يتحدث المجاهد إبراهيم رأس العين، الذي تقلّد عدة مسؤوليات في الولاية التاريخية الثانية، عن ضرورة تدريس تاريخ الثورة للأجيال الجديدة، ويدعو إلى تسليط الضوء على أرشيف ثورة التحرير الموجود بالجزائر لأنه يؤرخ لمختلف نشاطات الثورة من خلال تقارير مفصلة دورية تم فيها تدوين كل صغيرة وكبيرة ، ويرى أن أهمية هذه الوثائق تفوق أهمية الوثائق الموجودة في فرنسا، كما يعود بنا البرلماني السابق، في لقاء خصّ به النصر، إلى بعض المعارك التي شارك فيها لينقل صوّرا عن بسالة الثوار في مواجهة عدو كان يحاصرهم برا و جوا.
المجاهد رأس العين من مواليد سنة 1935 بفرجيوة، حيث درس بمسقط رأسه في ميلة ثم انتقل إلى معهد الكتاني بقسنطينة الذي نال منه شهادة الأهلية، ليسافر في 1953 لجامعة الزيتونة بتونس والتي قضى بها سنتين ثم انقطع عن الدراسة للالتحاق بصفوف الثورة التحريرية، التي تقلد بها عدة مسؤوليات بالولاية التاريخية الثانية، إلى أن ألقي عليه القبض أواخر سنة 1960 في معركة صعبة مع الجنود الفرنسيين، حيث تم إطلاق سراحه بعد وقف القتال.
وعن كيفية التحاقه بالثورة وهو الذي كان طالبا بجامعة الزيتونة، ذكر السيد رأس العين في حديثه للنصر، أنه كان قد بلغه وزملاؤه بينما كانوا يدرسون بتونس، اندلاع الثورة، فقرروا المشاركة في تحرير الجزائر، لينضم إلى صفوف جيش التحرير الوطني سنة 1955 بعدما قرر الانقطاع عن الدراسة.
الطلبة التحقوا بالثورة قبل 19ماي
ويضيف المجاهد أن الكثير من الجزائريين يعتقدون خطأ، بأن الطلبة التحقوا بالثورة في 19 ماي 1956، وهو اعتقاد فيه «إجحاف كبير» لأن العديد منهم فعلوا ذلك منذ الفاتح نوفمبر 1954 و منذ 1955، مقدما كأمثلة على ذلك، هواري بومدين، علي كافي ورابح بلوصيف.
وقد بدأت رحلة الشاب المجاهد في محاربة المستعمر، من خلال جمع السلاح لفائدة الثوار ليلا، قبل أن يحمل هو السلاح في نوفمبر 1955، ففي منتصف هذا الشهر زار الثوار منزلهم العائلي بمشتة «معروفة» بميلة، و دار حديث حول ثورة التحرير و ضرورة تجند كل أبنائها لأجل تحقيق هذا الهدف، حيث أعجب المجاهدون به وكلفوه بجمع الاشتراكات للثورة وهي مهمة بدأها في جانفي 1956، ليتدرج في تقلد المسؤوليات إلى أن صار عضوا بالناحية.
ويعود بنا المجاهد إلى إحدى أهم المعارك التي كان شاهدا عليها، في أفريل 1957، حيث كان حينها مع مجموعة من المجاهدين بمنطقة الشيقارة، وبلغ مسامعهم إشاعة أطلقها المستعمر، بأن جنوده يستعدون لتنفيذ عملية تمشيط كبرى في مشاتي باينان والشيقارة، ليتقرر تقسيم المجاهدين إلى أفواج كل منها تضم جنديا أو اثنين، ويرابطوا في جبل مسيد عيشة بأعالي مدينة القرارم.
