* قضت 35 سنة في التمريض بتكوت في باتنة
يطلق عليها اسم الزهرة الألمانية لأصولها، لكنها في واقع الأمر جزائرية حد النخاع بعد أن آمنت بنضال شعب نهض ضد الظلم والقهر يوم الفاتح من نوفمبر 1954... إنها فاندنابل ليوتين جراردة الألمانية، ذات الأصول البلجيكية، هي امرأة عاشت قصة حب مع زوجها المجاهد محمد ضحوة في فرنسا، أين وقفت إلى جانبه لنصرة القضية الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، إيمانا منها بعدالة القضية... حبها لزوجها لم تنطفئ شعلته يوما خاصة بعد أن تم نفيه من فرنسا إلى الجزائر، حيث لحقت به والتحقت معه بالعمل المسلح بجبال الأوراس، وواصلت العيش بعد الاستقلال بالجزائر، متخذة من بلدة تكوت في أعالي الأوراس، مستقرا لها رفقة زوجها وأولادها، أين ألفت وأحبت سكان المنطقة وبادلوها المحبة.
عاشت قصة حب مع الجزائري ضحوة وعملت معه في نقل السلاح بفرنسا
نزلت «النصر» ضيفة على المجاهدة الزهرة الألمانية ببيتها ، في بلدة تكوت بأعالي جبال الأوراس جنوب ولاية باتنة، وقد فتحت لنا بيتها رفقة زوجها المجاهد محمد ضحوة للحديث معهما واسترجاع ذكريات النضال والجهاد والمحبة التي جمعتهما وكسرت كل القيود، بعد 59 سنة من نيل الجزائر لاستقلالها، وقبل أن نتوجه إلى بيت الزهرة الألمانية قمنا بجولة بمدينة تكوت، وكلما سألنا شخصا عنها إلا وابتسم وقال من لا يعرف الزهرة الألمانية، فالكل يحبها وهي الانطباعات التي سألنا الزهرة وزوجها في حديثنا معهما عن رأيهما، فقالت الزهرة «أجد ذلك طبيعيا كيف لا وأنا التي أعيش هنا منذ الثورة، فقد وجدت نفسي محبة لجَو تكوت ولأهلها الطيبين» وأضافت الزهرة بأنها بعد الاستقلال سخرت نفسها لخدمة سكان القرى والمداشر تقدم لهم خدمات صحية».
شاءت الأقدار يقول المجاهد محمد ضحوة، أن يتعرف على جيرارد قبل أن تتحول فيما بعد إلى الزهرة خلال مهمات عمله في نقل وتهريب السلاح عبر الحدود بين فرنسا وبلجيكا وألمانيا كونه كان مناضلا في صفوف جبهة التحرير، بالمهجر في شمال فرنسا، وتحديدا بضاحية «توركوا» وقد نشأت بينهما قصة حب ،وأصبحت الزهرة مرافقته في مهمات العمل تساعده على جلب ونقل السلاح كونها أوروبية لا تثير الانتباه، وهو ما ساعده في نقل السلاح، وقال إنه عند بلوغه للحدود يتم تفتيشه تفتيشا دقيقا في المركبة والملابس في حين كانت هي بصفتها أوروبية لا تخضع للتفتيش، وكان يقال لها من طرف أعوان حراس الحدود في كل مرة «إن كان لديك سيدتي شيء لتصرحي به « لتمر بعدها وهي محملة بالأسلحة، ليلتقيا فيما بعد حسب الوجهة التي يحددها ضحوة.
وفي سؤالنا للمجاهدة عن الدافع الذي جعلها تساعد زوجها، في مهمات نقل السلاح بالخارج قبل أن تلتحق فيما بعد بالثورة التحريرية في الداخل بجبال الأوراس، فأجابت بأنها عاشت إلى جانب الجزائريين، وأحست بمعاناتهم وبما يتعرضون له من ظلم وقهر، وأدركت عدالة قضيتهم، وفي الوقت نفسه أحست بقوة الإرادة لديهم لنيل الاستقلال، وأضافت بأنها كانت أيضا تؤمن بنيل الجزائر لاستقلالها يوما ما.
