في شهادته على مؤتمر الصومام اعتبر سليمان بن طوبال -المعروف ثوريا بلخضر وبعبد الله الميلي وهو أحد الستة المشاركين فيه- أنه أحد أكبر الانتصارات التي عرفتها الثورة الجزائرية نظرا لاجتماع قادتها لأول مرة منذ انطلاقتها في ظروف تميزت باشتداد الحرب الاستعمارية ضد الشعب الجزائري. فإذا كان عدد القادة الذين حضروه تجاوز الستة عشر، فإن الذين شاركوا في جلساته الرسمية كان عددهم ستة فقط وهم يوسف زيغود «سي أحمد» و»لخضر بن طوبال» عن المنطقة الثانية/الشمال القسنطيني، وبلقاسم كريم عن المنطقة الثالثة/القبائل، واعمر أوعمران ورمضان عبان عن المنطقة الرابعة/الجزائر، ومحمد العربي بن مهيدي «سي حكيم» عن المنطقة الخامسة/وهران.
أما الذين حضروا مع هذه القيادات فلم يكونوا إلا مستشارين للوفود الرسمية. فعلى سبيل المثال كان الوفد الاستشاري للشمال القسنطيني يتكون من عمار بن عودة وعلي كافي وابراهيم مزهودي وحسين رويبح، وكان الوفد الاستشاري لمنطقة القبائل يتشكل من السعيد محمدي «سي ناصر» وعميروش آيت حمودة وقاسي، فيما كان وفد المنطقة الرابعة مدعوما بـ «الصادق دهيليس وسي محمد بوقرة، إضافة إلى علي ملاح الذي ستسند له قيادة الولاية السادسة. وبحسب شهادة لخضر بن طوبال فقد تغيب وفد المنطقة الأولى/الأوراس – النمامشة لأسباب داخلية مرتبطة بعدم اتفاق القادة بعد استشهاد مصطفى بن بولعيد رغم حضور شقيق هذا الأخير مرفوقا بوكالة. ويؤكد نفس الشاهد على الأجواء الأخوية والحوار الديمقراطي الذي ساد جلسات الاجتماع حيث ترأس يومه الأول رمضان عبان وأشرف على يومه الثاني محمد العربي بن مهيدي فيما كانت رئاسة اليوم الثالث من نصيب كريم بلقاسم.
السؤال المطروح كيف تمت عملية التحضير لهذا الاجتماع المفصلي في تاريخ الثورة الجزائرية ومن كان وراء المبادرة وكيف تمت العملية؟ هذه القضية أثارت الكثير من النقاش، إلا أن الوثائق التي سنعرضها في هذا المقال ستجيبنا على الكثير من القضايا التي طرحت خصوصا بعد رفض قسم من البعثة الخارجية (أحمد بن بلة وأحمد محساس) لقراراته. للإجابة على التساؤلات المطروحة، رجعت إلى وثائق قيادة الثورة في منطقتي القبائل والشمال القسنطيني، حيث ترجع الأولى إلى الرصيد الخاص بقائدها بلقاسم كريم والتي صادرتها قوات الاحتلال خلال كمين ليلي قرب تازمالت يوم 23 جويلية 1956، فيما تعود الوثائق الأخرى إلى قيادة الشمال القسنطيني التي استولت عليها القوات الاستعمارية خلال عملية عسكرية استهدفت أمانة الولاية الثانية في 31 جانفي 1957 بزريبة الحبايش الواقعة بدوار أولاد عطية غرب القل (استشهد الكتاب محمد الطاهر بن مهيدي شقيق محمد العربي وأحسن بوقريط ومحمد الطيب فرحات فيما ألقي القبض على الكاتبين عباس يوراس ومحمد ﭬروج قبل تصفيتهما لاحقا). وستكمل هذه الوثائق بمحضر استنطاق أحد قادة الأوراس قبل أن يسلم نفسه لقوات الاحتلال يوم 1 نوفمبر 1956 وهو عاجل عجول.
سقوط وثائق تحضير المؤتمر في قبضة الاحتلال
في يوم 23 جويلية 1956 على الساعة منتصف الليل ونصف اشتبكت دورية عسكرية فرنسية متشكلة من سبعة جنود بمجموعة صغيرة من المجاهدين في منطقة واقعة على بعد 3 كلم جنوب بلدة تازمالت الواقعة بأعلى حوض الصومام. وبعد تبادل لإطلاق النار، تمكنت المجموعة الثورية من الانسحاب لكن دون البغلة وحمولتها المتكونة من سلتين، حيث استولت عليهما الدورية العسكرية ونقلتهما إلى مقر المكتب الثاني (2eme Bureau) بالقطاع العملياتي ببجاية. تحتوي هاتين السلتين على شارات رتب عسكرية مصنوعة من الحديد وختم باسم جيش التحرير الوطني وآخر باسم جبهة التحرير الوطني بالإضافة إلى بعض الخراطيش وعدد معتبر من الوثائق.