هكذا استشهد رفقائي داخل مغارة “كاف سما”
بالمقابل، كان العدو قد خطط لتمشيط هذا الجبل، ففوجئ الثوار بإنزال جوي فرنسي قوامه أكثر من 100 طائرة نزل من العديد منها جنود المستعمر، فوقعت اشتباكات وتم إطلاق قنابل في معركة شرسة تمكن المجاهدون من الصمود خلالها، وكانوا يلجأون إلى إعطاء تعليمات في ما بينهم بأصوات مرتفعة ليعتقد العدو أن عددهم كبير فأرهبوه واستطاعوا الانسحاب.
وفي خضم هذه المعركة القاسية، لجأت مجموعة من المجاهدين إلى الاحتماء بمغارة كبيرة تسمى «غار كاف السما»، لكن أحدهم خرج في اليوم الموالي معتقدا أن عساكر العدو انسحبت، فتم القبض عليه ويعترف تحت التعذيب بمكان رفقائه، ليأتي جنود الاستعمار مزودين بغازات قاموا بنفثها لدفع المجاهدين على الاستسلام، لكنهم رفضوا ذلك واستطاعوا المقاومة بسبب وجود ينابيع مائية داخل المغارة.
وتحت هذا الحصار كان المجاهدون يقتاتون على ما كان بحوزتهم من "طمينة وسكر وزيت"، لكن طول المدة جعلهم يموتون جوعا، باستثناء ثلاثة منهم صنعوا “معجزة” من خلال شق الجدار باستعمال حراب الأسلحة وتمكنوا من التسلل إلى خارج المغارة دون أن يكتشف العدو أمرهم.
قتلنا 100 جندي فرنسي في معركة جبال الحلفاء
كما يستذكر المجاهد رأس العين معركة أخرى شارك فيها، حيث وقعت في الفترة ذاتها يومي 27 و 28 أفريل من سنة 1957، وهي معركة جبال الحلفاء، التي دارت بمنطقة توجد في أعالي بلدية لعياضي برباس والتي تقع حاليا بين ولايتي ميلة وسطيف، فقد كانت معبرا لقوافل جيش التحرير الوطني الآتية بالسلاح من تونس، و من بينها كتيبة بوطالب التي كان العدو يتتبع أثرها، إذ وبمجرد دخولها منطقة تسدان حدادة أطلق المستعمر إشاعات بأنه سينفذ عمليات تمشيط بالمكان.
وعلى إثر ذلك تقرر صعود أفراد الكتيبة الذين يصل عددهم إلى 105، لجبال الحلفاء، والتحق بهم مجاهدون ومسبلون ليفوق عددهم مجتمعين 340 فردا، بعدما رتّبوا أمورهم بدقة، وهناك بدأت معركة طاحنة يتحدث عنها المجاهد بتأثر قائلا «كان يوما مشهودا ومعركة من أكبر المعارك، لقد استشهد فيها 39 مجاهدا وقتل 100 جندي فرنسي، كما تم إسقاط طائرتين محرك إحداهما موجود لليوم في البلدية”.
ويصف المجاهد رأس العين بسالة المجاهدين في مواجهة العدو الذي نزح من عدة نقاط مستعملا طائرات مقاتلة وعمودية ومروحيات وطائرات الدعم والاستطلاع ومدفعية الميدان، لكن الثوار استطاعوا الصمود وكانوا يعلمون أنهم بين اختيارين، إما النصر أو الاستشهاد.
ويضيف رأس العين أنه دخل في اشتباك مع عساكر العدو دام لساعتين ونصف تقريبا، وكان إطلاق الرصاص لا ينقطع وسط دوي الطائرات، لكن المجاهدين استماتوا في مواجهة جنود المستعمر وأسقطوا العشرات منهم.
ويستذكر محدثنا لقاءه بالمجاهدتين مريم بوعتورة ومسيكة زيزة، عند زيارتهما مركز جبال الحلفاء، أين ظلتا هناك لحوالي أسبوع وكانتا قد التحقتا للتو بصفوف الثورة، حيث جمع في إحدى الليالي الجنود ومسؤولي المركز وخطب فيهم حول شجاعة المرأة الجزائرية التي تركت منزلها لتتنقل بين الجبال للمشاركة في تحرير بلادها، وهي كلمة نالت إعجاب مسيكة زيزة التي أهدته قلما صنع جزء منه من الذهب.
