يعود بنا المجاهد رابح سحقي في شهادات تاريخية جديدة ومهمة عن مشاركته في ثورة التحرير الكبرى وبطولاته، خلال المعارك التي خاضها مع جيش التحرير الوطني ضد العدو الفرنسي وكيف نجح الفيلق الذي ينتمي إليه في إلحاق هزائم وخسائر فادحة بالعدو الفرنسي لا سيما معركة وادي زقار الشهيرة بعين قشرة التي سقط فيها 270 عسكريا فرنسيا في ظرف 20 دقيقة وكيف هرب من المستشفى، والتحق بالجبل وسقوط شقيقيه شهيدين على يد العدو وتحويله بعدها إلى مستشفى عين قشرة بعد إصابته بكسر في ذراعه وتلقيه العلاج على يد لمين خان، ومريم بوعتورة وغيرها من البطولات التاريخية التي لا يزال يتذكر تواريخها بدقة.
النصر تنقلت إلى منزل المجاهد رابح سحقي ببلدية صالح بوالشعور، حيث استقبلنا بحفاوة وتواضع كبيرين وأبدى سعادة كبيرة بحضور الصحافة ممثلة في جريدة النصر لنقل شهاداته عن مشاركته في صنع جزء من تاريخ أكبر وأهم الثورات ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم في العصر الحديث، وقال في بداية حديثه أن صعوده إلى الجبل والتحاقه بالثورة كان في 1956 وذلك بعد عملية مداهمة لقوات العدو بحثا عن المجاهدين بينهما شقيقاه، الأول الذي التحق بالثورة في 1955 والثاني في 1958 واستشهدا لاحقا في منطقة كاف السراق، و يسترسل المجاهد رابح سحقي في حديثه «طلبوا منا بطاقة التعريف وكان عمري وقتها 17 سنة حيث اعتقلوني، وقاموا بنقلي إلى منطقة (سانشار) رمضان جمال حاليا، ووضعونا في غرفة بها حوالي 60 شخصا في ظروف كارثية للغاية وكانوا في كل ليلة يقومون بقتل ثلاثة إلى أربعة منا و كنا جميعا من أبناء الشعب، وأتذكر أنني أصبت بوعكة صحية فحولوني إلى المكتب الثاني (دوزيام بيرو) أين تعرضت للاستنطاق ومحاولات إكراه من أجل افتكاك معلومات عن مكان تواجد شقيقاي أحمد وإبراهيم و تعرضت إلى اعتداء متبوع بشتى أنواع السب والشتم ورغم هذا لم أرضخ لمحاولاتهم».
وتابع المتحدث: «بعدما فشلوا في الحصول على معلومات مني تم تحويلي إلى مستشفى الحروش أين مكثت به حوالي أسبوع تحت الحراسة وفي أحد الأيام كان يوم جمعة استغليت كثرة الزوار بالمستشفى وقمت بالفرار خفية من البوليس الفرنسي وسلكت طريق الشعبة ورغم لحاقهم بي والبحث عني بواسطة الكلاب لكنهم لم يعثروا علي وعند وصولي بمحاذاة الجبل في الدوار بشعبة الدوالي ببلدية صالح بوالشعور التقيت هناك بمسؤول المنطقة يدعى عمار لطرش فقدم لي التهنئة لتمكني من الهروب من قبضة المستعمر، ومكثت هناك ثلاثة أيام إلى غاية حضور جيش التحرير الوطني حيث منحوني بندقية ومن ثم بدأت نضالي في الثورة إلى غاية الاستقلال».
المجاهد رابح سحقي يناهز 86 من العمر ورغم مرضه لا يزال يتذكر الأحداث وتواريخها بدقة قال إنه أصيب برصاصات العدو أربع مرات في رجليه وذراعه الأيمن في سنوات 1957، 1958، 1959، و1960 وآثار هذه الإصابات لا تزال بادية حيث لاحظناها بأعيننا، مضيفا أنه كان ينتمي إلى قسمة بلدية الغدير التي تمتد رقعتها من منطقة بئر أسطل بالحروش مرورا برمضان جمال بخط السكة الحديدية ويقطع منطقة عين لغراب وجبل السراق وصولا إلى بلدية السبت وكاف ونار ببلدية أولاد أحبابة إلى غاية التوميات بالحروش.
أسقطنا 270 قتيلا فرنسيا وغنمنا أسلحة ثقيلة في 20 دقيقة
وأكد المتحدث، أنه «عند التحاقي بالثورة شاركت في العديد من المعارك من أبرزها المعركة الشهيرة واد زقار بعين قشرة في 11 ماي 1957 التي لقنا خلالها العدو الفرنسي شر هزيمة وقد خطط لهذه المعركة كل من مسعود بوعلي، و نائبه رابح بلوصيف وقائد الفيلق عيسى عبد الوهاب من تبسة وآخر يدعى دخلي مختار المدعو البركة، و لخضر بوالكرشة وهم من قادة الثورة بالولاية التاريخية الثانية من خلال كمين بعد أن درسوا جيدا المسالك».