قام عناصر المكتب الثاني التابعة للقطاع العملياتي ببجاية والمنطقة العسكرية الغربية لسطيف وأيضا الفيلق 27 للمشاة بتيزي وزو بفرز الوثائق وتصنيفها يوم 24 جويلية 1956، حيث صنفت إلى قسمين: القسم الأول يخص بلاد القبائل لوحدها حيث تكفل بها الفيلق 27 للمشاة بتيزي وزو، فيما تمّ تصوير القسم الثاني من الوثائق بعدما تقرر تحويل أصولها إلى ضابط المكتب الثاني للناحية العسكرية العاشرة بمدينة الجزائر وهذا بتاريخ 26 جويلية 1956 نظرا لأهميتها على أكثر من صعيد، حيث تأكدت أنها تعود لقيادة المنطقة الثالثة وتحديدا لبلقاسم كريم.
ما سأقوم بعرضه هو التحليل الخاص بهذه الوثائق الذي أمضاه الجنرال نواري (Le Général Noiret) القائد العام لمقاطعة قسنطينة العسكرية وللقوات الفرنسية بالشرق الجزائري وهذا بتاريخ 28 جويلية 1956.
يتكون الرصيد من خمسة ملفات مرتبة هجائيا (ABCDE)، حيث سأقتصر فقط على الملف الأول الذي يخص جولة عُمار بن بولعيد في بلاد القبائل، واجتماع قادة الثورة المفترض في 30 جويلية 1956 وطلب عُمار بن بولعيد تأجيله إلى 20 أوت 1956. يتكون الملف من 12 وثيقة محررة باللغة الفرنسية أعطت لها السلطات العسكرية ترقيما كما يلي:
أ. 1: رسالة من قائد الأوراس إلى العقيد بلقاسم كريم، غير مؤرخة، يفترض أن تاريخها ما بين نهاية ماي وبداية جوان 1956، موضوعها: مقترح جدول أعمال للاجتماع ودعوة كل القادة.
أ. 2: تعليمة من القيادة العليا لجيش التحرير الوطني بالأوراس بتاريخ 5 جوان 1956 بإمضاء عُمار بن بولعيد إلى الضابط الأول ناصر (السعيد محمدي) يتأسف فيها عن عدم اللقاء بهذا الأخير خلال مهمته بمنطقة القبائل كمبعوث من القيادة العليا لجيش التحرير الوطني بالأوراس، وهذا بغية إقامة اتصال معها. هذه التعليمة هي في واقع الأمر رسالة وجهها عُمار بن بولعيد إلى كل قادة منطقة القبائل الذين لم يقابلهم أثناء جولته بالمنطقة.
أ. 3: رسالة من جيش التحرير الوطني هيئة أركان الحرب بالجزائر: عمالة الجزائر إلى قائد منطقة الأوراس، غير ممضاة، بتاريخ 5 جوان 1956 وموضوعها الموافقة على الاجتماع الذي اقترحته قيادة هذه الأخيرة، وقد تم تحديده بيوم 30 جويلية 1956 حيث سيحضره كل قادة الثورة في الجزائر بدعوة من منطقتي الأوراس والقبائل. وهذه الرسالة هي إجابة من بلقاسم كريم قائد منطقة القبائل على رسالة عُمار بن بولعيد.
أ. 4: رسالة من بلقاسم كريم باسم جيش التحرير الوطني هيئة أركان الحرب بالجزائر: عمالة الجزائر موجهة إلى قادة منطقة الشمال القسنطيني يقول لهم فيها بأنكم لم تأتوا للقاء عُمار بن بولعيد الذي قضى شهرا ونصف بمنطقة القبائل بداية من 5 ماي 1956 ويدعوهم إلى المشاركة في اجتماع 30 جويلية في مكان قريب من المناطق الثلاث، حيث سيدلكم عليه عميروش آيت حمودة.
أ. 5: رسالة خطية من سي عبد الله الميلي (لخضر بن طوبال) نيابة عن يوسف زيغود باسم قيادة منطقة الشمال القسنطيني إلى بلقاسم كريم قائد المنطقة الثالثة/القبائل يعطي فيها الموافقة على المشاركة في الاجتماع المحدد، ويذكر فيها بمقترح قيادة الشمال القسنطيني بعقد اجتماع وطني.
