق الموازي
وتسجل السوق الموازية لصرف العملة الأجنبية، تذبذبا كبيرا منذ نهاية جوان المنصرم، حيث تراجعت الأسعار بشكل محسوس عما كانت عليه، و ذكر ناشطون في السوق للنصر، أن التراجع يعود إلى قلة السيولة والتداولات المالية بالعملة الصعبة منذ سجن رجال الأعمال الكبار وتراجع نشاط الاستيراد، والذي يعد كما أكدوا المصدر الأول لتمويلهم، مشيرين إلى أن الارتفاع المفاجئ الذي عرفته السوق قبل أسابيع قليلة ماضية يعود إلى زيادة الطلب على الأورو من طرف الحجاج وكذا المتوجهين لقضاء عطل خارج الوطن، مرجحين أن ينخفض سعره أكثر خلال الفترة المقبلة.
ولاحظنا أن النشاط في السوق الموازية يقتصر على الشراء فقط دون البيع، حيث أن جل الناشطين لا يرغبون في بيع العملة الصعبة ويقومون فقط بشرائها، قبل أن يسر لنا أحدهم أنهم يرغبون في إحداث ندرة من أجل إعادة رفع الأسعار مجددا، بعد أن قدر مستوى الخسائر بالملايير خلال الشهر الأخير.
تونسيون كانوا يمولون السوق
وقد تعمقنا أكثر في السوق بعد أن سألنا الكثيرين بساحة البريد المركزي والمكان المعروف بتسمية «الغار» بشارع كازونافا، حيث أكد لنا جل من تحدثنا إليهم أن مستوى التداولات المالية قد تراجع بشكل كبير، بعد أن قرر غالبية ممولي السوق التوقف عن تمويلها بالعملة الصعبة مخافة وصول التحقيقات الأمينة إليهم، حيث ظل التداول مقتصرا على فئات قليلة من الشباب العاطل، بعد أن اختفت العملة بشك مفاجئ.
وذكر لنا ناشط بالسوق يعمل منذ أزيد من 10 أعوام، أن سوق العملة الصعبة كان قبل أشهر قليلة فقط يدر مداخيل كبيرة على الكثيرين ووصل الأمر إلى حد أن تونسيين وأفارقة كانوا يقتاتون منه، لكن الواقع تغير كثيرا خلال هذه الأيام، مشيرا إلى تكبد الكثيرين لخسائر كبيرة ولهذا قاموا بحسبه، باكتناز العملة الصعبة لعل أسعار الصرف ترتفع مجددا.
وأكد محدثنا، أن أحد تجار العملة تكبد خسائر تقدر بـ 100 مليون سنتيم في ثلاثة أيام، بعد أن اشترى 125 ألف أورو من أحد التونسيين، قبل أن يفاجئه هبوط الأسعار، ليقرر عدم ضخ أمواله رفقة الكثيرين حتى تعود السوق إلى سابق عهدها.
ل.ق
الخبير الاقتصادي كمال رزيق: رفـــع منحــــة الصــــرف في الظــــروف الحـــاليــــة سيــــؤدي إلـــى كارثـــــة
يرجع الخبير الاقتصادي كمال رزيق، نقص المنحة السياحية بالبنوك العمومية كل صيف، إلى عدم قدرة احتياطي الجزائر من العملة الصعبة على مجابهة الطلبات المتزايدة، و هي إشكالية يؤكد أنه قد آن الأوان لتجاوزها من خلال تنظيم سوق الصرف و الإتاحة للبنوك العمومية و الخاصة، و حتى المؤسسات الأخرى المهتمة، إمكانية فتح مراكز صرف تعمل على مدار الساعة و ستساهم تدريجيا في تلاشي السوق الموازي، مقابل استقطاب مدخرات أفراد الجالية.
و أكد رزيق أن الجزائريين أصبحوا شغوفين بالسفر، فـ 10 ملايين منهم على الأقل، يسافرون سنويا إلى الخارج، و هو ما يسبب، مثلما يوضح، ضغوطات كبيرة على العملة الصعبة التي توفرها الدولة في شكل منحة، خاصة أن هذه الأخيرة غير كافية، لأن واردات الجزائر أكبر بكثير من صادراتنا.
