السطو على تراث الجزائر.. مؤامرة ثقافية بأبعاد سياسية
تحول التراث الجزائري غير المادي من موسيقى وحرف وعادات و أطباق وغيرها، إلى كنز ينهبه لصوص الحضارة بشتى الطرق، وفي كل المناسبات على المستويين الشعبي والرسمي، وهو ما يستدعي، حسب باحثين وإعلاميين وناشطين في المجال، تدعيم الجبهة الداخلية بالمصادر والبحوث وتوحيد الطرح رسميا، مع تكثيف مبادرات تصنيف التراث على مستوى الهيئات الدولية، لأن كل المعطيات تشير إلى أننا في مواجهة مؤامرة سياسية بتوابل ثقافية، في ظل سعي المخزن لتبني الهوية المغاربية منذ سنة 2019، والإصرار على استفزاز الجزائر ثقافيا بغرض تأجيج فتيل حرب هوياتية ثقافية سياسية.
إعداد: هدى طابي
أعادت الجزائر منذ مدة، ترتيب أولوياتها في ما يتعلق بحماية التراث، خصوصا بعد تكرار الاعتداءات على الهوية الثقافية الجزائرية وفضيحة معرض «إكسبو» دبي الأخيرة عندما تم عرض صور نساء أولاد نايل على أنها لنساء مغربيات، حيث أعلنت وزيرة الثقافة الدكتورة صورية مولوجي، عن مشروع يتعلق بإنشاء متحف وطني لتثمين التراث الثقافي غير المادي.
كما نصبت الوزيرة فوج عمل لمتابعة ملف التراث الثقافي غير المادي على المستوى المركزي، مع تقييم مدى تقدم الملفات المرشحة للتصنيف كتراث عالمي لدى منظمة اليونيسكو، على غرار ملف الراي المتواجد في مرحلة التقييم بهيئة اليونيسكو، والمرجح أن يتم الفصل فيه خلال شهر ديسمبر القادم، وكذا ملفي المدّاحات و»التقطار» المتواجدين في القائمة الاحتياطية، ناهيك عن الملف العربي المشترك الخاص بالنقش على المعادن، والذي ينتظر أن يناقش نهاية شهر مارس الجاري على مستوى ذات الهيئة.
و كانت الوزيرة، قد شددت في مواعيد سابقة على ضرورة الإسراع في إعداد ملف اللباس التقليدي، وإنشاء لجنة وطنية استشارية متعددة القطاعات، لحماية وحفظ التراث غير المادي، تضم باحثين ومختصين في المجال وممثلين عن المؤسسات تحت الوصاية، إضافة إلى قطاعات وزارية عديدة، كما انطلق العمل، بناء على تعليماتها، لإعداد أرضية رقمية وقاعدة بيانات خاصة بالتراث الثقافي غير المادي.
سرقات برعاية لوبي ثقافي سياسي
وقد أثارت صورة فتاة نايلية عرضت في إكسبو دبي قبل مدة، ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والسبب أنها ليست أول حلقة ضمن سلسلة سرقات يتعرض لها التراث الجزائري غير المادي، فالصورة لم تعرض في الجناح الأصلي لها، بل قدمت على أنها لفتاة ترتدي زيا تقليديا يخص الجارة الغربية، التي باتت تحترف السطو على كل ما هو جزائري. وبعد محاولة سرقة موسيقى الراي، تجرأ الجيران على تبني طبق الكسكسي وقبلها تقدموا بملف للسطو على الفنتازيا والعلاوي، ثم استولوا على الخط العربي، وصولا إلى معركة الحلويات التقليدية والألبسة، التي لا تزال مستعرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
* رئيسة الجمعية الوطنية «تراث جزائرنا» فايزة رياش
لا بـد مـن تجريـــم البيـــع الإلكتــروني للألبسـة التقليديـــة والقطـع الإثنوغرافيـــــة
أكدت أستاذة الإعلام و رئيسة الجمعية الوطنية «تراث جزائرنا» و العضو بالمرصد الوطني للمجتمع المدني، فايزة رياش، بأن التراث الجزائري كان ولا يزال مستهدفا، سواء من قبل الجيران، أو خلال 132 سنة من الاستعمار الفرنسي، الذي حاول طمس الهوية الجزائرية و تغيير لباس المرأة و العادات و التقاليد، لكنه استطاع الصمود رغم كل الظروف.