أ. 6: بيان مخطوط باسم القيادة العليا لجيش التحرير الوطني بمنطقة الأوراس بتاريخ 6 جوان 1956 أمضاه عُمار بن بولعيد إلى الجنود والشعب بمنطقة القبائل يعبر فيها عن تشكراته للمجاهدين وللشعب على الاستقبال الحار خلال جولته بالمنطقة.
أ. 7: تعميم من هيئة قيادة جيش التحرير الوطني بعمالة الجزائر بإمضاء بلقاسم كريم إلى القائد الأوراسي مدور عزوي (عضو الادارة ومسؤول الناحية الوسطى) بتاريخ 10 جوان 1956 يدعوه فيها إلى توزيع دعوة المشاركة في اجتماع 30 جويلية 1956 على رفاقه ويذكره بزيارة عُمار بن بولعيد إلى بلاد القبائل، كما يبين له بأن هدف الاجتماع هو الدخول في المرحلة الثانية من الكفاح.
أ. 8: دعوة باسم القيادة العليا لجيش التحرير الوطني بالأوراس بإمضاء عُمار بن بولعيد إلى الضابط الأول ناصر (السعيد محمدي) للمشاركة في الاجتماع المبرمج في 30 جويلية 1956 ببلاد القبائل.
أ. 9: رسالة خطية باسم قيادة الأوراس مؤرخة في 10 جوان 1956 بإمضاء عُمار بن بولعيد موجهة إلى عمر (بلقاسم كريم) يخبره فيها بأن أخيه مصطفى مريض جدا، ويطلب بالتالي تأجيل الاجتماع المبرمج يوم 30 جويلية 1956 إلى 20 أوت 1956.
أ. 10: رسالة باسم القيادة العليا لجيش التحرير الوطني بالأوراس بإمضاء عُمار بن بولعيد مسبوقة بكلمة «سي خليفة» إلى سي عمر (بلقاسم كريم) بتاريخ 24 جوان 1956 يخبره بعودته من منطقة القبائل ومروره بجبال المعاضيد حيث حدثت عدة اشتباكات بالمنطقة في إشارة إلى العملية العسكرية الفرنسية المعروفة باسم (Espérance) وبأنه اقتاد معه فوج سي محمد الشريف الناشط بقرقور ليتابع تربص عندهم بالأوراس.
أ. 11: رسالة خطية من عُمار بن بولعيد إلى سي عمر (بلقاسم كريم) مؤرخة في 6 جوان 1956 يخبره فيها بمغادرة منطقة القبائل واجتياز سهول برج بوعريريج وسط القوات الاستعمارية التي كانت في عملية تمشيط، ويطلب منه موافاته بشارات الرتب العسكرية.
أ. 12: ظرف بريدي مختوم إلى السيد بلقاسم كريم وفيه صورة هذا الأخير وقائمة خطية لـ 22 من قادة الأوراس.
يوسف زيغود يقترح عقد مؤتمر وطني وقيادة الشمال القسنطيني تلتزم بتنظيمه
لم يكن اجتماع لجنة الستة بالرايس حميدو في 23 أكتوبر 1954 آخر اجتماع تبرمجه الثورة، لأن الشهادات المتوفرة تدل على اتفاق القادة على عقد اجتماع آخر بعد تفجير الثورة. لكن مغادرة محمد بوضياف منسق المجموعة للتراب الوطني أربك العملية، وهذا ما جعل القادة يحاولون ايجاد طرق اتصال فيما بينهم. فبعدما قرر مراد ديدوش «سي عبد القادر» ارسال محمد قديد إلى الأخضرية مصحوبا بكلمة سر، لم يقدر للعملية النجاح، بعد القاء القبض على الأخير ثم استشهاد الأول في اشتباك مشتة ﭬراوة بوادي بوكركر الواقع بدوار الصوادق – بلدية كندي السمندو (زيغود يوسف حاليا) في 18 جانفي 1955. ولئن نجح يوسف زيغود في سحب مفكرة مراد ديدوش عند استشهاده، فإن تكليفه لمحمد الصالح معلم المعروف ببن عاشور (من مشة الكرمات - دوار الخرفان ببلدية أولاد احبابة حاليا) بالذهاب إلى الأخضرية بنفس كلمة السر الموجودة في المفكرة لم يكتب له النجاح أيضا، حيث ذهب هذا الأخير ولم تتلق كلمته أية استجابة. بالإضافة إلى مراد ديدوش، شكل استشهاد كل من عبد الملك رمضان (4 نوفمبر 1954) ومختار باجي (19 نوفمبر 1954) والقاء القبض على مصطفى بن بولعيد (10 فيفري 1955) ورابح بيطاط (16 مارس 1955) عائقا أمام عقد أول اجتماع وطني بعد اندلاع الثورة. لتأتي بعدها عدة محاولات لربط الاتصال كان فيها البشير شيهاني «سي مسعود» قائد المنطقة