لحقت بزوجها بعد نفيه من فرنسا والتحقت معه بجبال كيمل
وكشف عمي ضحوة عن تسهيل زوجته الزهرة لمهامه كثيرا في نقل وتحويل السلاح، قبل أن يتم التفطن لأمره بعد العثور في إحدى المرات على قطع سلاح بصندوق سيارته، بعد تفتيشه، وهي الواقعة التي أحدثت منحى في اتجاه حياته رفقة زوجته الزهرة حيث تعرض عقبها لأشد أنواع التعذيب، للإقرار بمصدر ووجهة الأسلحة وقال بأنه ظل يحفظ السر نافيا علمه بتواجد أسلحة في مركبته ليتقرر بعده نفيه إلى الجزائر، وبإعادته إلى أرض الوطن في أواخر سنة 1959 فرَ من السجن والتحق بالثورة المسلحة بمنطقة كيمل بالأوراس.
وكانت المفاجأة كبيرة عند المجاهد ضحوة عندما بلغه خبر من أهله بعين الناقة بأن زوجته الألمانية، قد حلت عندهم قادمة من فرنسا تبحث عنه، عندها قرر التنقل من كيمل بعد أن طلب ترخيصا من سي عمر دبابي لإحضار زوجته من بيت أهله بعين الناقة، وقال عمي ضحوة محمد بأنه فعلا أخذ الضوء الأخضر وبصحبته ثلاثة مجاهدين كانوا كلهم مسلحين، وبوصوله إلى عين الناقة يقول إنه أراد أن يفاجأ زوجته فاختبأ وطرق الباب، وقال لها بأنني «ميلو» (كنيته بفرنسا)، وقال بأنها لم تصدق لأن ما تعرفه من أهله أنه متواجد في السجن ولم تعلم بفراره ليعانقا بعضهما بعد الفراق.
بعد التقاء الزهرة الألمانية بزوجها مجددا بعين الناقة، التحقت معه بمركز المجاهدين بكيمل وهناك ظلت معه أحد عشر شهرا بكازمة قصر الرومية تولت خلالها مهمة التمريض، كونها كانت ممرضة وقد قدمت الخدمات للمجاهدين رفقة ممرضة أخرى تدعى نادية القبايلية، التي قالت الزهرة بأن أخبارها انقطعت عنها بعد افتراقهما عشية الاستقلال.
وكان الحديث إلى الزهرة وزوجها شيقا وممتعا، فالزوجان يتمتعان بروح الدعابة حتى أننا عندما سألنا المجاهد عمي ضحوة ما إن كان ينتظر أن تلتحق به زوجته الزهرة إلى الجزائر، وتحديدا إلى مسكنه العائلي بعين الناقة ببسكرة بعد نفيه من فرنسا، فراح يثير غيرتها وعندما قلنا له ماذا تعني لك الزهرة فأجاب ببساطة «ماذا ستعني لي وهي التي عاشت معي في السراء والضراء وفي الخير والشر ولم تفارقني»، «ربي يسمحلها»، وهو ما أكدته أيضا الزهرة تجاه زوجها.
وأضاف عمي ضحوة وهو يتحدث عن زوجته الزهرة، محاولا إثارة غيرتها بأنها تمثل عينه اليمنى وهنا تدخلت الزهرة منزعجة، وقالت «كيف ذلك؟ وأنت تمتلك عينين» فراح يضحك وقال لها: "أنت عيني التي أصوب بها بالسلاح"، وبحديثنا إلى الزهرة الألمانية يبدو جليا أن لكنة الكلام عندها لاتزال ذات مخارج حروف ألمانية، لكنها تتكلم العامية وتفهم الشاوية وقالت بأن مخارج الحروف جعلها تجد صعوبة في قراءة القرآن عند الصلاة، وأضافت بأنها تحفظ الفاتحة جيدا وقد أهداها ابنها عبد السلام، وهي الأم لخمسة أولاد والجدة لـ22 حفيدا، كتابا مترجما لمعاني القرآن من العربية إلى الفرنسية.