وتضيف الأستاذة أن المعطيات الراهنة، توجب علينا تجاوز دور الضحية إلى المبادرة بالاقتراح والدفاع عن التراث، وهي مهمة تتطلب مساهمة الإعلام ناهيك عن العمل الجدي قطاعيا، لوضع ملفات ثقيلة وكاملة على مستوى اليونيسكو، تكون مدعومة بالجانب التأريخي البحثي للعناصر التراثية.
حسب المتحدثة، فإن الإعلام المتخصص يجب أن يرافق وزارة الثقافة ويواكب الأحداث، للرد على التعدي الصارخ على هويتنا، من خلال تسجيل عناصر التراث، و أوضحت بهذا الشأن «لدينا على سبيل المثال أربعة أنواع من القفطان، ناهيك عن الأطباق التقليدية النوميدية التي ذكرها المؤرخ الروماني أبيسوسو غافيس، وهو عمل يتطلب عملا معمقا، بمعنى أن أجوبتنا يجب أن تكون بالعمل وفتح المجال أمام المتخصصين في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، واستدعاء النخبة وتفعيل دور المدرسة والجمعيات الثقافية والدبلوماسية».
وأضافت الناشطة، بأننا بحاجة أيضا إلى إرادة سياسية حقيقية لحماية التراث ككل مع تفعيل القانون، فهناك نساء يبعن ملابس تقليدية قديمة، مقابل مبالغ رمزية، فيشتريها أناس من دول أخرى وينسبونها إلى غير أهلها، وهي ممارسات يجب تجريمها، فشبكات التواصل الاجتماعي تشهد حركية غير عادية في ما يتعلق ببيع القطع الأثنوغرافية التي تمثل حياة أمة بأكملها، حيث يباع اللباس والمنتجات التقليدية عبر الفضاء الإلكتروني بكل سهولة ودون رقيب، لكونها غير مصنفة كقطع أثرية.
رياش قالت بأن الجزائر وضعت ترسانة قانونية هامة لحماية التراث الثقافي بشقيه المادي وغير المادي، خاصة قانون 98/04 الصادر في 15 جوان 1998، والذي تطرق إلى حماية التراث الثقافي غير المادي بوصفه جزءا من التراث الثقافي للأمة، وناتجا عن تفاعلات اجتماعية وإبداعات الأفراد والجماعات عبر العصور، بما في ذلك التقاليد وأشكال التعبير الشفوي والعروض الفنية والخبرات والمهارات المتعلقة بالصناعات والحرف التقليدية وكل الممارسات الاجتماعية والطقوس والتظاهرات الاحتفالية، و كلها عناصر تحميها اتفاقية حفظ التراث غير المادي التي وقعت عليها الجزائر في 2004، وهي اتفاقية أقرتها منظمة اليونيسكو خلال الدورة 32 لجمعيتها العامة.
