أجمع مجاهدون وأكاديميون باحثون في التاريخ من عاصمة الأوراس باتنة لـ «النصر»، على أن الشهيد الرمز مصطفى بن بولعيد الذي يعد أحد أبرز قيادات الثورة التحريرية، اعترف له العدو الفرنسي قبل الصديق بشجاعته وجرأته وذكائه، في إذكاء فتيل الثورة التحريرية انطلاقا من الأوراس، حتى لُقب بأب الثورة، وقال مجاهدون التقتهم النصر بمناسبة إحياء ذكرى عيد الاستقلال الواحدة والستين، بأن الشهيد الرمز سي مصطفى بن بولعيد أب الثورة التحريرية وأسد الأوراس، رمز سيبقى خالدا في تاريخ الجزائر يجب على الشباب الاحتذاء به في حب الوطن، كما أكد أكاديميون على ذكاء الشهيد وتميزه بكونه رجل إجماع بين القيادات والمجاهدين والأعراش والقبائل، وأكدوا على حنكته في تجاوز الصعاب، ومصداقيته ما أهله لتبوأ القيادة.
رجل الصلح بين الأعراش والإجماع بين المجاهدين والقيادات
وأوضح الباحث في التاريخ بجامعة باتنة 01 الدكتور جمال مسرحي، بأنه، مما لا شك فيه أن شخصية بن بولعيد الكاريزماتية أهلته لأن يحظى باحترام الجميع سواء في القاعدة أو القمة « فلقد أشرف في الأوراس وفي أريس تحديدا على عمل جبار وهو القضاء على العشائرية، من خلال إشرافه على تجمعات الصلح بين الأعراش أو حتى بين العائلات التي نشبت بينها خلافات، وهي الخلافات التي عملت سلطات الاحتلال على تأليبها وإذكائها وفقا لمبدأ «فرق تسد» وهذا أمر خطير انتبه له مصطفى بن بولعيد قبل اندلاع الثورة، حيث جعل من تلك الاعراش المتناحرة ربما لأتفه الأسباب نسيجا اجتماعيا متحدا ومتآلفا، وبذلك حضَر ذلك المجتمع الريفي الصعب المراس ليكون وقود الثورة التحريرية، مما مكنه من تبوأ مكانة مرموقة بين أعراش المنطقة الأوراسية».
وفي هذا السياق، ذهب المجاهد والفدائي لكحل أحمد لخضر، الذي كان ينشط في الثورة خارج الوطن وتحديدا بمدينة ليون الفرنسية، في حديث مع «النصر» إلى أن كاريزما القائد لدى مصطفى بن بولعيد دليل قوة أمام مستعمر فرنسي يعد آنذاك من أعتى القوى الاستعمارية، مؤكدا بأن صيت سي مصطفى أسد الأوراس كان وقود لاستلهام القوة وسط المجاهدين.
ويذهب الأستاذ بالتاريخ جمال مسرحي، إلى أن مكانة مصطفى بن بولعيد قبل الثورة، كانت مرموقة على مستوى قيادة حزب الشعب وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، فحظي بنفس المكانة والاحترام من قبل رفاقه في الحزب من مناضلين وقياديين، خاصة وأنه عين عضوا في اللجنة المركزية للحزب منذ سنة 1951، ثم أشرف على المنظمة السرية في الأوراس منذ نشأتها في سنة 1947، ويضيف المتدخل بأن جل الذين عرفوه أكدوا أنه كان منضبطا في سلوكه، ومتحمسا للعمل الثوري والأمل في تحقيق الاستقلال، لم يغب عنه طوال نضاله وتحضيره السري للعمل الثوري، وكان يشحذ الأمل لدى المناضلين الذين اختارهم إلى جانبه.
وتؤكد شهادات المقربين منه حسبما رصده الباحث في التاريخ، بأن مصطفى بن بولعيد كان يؤمن بأن «حب الوطن من الإيمان» حوله إلى سلوك حضاري ومنهج عمل لأجل هدف سامي، كما أنه يبدو من خلال دراسة مسار الرجل بين رفاقه أنه لم يكن لديه ذلك الطموح للزعامة أو المسؤولية، بل كان كل شغله هو تحرير الوطن من الاحتلال، «فالرجل كان زاهدا في السلطة والزعامة، وهو ما جعل الجميع يكن له الاحترام والتقدير، حتى أنه عندما اشتدت أزمة حركة الانتصار للحريات الديمقراطية اتفق أعضاء اللجنة الثورية للوحدة والعمل التي أنشأت للتوفيق بين طرفي الأزمة (المركزيين، والمصاليين) اتفق الجميع على أن يقود بن بولعيد الاتصالات بين الطرفين، وبالفعل فقد التقى العديد من الشخصيات من طرفي الأزمة وسافر شخصيا إلى فرنسا لملاقاة رئيس الحزب مصالي الحاج، وتباحث معه حول سبل إنهاء الازمة.