الأولى الأوراس-النمامشة الدور الأساس من خلال ربطه الاتصال بناحية سوق اهراس وبقيادة الشمال القسنطيني بداية من نهاية فيفري 1955، كما حاول أيضا ربط الاتصال بالمنطقة الثالثة/القبائل من خلال الوفد الذي قاده عمر المدرس أصيل البويرة والذي سقط في كمين قرب الياشير في 21 جويلية 1955. ويبدو أن نجاح يوسف زيغود في ربط الاتصال ببوجمعة سويداني أحد قادة المنطقة الرابعة بواسطة مصطفى من الخروب الذي كان يعمل في الجندرمة الاستعمارية بمليانة كما يشهد على ذلك محمد الطيب العلوي كان دافعا لعودة الاتصالات مع منطقة الجزائر، حيث كان هذا الدركي يزور والديه أسبوعيا، وهذا هو الذي يكون قد مهد لزيارة الطالب رشيد عمارة مبعوثا من رمضان عبان، في شهر نوفمبر 1955 بحسب شهادة علي كافي أو على الأرجح خلال شهر فيفري 1956، حيث حضر عدة اجتماعات لقيادة الشمال القسنطيني برئاسة يوسف زيغود وطلب منه هذا الأخير نقل مقترح عقد مؤتمر وطني إلى عبان رمضان ومن ثم إلى اعمر أوعمران، والهدف من ذلك تقييم الطريق التي حددها أول نوفمبر وخلق قيادة وطنية موحدة، حيث رجع وحمل معه رسالة من قيادة الشمال القسنطيني إلى رمضان عبان ضمنها مقترحا بعقد المؤتمر في المنطقة الثانية/الشمال القسنطيني.
إن الرسالة رقم 5 التي وقعها لخضر بن طوبال باسم قيادة الشمال القسنطيني ردا على دعوة الاجتماع من بلقاسم كريم تؤكد جليا هذه المعلومة وتتحدث على أن قيادة الشمال القسنطيني هي من اقترح تنظيم مؤتمر وطني، وبأن مبعوثا من المنطقة الرابعة/الجزائر قد زارهم وتناقشوا معه هذه الفكرة وطريقة تحقيقها. يقول لخضر بن طوبال في هذه الرسالة: «أخي العزيز (أي بلقاسم كريم)، تقترح علينا لقاء في منطقة تتوسطنا لنتحادث حتى نجد حلولا للمشاكل المطروحة حاليا والتي ستطرح في المستقبل حيث ستحدد مستقبل جزائر الغد. إنّ كل الشمال القسنطيني يوافق على المقترح حيث بدلنا ما في وسعنا لعقد هذا الاجتماع. لقد استقبلنا مؤخرا مبعوث جبهة التحرير الوطني الذي جاءنا من مدينة الجزائر للاتصال بنا بخصوص هذه القضية واقترحنا عليه عقد مؤتمر وطني يخرج ببيان يوضح للعالم موقف المقاومة الجزائرية». وتضيف رسالة لخضر بن طوبال بأن الإخوة بمنطقة الجزائر قد أعطوا موافقتهم على المقترح وأخبرنا رمضان عبان بأنهم لا ينتظرون إلا وصول حكيم (محمد العربي بن مهيدي) قائد المنطقة الخامسة/القطاع الوهراني للقدوم إلى لشمال القسنطيني. كما تخبر الرسالة بتخصيص قيادة الشمال القسنطيني لفوج من المجاهدين تمّ ارساله إلى وادي المرسى لاستقبال الوافدين. وطلب لخضر بن طوبال من كريم بلقاسم الاسراع في عقد الاجتماع لأن الأحداث تتسارع مما يتطلب اتخاد قرارات حاسمة. وفي الأخير طلب منه بالمناسبة استقدام أخيه السعيد بن طوبال المتواجد في المنطقة الثالثة لقضاء بعض الأيام مع العائلة عند قدومهم إلى المؤتمر، كما بلغه تحيات يوسف زيغود وعمار بن عودة.