وأضافت المتحدثة أن الجزائر حظيت بالمركز الإقليمي لحفظ التراث الثقافي غير المادي، وعينت الوزيرة الحالية للقطاع فوج عمل لتكثيف الجهود للعمل على مشاريع وملفات التراث الثقافي غير المادي، وإنشاء متحف أو مركز تفسيري خاص به، وقاعدة بيانات لأرشفته وتسجيله وهي عملية تتطلب إشراك المخابر الجامعية بالاعتماد على قاعدة بيانات تعدها مراكز البحث في الأنثروبولوجيا الثقافية وعصور ما قبل التاريخ، وذلك وعيا بأهمية مسابقة الزمن لتوثيق التراث غير المادي والحفاظ عليه، خصوصا وأنه محفوظ حاليا عن طريق الذاكرة الجماعية والمشافهة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا المسعى يتطلب الترويج لكل ما هو تراثي والتسويق له إعلاميا وعلى مواقع التواصل، مع تقوية دور الدبلوماسية الثقافية عبر مختلف القارات، أما محليا، فلا بد، وفق الأستاذة، من تفعيل القرارات وتطبيق القوانين والعمل على المشاريع المبرمجة، مثل المداحات والتقطار والراي، وكل ما يحتاج إلى تصنيف و تسجيل، كأنواع الملابس مثل الملحفة و البرنوس و القشابية الثورية القديمة، وكل العناصر الموجودة ضمن قائمة الانتظار، بما في ذلك الموسيقى الأندلسية والشعبية والفخار و زربية شرشال و الزربية النموشية و زربية أولاد نايل، وغيرها من العناصر التي يجب تسجيلها، ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي. على صعيد آخر، قالت المتحدثة، بأن هذه الجهود الرسمية و الإعلامية، لابد و أن تتدعم بمراكز تفسير، لنقدم تراثنا بحلة علمية دقيقة تساعد في الإجابة على الأسئلة والترويج للممتلك الثقافي.
* مصممة الأزياء حفيظة بريكي
يجــب التعريـــف بـأزيائنــا والدفـــاع عنهــا عربيـــا وعالميـــــا
قالت مصممة الأزياء حفيظة بريكي للنصر، إن الجيران يصرون على نسب القفطان إلى خزانتهم الثقافية، رغم أن بلادنا تحصي أربعة أنواع منه، أشهرها «قفطان القاضي».
و أوضحت المتحدثة بأن التعدي على التراث، يشمل البلوزة الوهرانية وقندورة القطيفة القسنطينية، اللتين أصبحتا تقدمان كزيين وَجديين، علما أن هناك أطرافا في تونس تعرض هي الأخرى القطيفة القسنطينية كزي تقليدي تونسي، كما تعرض «دقلة نور» الجزائرية في متاجر أجنبية، كمنتج تونسي وحتى إسرائيلي، وهو انشغال سبق لفلاحين وملاك نخيل أن طرحوه على النصر، في وقت سابق.
وحسب بريكي، فإن جيراننا الغربيين ينزلون بكل ثقلهم في هذه الحرب على التراث، ويجندون كل الوسائل من إعلام تقليدي وذباب إلكتروني لكسبها، وعليه، تدعو مصممي الأزياء الجزائريين إلى التجند أكثر للدفاع عن التراث والتعريف به عربيا وعالميا، عن طريق المشاركة أكثر في الفعاليات الثقافية والمهرجانات، والاعتماد على البحث والتوثيق، لأرشفة هذا المكون التراثي وتبيان جوانبه الثقافية، مؤكدة بأننا حين نتحدث عن اللباس التقليدي، فنحن بذلك نشير إلى هويتنا الثقافية وإلى رافد سياحي واقتصادي مهم جدا.
سوق الألبسة التقليدية على الإنترنت بوابة لنهب الذاكرة
وحسب متابعين، فإن حماية التراث، مهمة تستوجب عملا جادا ومكثفا، من حيث مراقبة وتقنين نشاط بيع القطع الإثنوغرافية عبر الإنترنت، بما في ذلك قندورة القطيفة التي تنتشر إعلانات شراء تصاميمها القديمة بكثرة على «فايسبوك» و»إنستغرام» بمبالغ غير محددة، في محاولة لسرقة جزء من تاريخ هذا اللباس بغرض نسبه لغير أهله، عن طريق تقديم ملفات تصنيف مفبركة إلى منظمة اليونيسكو، والضغط لأجل قبولها وتمريرها بالاعتماد على لوبي سياسي ثقافي، يضمن للجيران دعم ممثلين غير مباشرين في المنظمة، بينهم مسؤول محسوب على مستشار بلد مجاور.
أمام كل هذه التحديات، فإن الجزائر مطالبة بضبط قائمة موسعة ومفصلة لتراثها غير المادي، وتعزيز الفعاليات الثقافية الرامية إلى إبرازه وتثمينه عن طريق إشراك المجتمع المدني في العملية، لحمايته من محاولات السطو المتكررة التي يقف خلفها جيران يخلطون بين التفاصيل المشتركة مغاربيا، وبين الخصوصية الثقافية والتاريخية والحضارية الجزائرية.