ورغم عدم التوصل لوفاق بين طرفي الأزمة، إلا أنه كان على الدوام يحظى بثقة الجميع، رغم اختلافه معهم حول الكثير من النقاط أبرزها ضرورة المرور إلى العمل المسلح.
مصداقية بن بولعيد شجعت على الانضمام للعمل الثوري
أكد الأمين الولائي للمجاهدين للولاية باتنة العابدي رحماني، لـ «النصر» أن الشهيد مصطفى بن بولعيد سيظل رمزا شامخا وخالدا لما لعبه من دور سياسي وعسكري قبل وإبان الثورة التحريرية في سبيل تحرير الجزائر، وأوضح المجاهد ابن منطقة تكوت بأنه لم يلتق أو يعرف مصطفى بن بولعيد، لكن صيته وسط المجاهدين بمجرد أن يذكر اسمه، كان له هيبة وقيمة كبيرتين، وقال المجاهد بأن مصطفى بن بولعيد كان له الدور البارز في التخطيط للثورة.
ويؤكد الباحث في التاريخ جمال مسرحي، على أن الدور السياسي والعسكري للشهيد بن بولعيد كان حاسما ومهما في أصعب اللحظات، مشيرا إلى أن الشهادات تُجمع على دوره البارز في اجتماع لجنة الاثنين والعشرين 22 التاريخية، «بل هناك من يشير إلى أنه هو من انتخب على رأس المجموعة وتنازل لبوضياف عن قيادة المجموعة»،» وفي كل الأحوال لقد تم اختياره عضوا في لجنة الخمسة التاريخية التي أشرفت على التحضير للثورة، وكان له الفضل الأكبر في انضمام كريم بلقاسم إلى المجموعة لتصبح مجموعة الستة والتي ضمت: بن بولعيد، بيطاط، ديدوش، بن مهيدي، بوضياف، ثم كريم فيما بعد.
ويضيف أستاذ التاريخ بجامعة باتنة 01، بأنه معروف أن المنظمة السرية كان لها دورين سياسي، وعسكري «وهو ما كان يقوم به بن بولعيد في الأوراس حتى قبل تأسيس المنظمة، من خلال تواصله مع «مجموعة الخارجين عن القانون الفرنسي» أو الذين لقبوا بـ Les bandits d’honneur التي كانت تضم ستة عشر فارا منهم: الحسين برحايل، المسعود عايسي، قرين بلقاسم، الصادق شبشوب، الحسين عبد السلام، رمضان حسوني وغيرهم.. واستطاع بن بولعيد احتواء هذه المجموعة وتحويلها نحو العمل المسلح وتدريب المناضلين على حمل السلاح تحضيرا للثورة التحريرية.
ويؤكد الفدائي في جيش التحرير لطرش الجمعي لـ»النصر»، بأن مصطفى بن بولعيد كان قائدا خارقا للعادة كيف لا وهو الذي اعترفت له فرنسا بحنكته في التخطيط لاندلاع الثورة انطلاقا من الأوراس، وأخذه على عاتقه مسؤوليات عدة، وفي ذات السياق أوضح الأستاذ جمال مسرحي، بأن بن بولعيد كان ملما بتنظيم منطقة الاوراس وحريصا على أن تكون الأوراس هي السباقة للثورة، «فإضافة إلى العمل الكبير والجبار الذي قام به قبل الثورة وفي المنظمة السرية من خلال الإشراف على جمع الانخراطات وتوجيه تلك الأموال المحصلة إلى شراء السلاح من منطقة وادي سوف، باعتبارها كانت منطقة عبور للجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد ساعده في ذلك ابن المنطقة (وادي سوف) المناضل محمد الأمين العمودي.