«تم أسري بسبب وشاية واعتقدت أنني سأستشهد»
ويحدثنا المجاهد أيضا، أن أسره يوم 21 أكتوبر 1960، حيث قال إنه وقع بين أيدي العدو بعد وشاية من أحد الخونة، بينما كان رفقة الدركيّيْن السبتي حنوفة و الدراجي حريش داخل مخبأ "كازما" يقع بإحدى شعاب دشرة الربع بدوار راس فرجيوة، حيث اجتاحت شاحنات الاستعمار المكان فجأة وما هي إلا دقائق حتى كان العساكر فوق المخبأ، ليخرج منه حاملا رشاشا أطلق منه الرصاص دون توقف ثم رمى قنبلتين على يمين و يسار "الكازما"، ما ساعد ثلاثتهم على الهروب نحو المنحدر.
ولأن إبراهيم رأس العين كان يرتدي وقتها لباسا عسكريا على خلاف الدركيين، فقد ركز العساكر عليه وظلوا يلاحقونه وهو يسقط أرضا ثم ينهض، وهنا شعر المجاهد أنه لا مفر من الاستشهاد، وقرر ألا يُقبَض عليه حيا فظل يطلق النار واقفا في جميع الاتجاهات وهو محاصر، إلا أن أصيب بالرصاص في كتفه الأيمن وسقط أرضا، حيث استفاق وهو بمفرده بإحدى الزنزانات المظلمة بسجن فج مزالة.
فرنسا تحايلت على الصليب الأحمر حول وضع السجناء
وبقي المجاهد الجريح وسط هذه الظروف القاسية، إلى أن مر شهران، عندما تفاجأ بالحراس يخرجونه ويلبسونه ثيابا جديدة، حيث أخذوه إلى معتقل الملاحة بعنابة، وعلم بعدها أن السبب هو تظاهر فرنسا بأنها تعامل المساجين بإنسانية أمام لجنة من الصليب الأحمر الدولي التي زارت السجن في ذلك الوقت.
و في منفى عنابة، لم يسلم المجاهد الشاب من استبداد سجانيه، فقد تم إدخاله زنزانة انفرادية مرة أخرى بعدما علمت إدارة المعتقل بأنه يُدرِّس الأسرى الجزائريين التاريخ، وهي خطوة دفعت بالمساجين إلى الإضراب والمطالبة بإخراجه، ليتم الامتثال لمطلبهم ويستقبل المجاهد بالأحضان.
ولم يستسلم الأسير لهذا الوضع، فقد قرر مع 4 رفقاء له الفرار للالتحاق بالثورة التحريرية، فبدأوا في حفر خندق انطلق من مكان وضع الموقد داخل المطبخ، وكانوا يقومون بالحفر ليلا حتى لا يتم التفطن إليهم، لكن أحدهم أصيب بحالة ارتباك وكاد يكشف أمرهم، فقرروا التوقف عن هذه المحاولة.ءس
وفي صائفة 1961، اختار العدو مجموعة من «العُصاة» ومن بينهم المجاهد رأس العين، حيث أخِذوا على متن شاحنة مغطاة بالكامل وقطعوا مسافة كبيرة، دون أن يعلموا إلى أين هم متجهون، ليتم إدخال كل واحد منهم إلى زنزانات مظلمة افترشوا فيها الأرض وسط ظروف جد قاسية، فانقطعوا عن العالم الخارجي ولم يعلموا بأنهم في معتقل قصر الطير بسطيف إلا بعد مدة، عندما تم إلحاقهم بباقي السجناء.
محاولة فرار فاشلة من معتقل قصر الطير
ويخبرنا المجاهد عن الدور الذي لعبته زوجته في دعمه وكيف تتبعها العدو وهي ما تزال عروسا، بحيث اقترن بها في فيفري 1960 أي قبل 8 أشهر فقط من أسره، حتى أن جيرانها اضطروا في إحدى المرات. لتمويهها عبر تلطيخ وجهها وإعارتها لباسا بالٍ، حتى لا تُعرَف هويتها.