نجد حيثيات هذه الرسالة في مذكرات علي كافي الذي تحدثت عن زيارة سعد دحلب لمدينة قسنطينة حيث كان في استقباله مسعود بوجريو قبل الانتقال سويا إلى مقر ناحية قسنطينة بقيادة صالح بوبنيدر «صوت العرب»، ثم الانتقال إلى دوار بني أحمد الواقع في أقصى الجهة الشمالية الغربية لولاية قالمة، أين بقي هناك لمدة ثلاثة أسابيع (زار المنطقة في نهاية مارس وبداية أفريل 1956 على الأرجح) جرى خلالها عقد اجتماع تمهيدي أو تحضيري لمؤتمر وطني حضره يوسف زيغود ولخضر بن طوبال وقادة المناطق والنواحي. وبعد عودة سعد دحلب إلى مدينة الجزائر، وصلت رسالة من قادة المنطقة الرابعة وتحديدا من اعمر أوعمران ورمضان عبان توافق على المقترح. وبحسب شهادة علي كافي، فقد بدأت تحضيرات عقد المؤتمر في المكان المسمى البوزعرور الواقع غرب القل في الناحية التي كان هو مسؤولها آنذاك (ناحية سكيكدة)، وهذا بالنظر لحصانة المنطقة وسيطرة جيش التحرير الوطني عليها بالكامل، بعدما كان المقترح الأول بانعقاده في المشروحة. وتمّ الشروع في تهيئة المخابئ تحضيرا للاحتياطات الأمنية.
عُمار بن بولعيد يقترح اجتماعا وطنيا ويكسب موافقة بلقاسم كريم
تتفق العديد من الشهادات ومنها شهادة صالح ﭬوجيل عن نية مصطفى بن بولعيد عقد مؤتمر وطني لتنظيم الثورة لكن استشهاده حال دون تحقيق ذلك. وشاءت الأقدار أن يكون شقيقه عُمار هو من ينقل المقترح ويساهم بشكل فعال في تحقيقه. إن المراسلات المتبادلة مع قادة المنطقة الثالثة/القبائل تعطي لنا معلومات في غاية الأهمية وتزيل اللبس عن الكثير من التساؤلات التي طرحت بخصوص مؤتمر الصومام.
تبين الرسائل المذكورة (ما عدا الرسالة رقم 5) ظروف جولة عُمار بن بولعيد في المنطقة الثالثة/القبائل في الفترة الممتدة من 5 ماي إلى 6 جوان 1956 في إطار ربط الاتصالات مع المنطقة الثالثة/القبائل والتعاون فيما بينهما. وتؤكد على أن عُمار بن بولعيد جاء في مهمة مبعوثا من القيادة العليا لجيش التحرير الوطني بالأوراس، دون الإشارة إلى استشهاد شقيقه (الرسالة رقم 2)، بل إن الرسالة رقم 9 المؤرخة في 10 جوان 1956 والتي تطالب بتأجيل المؤتمر إلى 20 أوت 1956 تتحدث عن المرض الشديد الذي يعاني منه مصطفى بن بولعيد، رغم استشهاد هذا الأخير في 23 مارس 1956؟ والمفارقة الأخرى أن اسمه لم يذكره في قائمة قادة الأوراس الذين كان من المفترض حضورهم للمؤتمر بما أنه يمارس فعليا سلطة القائد العام لجيش التحرير الوطني بالأوراس في مكان شقيقه.
وأكثر من هذا فإن ملاحظة خطية كتبت على هامش الرسالة رقم 10 تحذر بلقاسم كريم من استقبال مبعوثين من الأوراس تكون السلطات الاستعمارية قد جندتهم لاختراق الثورة، فإذا قدم أحدهم دون تكليف بمهمة ممضى من طرف مصطفى بن بولعيد أو عُمار بن بولعيد أو عبد الحفيظ طورش أو مصطفى غقالي، فإنه يعتبر جاسوس يجب تصفيته في الحين.
تعطي لنا الرسالة رقم 6 المؤرخة في 6 جوان 1956 حيثيات جولة عُمار بن بولعيد مرفوقا بجنوده إلى المنطقة الثالثة/القبائل، حيث أكد هذا الأخير أنه لم ولن ينس كرم وحرارة استقبال القبائليين لإخوانهم الأوراسيين، من تصفيقات الرجال والأطفال إلى زغاريد النساء، وهي تدل على وقوف الشعب الجزائري خلف جيش التحرير الوطني بعد 19 شهرا من الكفاح المسلح. كان اللقاء بمثابة احتفال حيث تبادل فيه الجنود الأوراسيين والقبائليين التحية وأخذ الصور التذكارية، وبأن جيش التحرير الوطني يبقى وفي لعقيدته الإسلامية وللجزائر. كما تسرد الرسالة رقم 7 التي وجهها قائد المنطقة الثالثة/القبائل إلى القائد الأوراسي مدور عزوي حيثيات زيارة عُمار بن بولعيد للمنطقة على هامش دعوة القادة الأوراسيين إلى المؤتمر. ففي 5 ماي 1956 حلت فرقة أوراسية بقيادة عُمار بن بولعيد ببلاد القبائل، حيث استقبلت باحتفال رسمي يتقدمه العلم الوطني وسط هتافات الرجال والنسوة والأطفال، حيث جددوا العهد على تحرير الوطن والانتصار على الامبريالية.