ومعروف أنه من أهم المحطات التي أشرف مصطفى بن بولعيد عليها، تحضيرا للثورة التحريرية، -يضيف الباحث مسرحي- إشرافه بصفة مباشرة على اجتماع منطقة لقرين التاريخي الذي أعقب آخر اجتماع لمجموعة الستة والذي تقرر فيه الإعلان عن تاريخ الثورة التحريرية، وفي اجتماع لقرين في نهاية أكتوبر 1954 تم استنساخ بيان أول نوفمبر وتوزيعه على قادة الأفواج قبل الالتقاء ليلة 29 أكتوبر 1954 في دشرة أولاد موسى وتحديد المواقع التي سيتم استهدافها خلال ليلة أول نوفمبر.
بن بولعيد قائد دوَخ المستعمر الفرنسي بدهائه في التخطيط
ويصف المجاهد الضابط بالولاية التاريخية الأولى لحول عمر مصطفى بن بولعيد بالرجل المقدام والشجاع، والرجل العظيم الذي قدم النفس والنفيس في سبيل وطنه، وبمناسبة إحياء الذكرى الواحدة والستين لاستقلال الجزائر، أكد المجاهد بأن قيم ونضالات الشهداء والمجاهدين من أجل تحرير الجزائر ستبقى خالدة، وأن الشهيد مصطفى بن بولعيد الذي يعتبر أب الثورة التحريرية سيظل رمزا خالدا في التاريخ يستلهم منه الشجاعة وحب الوطن.
وعرج أستاذ التاريخ جمال مسرحي في الحديث لـ»النصر»، عن انطلاق العمل الثوري، وقال بأن مصطفى بن بولعيد أشرف على العمليات الأولى للثورة، وتابع سيرها وسير الثورة في بدايتها، لكن مشكلة السلاح كانت دوما هاجسا لقادة الثورة وهو ما جعله يقرر السفر إلى القاهرة لملاقاة أحمد بلة، الذي كان يرأس الوفد الخارجي للثورة من اجل بحث مسألة التموين بالسلاح، لكنه لم يتمكن من لقاء بلة، حيث ألقي عليه القبض في منطقة بن قردان بالحدود الليبية التونسية في مطلع سنة 1955، وحكم عليه بالإعدام في تونس ثم نقل إلى سجن الكدية بقسنطينة.
وفي غياب بن بولعيد واستشهاد ديدوش وإلقاء القبض على بيطاط – يضيف المتحدث- حاولت فرنسا إيهام الرأي العام أن الثورة انتهت، خاصة بعد الأحداث التي نشبت في المنطقة الأولى الأوراس لاسيما استشهاد قائد المنطقة بالنيابة شيحاني بشير، وانقسام القيادة بين كل من عباس لغرور، وعاجل عجول، «لكن هيهات.. فلقد استطاع بن بولعيد الفرار من السجن في نوفمبر ،1955 وحاول أن يعيد الأمور إلى نصابها ويفرض الانضباط من جديد، وفي ذلك السياق حاول تنظيم لقاءات مع قيادات النواحي ومنه اللقاء الذي استشهد فيه على إثر التفجير عن طريق جهاز الإرسال.
وقال الباحث في التاريخ جمال مسرحي، بأن استشهاد مصطفى بن بولعيد خلف حالة من الفوضى وعدم الانضباط في صفوف جيش التحرير، بالإضافة الى الاتهامات المتبادلة بين بعض القيادات بخصوص عملية التفجير، لكن شهود عيان ممن حضروا اللقاء أكدوا في شهاداتهم ومنهم المجاهد علي بن شايبة، الذي تعرض لإصابة بليغة أن العملية من تدبير الجيش الفرنسي.
قدوة الأجيال في الروح الوطنية
أكد مستشار رئيس الجمهورية المكلف بالأرشيف الوطني والذاكرة الوطنية، عبد المجيد شيخي، خلال إشرافه شهر مارس من السنة الجارية على ملتقى حول مصطفى بن بولعيد بأن الشهيد شخصية فذة على الشباب أن يستلهم منها العبر ويتخذها قدوة، وأضاف عبد المجيد شيخي في الندوة التاريخية التي احتضنتها جامعة باتنة 1 حول الحياة النضالية للشهيد في الذكرى السابعة والستين لاستشهاده أن بن بولعيد صقلته الظروف والأحداث، وكان يحس بما يتعرض له الشعب الجزائري آنذاك من ظلم واضطهاد، فاستشرف بذكائه وحنكته التوقعات، وكان من القلائل في الحركة الوطنية الذي تفطن لحقيقة المستعمر ونواياه في ظلم واستنزاف خيرات الوطن فقرر التخطيط بإحكام لتفجير الثورة المظفرة.