* سفيرة اللباس التقليدي الإعلامية نوال قاضي
هنــــاك حـــرب غيـــر معلنــــــة لتشويــه تاريـــخ الجزائـــــر
أكدت الإعلامية وسفيرة اللباس التقليدي نوال قاضي، بأن محاولات السطو على التراث الجزائري بمختلف مكوناته، واجهة لحرب غير معلنة على تاريخ الجزائر وهويتها الثقافية، هدفها تشويه كل ما هو جزائري وإنكار الحقائق التاريخية، عن طريق نسب التراث لغير أهله، لأن مكونات اللباس والطعام والفولكلور وغير ذلك، ما هي إلا تراكمات ثقافية تعبر عن المجتمعات وتظهر جانبا من تاريخها.
وحسب الإعلامية، فإن هذه الحرب ليست مجرد جدل معزول على مواقع التواصل الاجتماعي، بين جزائريين وجيرانهم، بل هي مواجهة خفية تتبناها الجهات الرسمية في الجارة الغربية، وهو توجه تكشف عنه التصريحات الرسمية لمسؤولين في الداخل والخارج، على غرار ما يردده وزير الثقافة المغربي من اتهامات مباشرة للجزائر بمحاولة سرقة التراث، وموقف السفير المغربي في قطر، من مرور الإعلامية نوال قاضي عبر أحد البرامج التلفزيونية بقناة الكأس، للحديث عن التراث الجزائري، إذ حدث أن طلب السفير استضافته في نفس البرنامج في اليوم الموالي، وحضر حاملا معه «تشاراك» و «قرن غزال»، و حاول أن يقدمهما على أنهما نوعان من الحلويات التقليدية المغربية، مستخدما نفس الأسلوب ونفس طريقة الحديث وحتى نفس الخطاب الذي اعتمدته الصحفية الجزائرية قبله بيوم واحد.
ولعل هذا التحامل الرسمي هو ما يفسر، حسب المتحدثة، الحملة التي يقودها المغاربة ضدها على مواقع التواصل الاجتماعي، وما تتعرض له من إساءة لفظية، موضحة بأن الأمور احتدت بشكل خطير في الآونة الأخيرة وبلغت حد تعرضها لتهديدات مباشرة، ناهيك عن محاولة اختراق حساباتها، واتهامها بالسرقة في كل مرة تقدم فيها برنامجا عن الجزائر أو تراثها في قناة قطرية، ما يضعها أمام موقف مساءلة وتوضيح لمديرية البرمجة أو القناة، بسبب كم الاتصالات المشككة في محتوى الحصة.
نوال قاضي، التي فجرت قضية صورة الفتاة النايلية في «إكسبو دبي» مؤخرا، كانت قبل ذلك وراء فضح السرقة التي تطال المنتجات التقليدية والحرفية الجزائرية في مجمع «كارفور»، وقالت بأن هذه السرقات ليست سوى جزء صغير من أحجية كبيرة، تحرك خيوطها لوبيات مغربية في الخارج، سواء في دول عربية أو حتى في أوروبا، فالجالية الجزائرية في بروكسل مثلا، تعاني كثيرا ويمنع الجزائريون بشتى الطرق من النشاط في الصناعات التقليدية، و يتعرضون لمشاكل وبلاغات تحريضية تجبرهم في الغالب على وقف نشاطهم، وبيع محلاتهم لمغاربة أو الموافقة على العمل لصالحهم، مقابل نسب المنتج للمغرب.