تؤكد الوثائق على أن الذي طرح فكرة عقد اجتماع وطني على بلقاسم كريم قائد المنطقة الثالثة/القبائل هو عُمار بن بولعيد، حيث رحب بها وطلب منه مقترحات بخصوص جدول الأعمال، الذي لم يتأخر في طرحها (الرسالة رقم 1)، حيث حددها في الوحدة في كل الميادين وانشاء هيئة أركان وطنية موحدة ودعوة كل القادة وأن كل من يرفضها يعتبر خارجا عن الصف، واحترام حدود المناطق، وتنظيم انتقال القادة والجنود من منطقة إلى أخرى. وفي رده على هذه المقترحات بتاريخ 5 جوان 1956، ذكّر بلقاسم كريم عُمار بن بولعيد بوجود مجلس ثورة (يقصد هنا ربما لجنة الستة أو التسعة) كان قد حدد الأهداف ووضع البرنامج وعقد الميثاق، حيث اعتبر الأخ مصطفى بن بولعيد أحد أعضائه. وبناء على هذا الميثاق، أعطى بلقاسم كريم موافقته على عقد مؤتمر يجمع كل القادة الرئيسيين الممثلين للجزائر حاليا. وقال كريم بأن وحدة جيش التحرير الوطني كانت ولا زالت موجودة وإنما اتبعنا نظام لا مركزي تماشيا مع متطلبات المرحلة وحان الآن الوقت للاجتماع لوضع استراتيجية الدخول في المرحلة الثانية من الكفاح. والأهم في العملية هو تكفل المنطقة الأولى/الأوراس والثانية/القبائل بتنظيم المؤتمر وذلك بدعوة كل بقية قادة الجزائر لهذا الاجتماع الذي سيعقد يوم 30 جويلية 1956 وبأن كل قائد يغيب عن الاجتماع سيعتبر معاديا لوحدة البلاد.
بالموازاة مع تحضيرات المؤتمر الذي شرعت فيه قيادة المنطقة الثانية/الشمال القسنطيني والمنطقة الرابعة/الجزائر، تبنت قيادة المنطقة الثالثة/القبائل مقترح عُمار بن بولعيد باسم القيادة العليا لجيش التحرير الوطني بالأوراس، وشرعا في تنظيم الاجتماع سوية وبرمجته يوم 30 جويلية 1956 بناحية تتوسط معظم المناطق الوطنية غير بعيد عن الأخضرية (Palestro) وبحسب الشهادات (حسين بن معلم) جرى اختيار قلعة بني عباس كمكان للاجتماع، ولهذا تقرر توجيه الدعوات باسم المنطقة الأولى/الأوراس والثالثة/القبائل لمختلف القادة للمشاركة في المؤتمر، على أن يقود عميروش آيت حمودة الوفود إلى مكان انعقاد المؤتمر.
عُمار بن بولعيد يطلب تأجيل المؤتمر إلى يوم 20 أوت 1956
شرع بلقاسم كريم بلقاسم وعُمار بن بولعيد في توجيه دعوات المشاركة في اجتماع 30 جويلية 1956. وفي هذا الإطار تشير الرسائل إلى تلقي قيادة الشمال القسنطيني لدعوة المشاركة من بلقاسم كريم، رد عليها لخضر بن طوبال نيابة عن يوسف زيغود بالإيجاب، كما أُرسلت دعوة إلى مدور عزوي ول 22 قائد أوراسي آخرين للمشاركة أيضا ممضاة من طرف بلقاسم كريم، وتلقى السعيد محمدي «سي ناصر» نائب بلقاسم كريم في قيادة المنطقة الثالثة/القبائل دعوة موقعة من طرف عُمار بن بولعيد باسم القيادة العليا لجيش التحرير الوطني بالأوراس. تدل هذه الرسائل على التنظيم المشترك للمؤتمر بين منطقة الأوراس ومنطقة القبائل وتوجيه دعوات لكل القادة باسم المنطقتين. لكن يبدو أن الوفد الخارجي لم يكن معنيا بالاجتماع، حيث لا تلمّح الرسائل إلى أي مشاركة خارجية، واكتفت بقادة الثورة في الداخل.