وأكد المستشار المكلف بملف الذاكرة، بأن حياة وشخصية بن بولعيد على غرار أعضاء من الحركة الوطنية جديرة بالدراسة بعمق لاستخلاص العبر منها، وتكون برهانا ونموذجا للشباب، حتى لا يتنكر للماضي وينصف الذين ناضلوا وأحبوا هذا الوطن وقدموا النفس والنفيس لاستقلاله وتخليصه من براثن المستعمر الفرنسي.
وفي سياق الحفاظ على الذاكرة وتخليد ذكرى الشهيد مصطفى بن بولعيد، خصص متحف المجاهد بباتنة، حيزا للشهيد الرمز مصطفى بن بولعيد، يوثق بالصورة والصوت لمسيرته ونضاله، ويتوفّر المتحف على صور فوتوغرافية خاصة بالشهيد قبيل الثورة وبعدها، بالإضافة لتسجيلات شهادات حية لمجاهدين من الرعيل الأول ممن عاشوا عن قرب مع الشهيد مصطفى بن بولعيد، وعايشوا أيضا التحضيرات الأولى لثورة الفاتح نوفمبر 1954.
وتتضمن تسجيلات المجاهدين من رفاق سي مصطفى والذين أغلبهم توفوا، التحضيرات الخاصة بالثورة منذ سنوات الأربعينيات، لاسيما جمع السلاح، وليلة انطلاق الأفواج من دشرة أولاد موسى ودار بلقواس بخنقة لحدادة، والعمليات التي تم القيام بها فيما بعد والدور الكبير الذي لعبه بن بولعيد في توحيد الصفوف منذ البداية، ومن بين شهادات المجاهدين والمجاهدات بمنطقة الأوراس، يوجد تسجيل لرفيق شباب الشهيد مصطفى بن بولعيد يعود للمجاهد عمار بلعقون الذي توفي ويروي في التسجيل فترة نضالهما في صفوف حزب الشعب الجزائري، وجمع الاشتراكات وظروف مرافقته لمصطفى بن بولعيد إلى منطقة نقاوس من أجل بيع حافلاته، بهدف توفير الأموال وشراء السلاح.
وفي تسجيل اخر، يشهد المجاهد أحمد قادة أحد الخارجين عن القانون على أن نزاهة بن بولعيد ووطنيته والاحترام الذي كان يحظى به في المنطقة، جعلت جماعة الخارجين عن القانون الفرنسي بقيادة الشهيد حسين برحايل وقتها، ينضمون إليه عن طواعية بعد أن وحد قبائل وأعراش الجهة.
ويضم المتحف شهادة المجاهد عمار بن شايبة المدعو علي، الذي نجا من حادث انفجار المذياع، ويروي في شهادته تفاصيل هامة حول لقاء دشرة أولاد موسى والسرية التامة التي تم فيها توزيع الأسلحة على الأفواج الأولى المفجرة للثورة التحريرية، بالإضافة لشهادته حول اللقاء الحاسم الذي احتضنته قرية لقرين بمنطقة بولفرايس والذي وضعت خلاله اللمسات الأخيرة على ترتيبات تفجير الثورة وصياغة بيان أول نوفمبر 1954.
ومن أبرز الشهادات حول الشهيد مصطفى بن بولعيد ما تم توثيقه للمجاهد المرحوم عمر مستيري، ابن منطقة كيمل، التي اتخذ منها بن بولعيد قاعدة خلفية للتحضير للثورة التحريرية، ورحلته مع الشهيد نحو الحدود التونسية الليبية لجلب السلاح، بالإضافة لأولى عمليات الثورة التحريرية والهجوم على الثكنة العسكرية الفرنسية بقلب مدينة باتنة ليلة الفاتح نوفمبر 1954.
ويضم المتحف شهادة المجاهد محمد بزيان، الذي توفي مؤخرا ببلدية تكوت، حيث يروي في شهادته ذكريات من عايشهم في فترة التحضير للثورة والكفاح المسلح، ومن ضمنها شهادته حول الفرار من سجن الكدية بقسنطينة، حيث كان رفقة بن بولعيد في السجن، وقد تحدث عن تفاصيل الهروب الأسطوري لسي مصطفى ومجموعة من المجاهدين من ذلك السجن.
يـاسين عـبوبو