و يواصل المجاهد سحقي «أتذكر أن الفيلق، كان يتكون من حوالي 600 مجاهد وانتظرنا توغل العسكر الفرنسي جيدا داخل موقع الكمين، عندها أعطيت لنا إشارة اطلاق النار ودخلنا في اشتباك دام حوالي 20 دقيقة، وألحقنا خسائر فادحة في صفوف العدو بتسجيل مقتل 270 عسكريا فرنسيا بمختلف الرتب، وحرق وتدمير كامل الآليات والشاحنات، كما أخذنا غنيمة كبيرة تمثلت في أسلحة ثقيلة من رشاشات وألبسة دون تسجيل خسائر بشرية في صفوف جيش التحرير الوطني، وأسرنا جنديا سينغاليا ناديناه بعد نهاية المعركة من أجل نزع سلاح البياسة بالمفتاح من عسكري فرنسي مقضى عليه لكنه رفض ما اضطر إلى تدخل قائد الفيلق لحمله على نزع السلاح».
وتابع المتحدث، أنه يتذكر أنه بعد وقوع الاشتباك «توجهت ناحية الدبابة لتوقيف محركها لكن زملائي نصحوني بالابتعاد عنها لتفادي أي طارئ، ودفعت المعركة يضيف المتحدث برئيس الحكومة الفرنسية آنذاك « إلى النزول في موقع المنطقة بقوة عسكرية كبيرة والبحث عن الفيلق الذي أرعب عساكره وألحق بهم خسائر ستبقى خالدة في التاريخ، عندها قرر مسؤولو الناحية تقسيم الفيلق إلى مجموعات».
وأكد المجاهد، أنه شارك في معركة ثانية صنفت هي الأخرى من أكبر المعارك وذلك ببلدية الغدير في 1957 لما جاء القائد الفرنسي المعروف «شال» إلى المنطقة حيث قام العدو بعملية تمشيط ضخمة استعمل فيها آليات وشاحنات عسكرية وأسلحة ثقيلة و قام بمحاصرة المنطقة انطلاقا من مزرعة «جاكي» بناحية الربع بنواحي قرية السعيد بوصبع بالحروش، و «دخلنا معهم في اشتباك بداية من الصباح إلى غاية السادسة مساء حيث أسقطنا 15 عسكريا في صفوف العدو الفرنسي، واستشهد ستة مجاهدين حسب الوثيقة التي بحوزتي وتتضمن بالتفصيل عدد وأسماء الشهداء الذين سقطوا في ميدان الشرف دفاعا عن الوطن وكذا أسماء المعارك وأسماء المسؤولين ومكان إقامتهم ومازلت احتفظ بها لحد الآن وهناك من المجاهدين من استشهدوا وبأيديهم سلاح البياسة من أمثال بن رداب من الأربعاء أم الطوب ومساعده نوار من أم الطوب، وعبد السلام من خنشلة، و جفال صالح من سيدي مزغيش».
ويروي المتحدث أنه في تلك الفترة «كنا محاصرين ولم نجد مساحة للتحرك فلجأنا إلى استراتيجية تقضي بترك الجبال والنزول إلى القرى والمداشر والتوغل وسط الأهالي من أجل جلب المؤونة وتحضير نقلها إلى الجبل وهناك يتولى أشخاص آخرون اخفاءها إلى حين مجيء جيش التحرير الوطني وهم يتكفلون بمفردهم بعملية الطهي وتحضير الأكل بالموازاة مع ذلك قمنا بإنشاء كازمات لدى المواطنين المخلصين ومحل ثقة، وكازمات أخرى لدى المواطنين غير المخلصين، وكنا نلجأ للمبيت عند الفئة الأولى كلما أحسسنا بالخطر يداهمنا ورأينا أن الوضع صعب ومعقد خاصة وأن الخروج في حدود الساعة منتصف النهار كان ممنوعا علينا».
63 مجاهدا ظلوا محاصرين في مغارة طيلة أسبوع بدون أكل أو شرب
وسرد علينا المتحدث تفاصيل عن عملية وقعت في منطقة تانقوت برأس الماء باتجاه عزابة وذلك في أواخر 1958 حيث يوجد مكان يسمى «المينا» بعمق 200 متر تحت الأرض والمكان عبارة عن مغارات متداخلة وصعبة ومسالكها من الداخل متشعبة ليس من السهل على أي شخص أن يسير فيها وكان ذلك قبل حلول ذكرى أول نوفمبر بأيام قليلة، حيث «كنا نحضر آنذاك للاحتفال بهذه المناسبة وكان داخل هذه المينا يوجد 63 مجاهدا بينهم امرأة وطفل و كان يوجد من بينهم أيضا عاشور باسوط من الحروش».