و يتابع الخبير بالقول «الإشكال يكمن في أن الحكومة تجد صعوبة في إيجاد الموارد، و المنحة حتى لو كانت زهيدة فمن المستحيلات رفعها في الوقت الحالي، فلو تم رفعتها مثلا إلى 500 أورو، فإن كارثة ستحل على احتياطي الصرف، بالمقابل لا تجد الدولة حلولا لتوفير العملة الصعبة، إلا إذا لجأت إلى احتياطاتها من هذه العملة، و هذا غير مستحب لأن الأمر يتعلق باحتياطات استراتيجية».
و تطرق الخبير الاقصادي في حديثه للنصر، إلى عامل ثان أكد أنه أثر على السوق، و هو كما أكد عدم تعبئة العملة الصعبة خارج السوق الرسمية، ما خلف حالة من الفوضى، حيث يرى الخبير أن الحل «بسيط جدا» و يتمثل في تنظيم الحكومة لسوق سعر الصرف، فلا تصبح هناك فوارق كبيرة مع ما هو متداول على مستوى البنك، و بالتالي فإن الجزائري سيلجأ إلى السوق العادي و ليس للموازي أو إلى البنك العمومي، عندما يرغب في السفر، و يحدث ذلك، يؤكد محدثنا، من خلال إنشاء مكاتب صرف تقوم بتعبئة هذه الأموال و تجميعها لمجابهة الطلبات.
و يضيف المختص في الاقتصاد، أن هذا السوق العادي الذي يفترض أن يكون خارج البنوك، غير موجود، لذلك يجب على الحكومة استحداثه و تنظيمه عن طريق مكاتب الصرف مثلما هو موجود في كل دول العالم، حيث يتم منح رخص للبنوك التجارية و المقدر عددها بالجزائر بحوالي 26 بنكا بين عمومي و خاص، من أجل شراء و بيع العملة في مكاتب خارجية تكون متاحة لـ 24 على 24 ساعة لفائدة المواطنين و كذلك السياح الذين أصبحوا يلجأون منذ مدة إلى السوق السوداء، و الأمر نفسه بالنسبة لمئات الأتراك و الصينيين و المصريين الذين يعملون على مشاريع مختلفة في بلادنا.
و يؤكد المختص أن تنظيم السوق سيجعل الأسعار تستقر و تصبح معقولة و تنافسية، فيتنازل المواطن طواعية عن “منحة الدولة»، و يتلاشى السوق الموازي، الذي أوضح أن ظاهرة الاكتناز التي يقوم بها الناشطون على مستواه ليست جديدة، فالأمر يتعلق بسوق غير رسمية يقوم فيها المضاربون بالبيع و الشراء وقتما يرغبون، حسب تقديراتهم لحجم الأرباح التي سيحققونها.
و يفسر رزيق توفر السيولة في البنوك الخاصة، بأن هذه الهيئات الاقتصادية تعرف كيف تستقطب الأموال من خلال فتح حسابات بالعملة الصعبة، بينما يتطلب هذا الأمر في بنك عمومي شبكة معارف، بسبب الإجراءات المعقدة التي تفرض على الزبون و تنفره في الأخير.
و يقول محدثنا إن العصابة التي كانت تسيطر على البلاد، كانت متحكمة في هذا السوق و ترفض تنظيمه، إذ تضخم الفواتير و تجلب العملة الصعبة التي سرقتها ثم تعيد بيعها في السكوار بأسعار خيالية، فتحقق أرباحا من كل الجهات، معلقا بالقول «أعتقد أنه و مع ذهاب العصابة لن يكون هناك مانع في تنظيم السوق باستحداث مكاتب الصرف، لكن هذا الأمر يجب أن يتم تدريجيا و ليس دفعة واحدة، بفتح المجال للبنوك في البداية، ثم لأي شخص أو مؤسسة تريد أن تشتغل في العملة، خاصة أن للجزائر جالية تعتبر قوة، إذ تضم حوالي 7 ملايين مغترب يمكن استقطاب مدخراتهم عبر بيوت الصرف، لأن تغيير العملة خارج السوق الرسمية سيصبح جريمة يعاقب عليها القانون».
ي.ب