لكن تسارع الأحداث غير من تاريخ ومكان انعقاد المؤتمر بعدما جرى تبني مقترح عُمار بن بولعيد وبلقاسم كريم بدلا من مقترح يوسف زيغود وعبان رمضان بعقده في بوالزعرور بالمنطقة الثانية/الشمال القسنطيني. فالرسالة التي بعث بها عُمار بن بولعيد في 10 جوان 1956 إلى بلقاسم كريم تطالب بتأجيل المؤتمر إلى يوم 20 أوت 1956 والسبب هو «تلقيه لرسالة تفيد بشدة مرض مصطفى بن بولعيد». فهل معنى هذا أن عُمار بن بولعيد لم يكن على علم باستشهاد شقيقه مصطفى في 23 مارس أم أنه تعمد اخفاء ذلك نتيجة الصراعات الداخلية التي عصفت بقيادة المنطقة الأولى/الأوراس-النمامشة ومحاولة استخلاف أخيه عبر بوابة المؤتمر؟ هنا تتوقف المراسلات مع عُمار بن بولعيد في الرصيد الوثائقي الذي استولت عليه القوات الاستعمارية. لكن المؤكد أن تاريخ 20 أوت 1956 هو من اختيار عُمار بولعيد، والذي سيأخذ به بلقاسم كريم لاستكمال تنظيم اللقاء الوطني المرتقب. ويبدو أن أغلب الوفود المشاركة قدمت بناء على الدعوة الأولى أي انعقاد المؤتمر في 30 جويلية 1956، حيث تدل وثائق أمانة قيادة المنطقة الثانية/الشمال القسنطيني مغادرة يوسف زيغود مقر قيادته في بوالزعرور يوم 13 جويلية 1956 للمشاركة في المؤتمر، وبما أن الاجتماع أجل بطلب أوراسي، فقد التزم بلقاسم كريم بالتأجيل في انتظار وصول وفد المنطقة الأولى/الأوراس-النمامشة.
حدث ثان سيغير من مكان انعقاد المؤتمر الذي كان مبرمجا في المنطقة الواقعة بين قلعة بني عباس والأخضرية، هو ضياع وثائق قيادة المنطقة الثالثة/القبائل في كمين تازمالت (23 جويلية 1956) كما ذكرت سابقا واكتشاف السلطات الاستعمارية لمكان انعقاده، وتشديد الطوق العسكري على المنطقة.
إن غياب وفد الأوراس كان اذن مرتبط بمشاكل داخلية خصوصا وأن عُمار بن بولعيد هو الذي اقترح فكرة عقد المؤتمر على بلقاسم كريم، وحدد معه جدول الأعمال وأرسل معه دعوات المشاركة لقادة الثورة، وحضر في الأخير لوحده للمشاركة في أشغال المؤتمر دون بقية القادة، لكنه مُنع من ذلك نظرا لسماع المؤتمرين بالانشقاقات الواقعة في الأوراس وغياب بقية القادة. وتدل المعلومات الواردة في محضر استجواب عاجل عجول عضو الإدارة القيادية للمنطقة الأولى قبل تسليم نفسه للسلطات الاستعمارية بأن عميروش آيت حمودة قال له خلال قدومه للأوراس في شهر سبتمبر 1956 بأنه أخبر عُمار بن بولعيد بمكان الاجتماع وطلب منه تبليغ باقي قادة الأوراس. وتؤكد المعلومات الأمنية بأن عُمار بن بولعيد كان على علم باستشهاد أخيه، لكنه قرر التكتم على الخبر، حتى أن عاجل عجول نفسه صرح لمستوجبيه عدم علمه بالخبر إلا بعد حوالي شهرين من الحادثة.
قيادة الولاية الثانية تدافع عن شرعية المؤتمر وقراراته
إنّ الرسالة الخطية المؤرخة في 12 ديسمبر 1956 (بخط عبد العالي بن بعطوش المدعو سي علاوة مسؤول أمانة الولاية) ممضاة من طرف لخضر بن طوبال باسم مجلس قيادة ولاية الشمال القسنطيني وموجهة إلى أحمد محساس المتواجد بتونس نجد فيها بعض التفاصيل الإضافية المدافعة عن شرعية تمثيل المؤتمر. فبعد ديباجة قصيرة يعبر فيها قادة الشمال القسنطيني عن تفاجئهم بسماعهم خبر انتقاد «الأخ محساس» لتمثيلية «مؤتمر 20 أوت الوطني ما بين المناطق»، ردوا عليه بتوضيح خمس نقاط أساسية بعدما أكدوا بدعوة كل المناطق دون استثناء لهذا المؤتمر الوطني واخبارهم بمكان انعقاده، حتى أن الذين اعتذروا قدموا مبررات بخصوص ذلك:
1- أخبرتنا منطقة النمامشة قبل انعقاد المؤتمر بعدم تمكنها من الحضور بسبب الحضور العسكري الكبير على الطريق المؤدي إلى مكان انعقاد المؤتمر، وبأنها تضع ثقتها في الإخوة الحاضرين في المؤتمر وتعترف بقراراتهم، ولدينا وثيقة بخصوص ذلك في أرشيف المؤتمر.