وقال المتحدث، إن العدو الفرنسي كان على مقربة من المينا يحرس المكان من ناحية منطقة بايار بالقرب من عزابة، ولسوء الحظ فإن المجاهدين لم يأخذوا معهم المؤونة إلا القهوة عندها حضر الجيش الفرنسي وقام بمحاصرة المكان بطائرة هيليكوبتر، كما قاموا بطمر المغارات بالاسمنت المسلح، ثم أحضروا شخصين من الحروش مقيدين من أعناقهما أحدهما يسمى سطارة وأمروهما بالدخول إلى المغارة بينما الحبال كانت بيد القائد الفرنسي «بيرنار» وفي يده الأخرى مسدس من أجل محاورة المجاهدين وطمأنتهم أن فرنسا لن تلحق بهم الأذى وبإمكانهم الخروج وفي تلك اللحظة قام المجاهدون بإطلاق النار باتجاه «بيرنار» فتم اسقاط ذخيرته وقطع الحبل والإمساك بالشخصين، مضيفا «كنت قريبا منهما لكنني لم أتمكن من فعل أي شيء».
تفجر منبع من المياه بقدرة الخالق ونجحوا في الخروج سالمين
وتابع المتحدث أن المجاهدين ظلوا في المغارة سبعة أيام كاملة في ظروف صعبة للغاية لا مأكل ولا مشرب يفكرون في مخرج إلى أن انتبهوا إلى مكان رطب بالمغارة وبه صقيع فقاموا بالحفر فيه وإذا بالماء يتفجر من ذلك المكان بقدرة الله سبحانه فشربوا وارتووا قبل أن يجدوا المنفذ الذي يخرجون منه ولحسن الحظ أن منبع الماء جف مباشرة قبل خروجهم فكانت لحظات تجلت فيها عظمة الخالق.
وتابع المتحدث، أن خروج المجاهدين من المغارة تزامن وسقوط الأمطار فطلب منهم قائد الفوج أن يتفرقوا في مجموعات حتى لا يتركوا أثارا وينكشف أمرهم من قبل العدو، بعدها «توجهنا إلى مركز الغدير، وكنا متعبين لأننا لم نعرف طعم النوم طيلة سبعة أيام وبعدها بأيام قليلة وصلتنا رسالة من المجاهدين المرحوم ابراهيم شيبوط، والسعيد حمروش ومصيبح عبد الحميد المدعو (المورتي) من الحروش وعيسى النايم اتصلوا بنا من حجر مفروش بعين قشرة للقيام بمهمة نقل قنبلة من عين مفروش إلى الغدير من أجل وضعها في خط السكة الحديدية في منطقة الشيخ الضيف قرب رمضان جمال».
نقلنا قنبلة من عين قشرة لوضعها في خط السكة برمضان جمال
وأوضح المتحدث أنه في هذه المهمة «كان برفقتنا المسمى الضيف بوراي من امجاز الدشيش وصلنا الغدير ووصلنا عند أحمد مسيعد من الحروش كان يشغل منصب مسؤول مركز وحوالي الثانية زوالا عدنا من أجل نقل القنبلة إلى منطقة كاف سراق بالقرب من منطقة قصابة برمضان جمال لتخبئتها حتى يسهل علينا وضعها ولما وصلنا صادفنا الجيش الفرنسي فوقع اشتباك و أطلقوا علينا النار وأصبت من ذراعي فيما قتل مجاهد يسمى طنطانو محمد من الغدير، بينما جرح مصيبح عبد الحميد (المورتي) وبسام حواس من السمندو والجميع كانوا يستطيعون السير».
و«بعد انقضاء ثلاثة أيام تم تحويلي إلى مستشفى موجو بعين قشرة وهناك وجدنا نساخ عبد الحميد، ولمين خان، ومريم بوعتورة الشهيدة وتكفل لمين خان بعلاج جرحي وفي ظرف 14 يوما شفيت تماما من الجرح والكسر، ثم رجعنا إلى مركز الغدير».
وختم المجاهد رابح سحقي يقول أنه للأسف هذا الجيل لا يسأل كثيرا عن الثورة التحريرية المظفرة وكان من المفروض أن يسألوا باستمرار لمعرفة تضحيات وبطولات الآباء والأجداد حتى تعيش الجزائر اليوم حرة مستقلة، مؤكدا في الأخير «صعودنا الجبل كان عن نية وإخلاص ولم نندم أبدا».
كمال واسطة