وعادت بنا الزهرة صاحبة 82 سنة، على الرغم من معاناتها من وعكة صحية، إلى محطات هامة عاشتها في حياتها وهي التي قررت أن تواصل العيش إلى جانب زوجها، بعد أن هجرت من فرنسا بحثا عنه في الجزائر، عقب نفيه حيث كانت قد نطقت بالشهادتين معلنة دخولها الإسلام سنة 1964 فكانت أول أجنبية تدخل الإسلام بقطاع دائرة أريس القديمة، وقالت بأنها اقتنعت بتعاليم الدين الإسلامي من محيطها عندما تشاهد النسوة يصلين، فأصبحت تصلي وتصوم.
وتقول الزهرة، بأنها فضلت العيش بتكوت لأنها تشعر براحة فيها ووسط أهلها الذين ظلت تخدمهم طيلة 35 سنة، حيث أشار زوجها إلى تنقلهما بعد الاستقلال بين المداشر من شناورة وتاغيت وغسيرة وغيرها، ويقول بأن حبها من طرف أهل تكوت نظير خدماتها طيلة 35 سنة في الصحة، جعل أحدهم يعبر له عن ذلك بالشاوية قائلا» الزهرة ولاش منهو أوذيسويش أغي نس» «الزهرة لا يوجد من لا يشرب من حليبها»، ويؤكد في هذا السياق مرافقنا رئيس جمعية كافل اليتيم، بأن الزهرة في طفولته أقنعته بأخذ التطعيم.
الطاهر زبيري ذرف الدموع عندما قالت له بأنها لم تهاجر بعد الاستقلال لأن الجزائر وطنها
يتذكر المجاهد عمي ضحوة زوج الزهرة الألمانية، ونحن نخوض معه في ذكريات الماضي أن زوجته وخلال مناسبة تاريخية بمنطقة نارة أين استشهد مصطفى بن بولعيد، التقت بالمجاهد سي طاهر الزبيري الذي تفاجأ برؤيتها وسألها كيف لم تعد إلى بلدها بعد الاستقلال، فكانت إجابتها بأنها لم ترحل لأن الجزائر وطنها، وهنا كان سي الزبيري يضيف ضحوة قد ذرف الدموع من شدة التأثر بمدى حب وتعلق الزهرة بالجزائر، بعد أن شاركت في تحريرها.
ويقول المجاهد ضحوة وهو متأسف لتصدر أشخاص وصفهم بالانتهازيين للمشهد في المناسبات التاريخية دون أن يستحقوا ذلك، بأن ما قدمه وزوجته كان خالص النية فداء للوطن وهنا تتدخل زوجته الزهرة، وتؤكد بأنها تلقت عروضا في عديد المرات لكنها تقول بأنها ترفض أن تأخذ شيء لا تستحقه شاكرة مبادرات الالتفات إليها من السلطات العليا في عدة مناسبات، وقد آثرت في إحدى المرات أن يتم الاهتمام بأرامل وأيتام ضحايا السليكوز.
وبالنسبة للزهرة الألمانية فهي تطلب بعد مرور 59 سنة عن استقلال الجزائر، أن يديم الله أمنها واستقرارها ويحفظ جيشها الذي يسهر على حماية حدود الوطن، وترى بأن السنين باتت تمر بسرعة بعد أن عاشت أوقاتا عصيبة وظروفا صعبة قبل الاستقلال، وتعتبر أن ما قد نحسه بمرور السنين بسرعة راجع للأمن والاستقرار الذي تعيشه الجزائر.
عمي ضحوة صاحب 86 سنة من العمر يعاني من المرض منذ أزيد من عشر سنوات، بعد أن أصبح غير قادر على التنقل، يؤكد بأن ما قدمه وزوجته للوطن كان بخالص الحب للجزائر، ويكفيه أنه عاش لحظات الاستقلال التي قال بأنها لا تنسى ولا تمحى من ذاكرته حيث يتذكر نزوله وزوجته التي كانت حبلى بابنتهما الأولى، وقد تم استقبالهما بالتهاني والعناق، ويتذكر أن الشعب أطلق عليهم بالشاوية تسمية «إفراخ نلجنث» أي «عصافير الجنة».
أجرى اللقاء: يـاسين عبوبو