2- لقد جاء عُمار بن بولعيد لتمثيل منطقة الأوراس مصحوبا برسالة توكيل يقول أنها من أخيه المرحوم (سي مصطفى بن بولعيد)، ولتفادي الاحتجاجات، قرر المؤتمر عدم الاعتراف بتمثيله لمنطقة الأوراس لسببين: الأول وهو أننا أُخبرنا بمشاكل الأوراس وانقسام قادته. إن الاعتراف بعُمار بن بولعيد كممثل لمنطقة الأوراس هو فتح الطريق للاحتجاجات والانتقادات، وأيضا فإننا نعرف أن رسالته التي زعم أنها بخط شقيقه مصطفى بن بولعيد هي مزورة لأننا نعلم أنه توفي منذ فترة طويلة. لهذه الأسباب لم يتم تمثيل منطقة الأوراس.
3- بخصوص رأي محساس بأن المنطقة الخامسة/وهران لم تكن ممثلة، فقد اتهم قادة الولاية الثانية محساس بجهل الواقع على أساس أن محمد العربي بن مهيدي قد عينّ مسؤولا على هذه المنطقة قبل اندلاع الثورة وبالضبط منذ اجتماع لجنة 22، حيث قام بمهمته على أكمل وأحسن وجه في ظروف صعبة جدا، وعلى هذا الأساس فهو ممثل هذه المنطقة خلال المؤتمر.
4- بالنسبة لمنطقة سوق اهراس، لقد كتبوا لنا بأنهم لا يمكنهم المشاركة في الأشغال بسبب التواجد العسكري المكثف على طول الطريق، وأبدوا موافقتهم على قرارات المؤتمر كما تشهد على ذلك الرسالة التي بحوزتنا. فضلا على أن منطقة سوق اهراس هي من الناحية الجغرافية والتاريخية تتبع ولاية الشمال القسنطيني، وبالتالي فهي ممثلة بنا.
5- بالنسبة للتمثيل الخارجي، أنتم من يتوجب عليه اعطاء تفسير لذلك.
وفي الأخير طلب مجلس قيادة الولاية الثانية من أحمد محساس التوقف عن إثارة الانقسامات وحملات رفض قرارات المؤتمر لأنها ستؤدي إلى الفوضى بعدما نجح المؤتمر في توحيد الهياكل القيادية.
إن الوثائق المعروضة تبين اذن أن فكرة تنظيم المؤتمر الوطني خلال عام 1956 لم تكن من رمضان عبان وانما من يوسف زيغود وربما أيضا مصطفى بن بولعيد بعدما نقلها شقيقه عُمار إلى بلقاسم كريم، وبالتالي فربط المؤتمر بشخص رمضان عبان فيه مبالغة رغم الدور الكبير الذي لعبه هذا الأخير نتيجة خبرته الإدارية ومستواه الثقافي وأصالة نضاله، والدليل أنه ترأس جلسات اليوم الأول فقط فيما تولى محمد العربي بن مهيدي رئاسة جلسات اليوم الثاني وبلقاسم كريم جلسات اليوم الثالث. إن المؤتمر اذن هو نتاج تعاون كل المناطق الثورية بما في ذلك منطقة الأوراس ممثلة في عُمار بن بولعيد الذي لعب دورا كبيرا في التحضير له رغم عائق الخلافات الداخلية التي لم يسمح لقيادة المنطقة الأولى/الأوراس-النمامشة بالمشاركة في الأشغال. وبالتالي فإن مؤتمر 20 أوت -المعروف بالصومام نتيجة انعقاده في ايفري أوزلاﭬن قرب وادي الصومام- فهو كما أشار لخضر بن طوبال يشكل أحد أهم انتصارات الثورة في عاميها الأولين، وفتح مرحلة جديدة من عمر الكفاح الثوري رغم بعض ما أحدثه من بروز صراعات قيادية مع الوفد الخارجي الممثل بأحمد بن بلة وأحمد محساس بعدما وجد نفسيهما ككل قادة الوفد الخارجي خارج أعلى هيئة قيادية في الثورة وهي لجنة التنسيق والتنفيذ خصوصا مع دخول أعضاء سابقين من اللجنة المركزية إلى هذه الهياكل القيادية وهم الذين لم يكونوا من مفجري الثورة.