وتشدد الإعلامية على ضرورة التعامل بكل حزم مع ملف التراث في الجزائر، سواء إعلاميا أو من قبل وزارة الثقافة لتكريس هذا الجانب، خصوصا أن الطرف الآخر يجيد الضغط في اليونيسكو لأسباب وخلفيات لم تعد تخفى ،حسبها، على أحد، ما يعزز الحاجة إلى توفير إرادة سياسية حقيقية لدعم القطاع، عن طريق ضمان تكوين ملفات قوية ومسنودة بالدليل، تجنبا لتكرار سيناريوهات ملفات تصنيف الراي والنخلة والفنتازيا، كما عبرت، مشيرة إلى أنها عملية تتطلب أيضا، إنشاء لجان على مستوى الوزارة، لتصنيف تراثنا محليا و التعامل بجدية أكبر مع الفعاليات الثقافية والحرفية الدولية واختيار المشاركين فيها بعناية فائقة، حتى لا يكونوا مجرد سياح، بل سفراء حقيقيين للتراث.
من جهة ثانية، ترى المتحدثة، بأن الإعلام ومواقع التواصل تشكل أرضية أخرى للمعركة، لذلك فإن التواجد بقوة عبرها، ضروري للتأكيد على جزائرية مكونات تراثنا، إذ يتعين على الإعلاميين تقديم برامج قوية بمشاركة باحثين ومؤرخين، كما أن الفنانين والمؤثرين مطالبون بالعمل أكثر عبر المنصات التفاعلية، لتقديم تراثنا والتعريف به وفضح محاولات السطو عليه.
* رئيس لجنة الجزائر في برنامج ذاكرة العالم أحمد بن زليخة
يجب الانتقال من رد الفعل إلى المبادرة في اليونيسكو
يرى أحمد بن زليخة، الصحفي والكاتب ورئيس اللجنة الجزائرية لذاكرة العالم ولجنة الاتصالات والمعلومات باللجنة الوطنية الجزائرية لليونسكو، بأن حماية التراث وتصنيفه، عملية تستوجب تكاثف كل الجهود على مستوى عديد القطاعات، ولو كان الحديث عن هذا الملف من صلاحيات وزارة الثقافة ولجانها التمثيلية في مختلف الهيئات.
وقال بن زليخة، بأن قاعدة الانطلاق لابد وأن تبنى على الوعي بضرورة التخلي عن النظرة الموجهة لمثل هذه القضايا والانتقال إلى نظرة أشمل، ترتكز على المبادرة بتقديم ملفات التصنيف وعدم الاكتفاء بإبداء ردود الفعل على ملفات الغير، والتواجد دائما في موقع الدفاع، كما حصل مع ملفي الراي و الفنتازيا.
ومن الواجب، حسب بن زليخة، السعي لحفظ التراث وتوثيقه من باب خدمة الثقافة والاعتراف بأهمية هذا البعد الحضاري بالنسبة لتاريخ المجتمعات، وهي مهمة تتطلب أن نتصالح مع الثقافة وأن نكسر صورنا النمطية المحدودة عنها، كمرحلة أولى، قبل الانتقال إلى مرحلة الجرد والتمحيص وإعداد الملفات وتقديمها بطريقة مناسبة تستوفي الحجج التاريخية والعلمية والبحثية، لتجنب الخلط بين العناصر المشتركة مغاربيا وبين ما هو جزائري الخصوصية، مع ضمان التحكم في الجانب الاتصالي وتوسيع التمثيل وطرح هذه الملفات في مختلف المنظمات العربية والدولية، وليس فقط على مستوى اليونيسكو.
الكاتب و الصحفي أضاف بأن كل هذه المساعي مرهونة بشرط تقوية الجبهة الداخلية، من خلال توحيد الطرح وضبط الرواية التاريخية المرتكزة على البحث والبرهان، ناهيك عن تكريس الاهتمام بالتراث كرافد ثقافي دائم واستراتيجي، والتخلي عن عقلية الاحتفاء المناسباتي، والتعامل وفق ما تمليه المعطيات السياسة والظرفية، مشيرا إلى أن المهمة تستوجب كذلك، مساهمة أكبر من قبل الدبلوماسيات الجزائرية في الخارج، مع ضبط برامج إستشرافية، تحدد مستقبل ملفات التراث بشكل عام، حيث تعمم المبادرات الرامية إلى التعريف بالتراث ولا تقتصر على التعبئة على مواقع التواصل، أو على عمل الأفراد دون الجماعات، كما ينبغي أن تكون النشاطات مكثفة، بمساهمة جمعيات المجتمع المدني ومديريات الثقافة.
* الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر بريك الله حبيب
حــرب ثقـافيـــة هدفهــا افتعال الخـلاف السياســي
الباحث في التاريخ الحديث و المعاصر، الدكتور بريك الله حبيب، أكد من جهته، بأن تنوع قوالب التراث الثقافي الجزائري، جعل منه علامة رائدة و راقية في العالم، ولعل ذلك ما خلف نوعا من الدسائس والضغينة التي تضمرها بعض دول الجوار للجزائر، ودفع بأطراف معينة إلى التجرؤ على تراثنا ومحاولة السطو على مكتسباتنا الثقافية، في شبه حرب هوياتية ثقافية، الغرض منها جر البلاد إلى مستنقع الخلاف الثقافي ثم السياسي، و هو أمر منافي للأعراف الإنسانية وللأخلاق و القوانين الدولية، كما عبر.
الباحث قال، بأن أهم آليات حماية التراث ترتبط أساسا بمخابر البحث الأكاديمية العلمية والهيئات الوطنية الثقافية، التي تسهر على تنفيذ مخطط الحماية عبر مجموعة من البرامج العلمية، في مقدمتها رقمنة الأرشيف والمخطوطات والوثائق وصيانتها وحمايتها والعمل على فهرستها وإتاحتها للباحثين قي قالب جديد يتماشى مع التطور التكنولوجي الحالي، وهنا نتحدث، كما أوضح، عن جانب الكوديكولوجيا، أي علم المخطوطات وما يتعلق به.
كما يحيلنا هذا التوجه إلى التفكير في تصنيف العناصر التراثية وطنيا وعالميا، عبر الهيئات الدولية التي تُعنى بالقضايا الثقافية، على غرار منظمة اليونسكو، خصوصا وأننا نحوز على الدراسات والأبحاث العلمية التي تطرقت إلى قضايا التراث الثقافي، في شقيه المادي وغير مادي. من جانب آخر، ذكّر الدكتور بريك الله حبيب، بالأعراف والقوانين الدولية التي تُعنى بقضايا حماية التراث الثقافي، وقال بأنها في تجدد و تحيين مستمرين، تماشيا مع تطور ظاهرة السطو الثقافي والحضاري الرقمي، والجزائر قادرة، حسبه، من خلال ممثليها عبر الهيئات الدولية التي تقبع تحت سقف هيئة الأمم المتحدة، على الدفاع عن كنوزها الثقافية والتاريخية التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من كيان وتاريخ هذا الوطن.
* الباحث في التراث و علم الآثار عبد القادر دحدوح
السطـو علـى التــراث حيلـــــة مغربية لتبنــي الهويـــة المغاربيــــة
أكد الباحث في التراث ومسار علم الآثار والمدير السابق للديوان الوطني لتسيير الممتلكات الثقافية المحمية، البروفيسور عبد القادر دحدوح، بأن تراثنا يتميز بزخم هائل عبر الجهات الأربع للوطن، يتضمن تنوعا وثراء كبيرا سواء في طبوع الموسيقى والغناء والأدب والأطباق والأزياء والتقاليد المرتبطة بالاحتفالات والأعياد التراثية الدينية وغيرها، والمهارات المرتبطة بالصناعات والحرف التقليدية في مختلف المجالات، إلا أن هذا التراث، لا يزال بحاجة إلى اهتمام أكثر، لإعطائه الأهمية التي يستحقها وطنيا ودوليا حتى لا يتعرض للسطو.
ولعل المتتبع لعملية تصنيف التراث الثقافي غير المادي عالميا، يلاحظ، حسب الباحث، وبشكل واضح، تجليات عملية السطو التي تظهر من خلال تصنيف الجارة الغربية بشكل منفرد، لتراث ثقافي تشترك فيه غالبية الدول المغاربية، على غرار تصنيف تراث قناوة في 2019، والتبوريدة سنة 2021، على أساس أنه مغربي، في حين هو تراث مغاربي مشترك، وذلك على الرغم من أن تصنيف التراث المشترك، أمر معمول به لدى اليونيسكو، على غرار تصنيف الكسكسي كتراث مغاربي، والخط العربي كتراث عربي دون أن تنفرد به أية دولة عن أخرى.