و رغم أن اتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين الجزائر وفرنسا في 19 مارس 1962، ينص على الإفراج عن أسرى الجانبين في ظرف لا يتعدى 20 يوما، إلا أن المجاهد ظل مسجونا، مثلما أخبرنا، وهو ما جعله يبعث برسالة طويلة للمسؤولين في الثورة، تمت قراءتها في إذاعة صوت الجزائر من تونس، ما ساعد على الإفراج عنه في 26 جوان، أي قبل أقل من 10 أيام من الإعلان عن استقلال الجزائر.
وعن يوم الاستقلال الذي عايشه المجاهد رفقة باقي الجزائريين آنذاك، يتابع قائلا وقد اغرورقت عيناه بالدموع "لقد عاشت الجزائر قبل هذا التاريخ ضغطا ومحنة كبيرة تركت شهداء ويتامى وحالة فقر. لقد حدث يومها انفجار لا مثيل له للأفراح، فقسنطينة شهدت فيضانا بشريا، حيث قدم إليها الجزائريون من كل جهة.. كان أمرا لا يمكن تصوره أو وصفه".
وبعدما تطرق إلى الأهمية التي اكتساها مؤتمر الصومام المنعقد في 20 أوت 1956، في تحديد المسؤوليات وتقسيم الولايات، أكد المجاهد أنه ينبغي إعطاء أهمية أكبر ليوم 19 مارس 1962 الذي أعلن فيه عن وقف إطلاق النار، وقال "إن أهميته قد تكون أكبر من تاريخ 5 جويلية الذي يتم المرور عليه وكأن الاستقلال قدم لنا كهدية".
هكذا يجب تدريس الثورة الجزائرية
وأضاف رأس العين للنصر، أن الجزائر بذلت جهدا كبيرا لاسترجاع الأرشيف الاستعماري من فرنسا، قبل أن يتساءل «لكن أين هو أرشيف الجزائر؟»، حيث خص بالذكر الفترة التي بدأت منذ مؤتمر الصومام الذي حدد التنظيم الجغرافي للبلاد وتقسيم جيش التحرير الوطني وعدد مسؤولي المخابرات و الاتصال وغيرهم.
وأكد محدثنا أن التقارير كانت ترسل بانتظام ونهاية كل شهر، من مسؤولي المشتة إلى مسؤول الدوار ثم القسم والناحية والمنطقة لتصل في الأخير إلى مسؤولي الولاية و تقدم للحكومة المؤقتة، حيث تتضمن كل ما حدث سواء تعلق الأمر بالعمليات العسكرية أو تحركات الجيش والتبليغ عن الخونة وتحديد قوائم المجاهدين وغير ذلك، يقول المجاهد ثم يستطرد "السؤال المطروح، من تسبب في إتلاف أو إخفاء هذا الأرشيف، يجب على الأقل فتح تحقيقات ليعتمد عليه المؤخرون، فأرشيف فرنسا لا يكفي".
كما يرى المتحدث أن "تاريخ الجزائر لم يكتب كما ينبغي"، ويترجم ذلك، حسبه، من خلال عدد شهداء الثورة التحريرية الذي هناك من يقول إنه مليون، بينما يقول آخرون بأنه مليون ونصف، في حين أن وجود الأرشيف كان ليجعل الأمور أكثر وضوحا، مشددا على أهمية الأمانة في كتابة التاريخ وتجنب المبالغة.
ويتأسف المجاهد لعدم تدريس الثورة الجزائرية للتلاميذ كما ينبغي، وفق وصفه، حيث يستغرب كيف لتلميذ يدرس في الطور الثانوي، ألا يعرف شيئا عن مؤتمر الصومام، مقترحا إقرار مادة أو حصة تدرس كل أسبوع حول الثورة. ياسمين بوالجدري