وعليه، فإن انفراد المغرب بتصنيف هذا التراث، يدخل مثلما يتابع المتحدث، ضمن عملية السطو على التراث المغاربي المشترك، ويمكن القول بأنه سباق نحو تبني الهوية المغاربية كتراث مغربي من قبل الجيران الغربيين، الأمر الذي يطرح عدة تساؤلات عن مثل هذه الممارسات غير اللائقة.
ويتابع الباحث بأن القول إن المملكة المغربية في سباق لتبني التراث المغاربي أو الجزائري-المغربي، كتراث تابع لها، ليس من باب المبالغة، وإنما حقيقة تعكسها عملية التصنيف وطبيعة التراث المصنف من قبل هذا البلد، كتراث عالمي. والملاحظ، كما قال، بأن المغرب منذ تصنيفه لأول تراث غير مادي سنة 2008، كان ملتزما بتصنيف التراث المغربي فقط، في حين بدأ منذ 2019 بتصنيف التراث الثقافي المغاربي، كتراث مغربي، مثل قناوة والتبوريدة. بالمقابل، لم تسجل الجزائر أي تراث مشترك لوحدها، واكتفت بتسجيل التراث المحلي الجزائري فقط، بينما عملت على تجسيد أواصر الأخوة والترابط الاجتماعي الثقافي المغاربي والعربي، من خلال تسجيل الإمزاد كتراث جزائري مالي نيجري مشترك سنة 2013، والكسكسي كتراث مغاربي مشترك في 2020، و الخط العربي كتراث عربي مشترك سنة 2021.
و من هنا يتضح مدى سطو المغرب على تراثنا المشترك، الأمر الذي يتطلب منا أن نولي هذا الموضوع العناية اللازمة لحماية تراثنا المحلي، خاصة، والمشترك مغاربيا أو عربيا أو إفريقيا، خصوصا وأن بلادنا تحتل مراتب متقدمة من حيث زخم التراث، مثلما يخلص المتحدث.وتحتل الجزائر المرتبة الثانية عربيا، بستة تعابير ومهارات وممارسات تقليدية ثقافية، مصنفة ضمن قائمة التراث العالمي، والمرتبة 28 عالميا، ما يدفعنا إلى القول بأن هناك جهودا كبيرة تبذلها بلادنا، ممثلة في وزارة الثقافة والفنون، في سبيل خدمة تراثنا الثقافي، ولعل المطلع على أهم البحوث من مقالات و رسائل جامعية حول هذا الموضوع، يتأكد، كما أوضح المتحدث، من أن الجامعة الجزائرية ومراكز البحث، تولي أهمية بالغة لهذا الجانب، وهو ما يشكل مادة خاما لوزارة الثقافة، تمكنها من أخذ زمام المبادرة، لتصنيف تراثنا وحمايته من السطو، على أن يتم التنسيق مع مختلف الدول التي تشترك معنا في بعض التقاليد والممارسات الثقافية، لتسجلها كتراث عالمي، خاصة وأن هناك دولا قامت بتسجيل عدد كبير من عناصر تراثها، في حين تضم قائمة الجزائر، 6 فقط، ما يستدعي بذل جهود أكثر. يمكن القول كذلك، حسب الباحث في مسار علم الآثار، بأن النصوص القانونية الخاصة بحماية التراث الثقافي غير المادي، بحاجة إلى تكييف وإثراء واستحداث آليات قانونية، تمكنه من التصنيف وطنيا، على غرار ما هو معمول به في التراث الثقافي المادي، الأمر الذي يمكن من توفير قاعدة بيانات وقائمة تصنيف وطنية، تؤطرها نصوص قانونية، لتوفير حماية أمثل لتراثنا الثقافي غير المادي من السطو.