يستعيد، المجاهد بلقاسم بن طالبي في شهادته للنصر، ذكريات موحشة عن ظروف الأسر إبان الثورة التحريرية، بسجون ولايتي برج بوعريريج وسطيف، وهمجية عساكر العدو الفرنسي في معاملتهم للمساجين، بطرق وحشية، مصورا أبشع الذكريات لطرق التعذيب التي دفعت بوالده السجين إلى محاولة اجتثاث أحشائه،خلال الفترة التي قضى فيها عقوبة الأسر لمدة عامين بداية من سنة 1957، أين اشتدت المواجهات مع العدو في عز العمل المسلح للثوار، على مستوى إقليم دائرة بئر قاصد علي شرق ولاية برج بوعريريج.
أسلاك الكهرباء لتعذيب المساجين بطرق بشعة و وحشية
ويعود المقاوم بلقاسم بن طالبي، وهو يستقبلنا بمنزله في مدينة برج بوعريريج، للإدلاء بشهادته، إلى ذكريات سنوات الكفاح، والتأسيس لتشكيل خلايا جهادية بقيادة والده، ما جعله وإخوته وأفراد عائلته تحت مجهر قوات العدو، لتتبع تحركاتهم بعد انضمامهم للعمل الثوري منذ سنة 1956، قبل أن يتعرض مع والده وشقيقه للأسر سنة 1957 إلى غاية 1959، أين ذاقوا حسب ما قال أشد وأبشع أنواع العذاب، باستعمال أسلاك الكهرباء والضرب المبرح بوحشية، و وضع أنبوب المياه في أفواههم وفتح الصنبور لتدفقها بقوة حد الاختناق، بهدف استنطاقهم للحصول على معلومات حول العمل الثوري والتنظيم المعتمد بالمنطقة من قبل جيش التحرير الوطني، غير أنهم بقوا حسب ما أضاف صامدين رغم شدة العذاب والترهيب بالسجون و وضعهم تحت الأسر في ظروف قال إنها وحشية ولا تليق بالبشر .
وبالموازاة مع ظروف الأسر، مع والده وأخيه بعين تاغروت، قامت عساكر العدو بمحاولة تشتيت العائلة التي كانت تنشط بالمنطقة، بتوقيف أخيه بولنواروارغامه على المشاركة في الحرب ضد ألمانيا، وعندما عادوا به إلى ارض الوطن بناحية وهران سنة 1959، التحق بصفوف الثورة التحريرية، ولم يدم جهاده سوى ستة أشهر ثم استشهد في إحدى المعارك بالحدود المغربية.
تشكيل خلايا جهادية لبعث النشاط الثوري
و قال المجاهد بلقاسم بن طالبي، إنهم نهلوا العلم وحب الوطن من والدهم الشيخ الصديق بن طالبي، فكانت لهم إسهامات في بعث النشاط الثوري، بمنطقة بئر قاصد علي شرق ولاية برج بوعريريج، قادمين من منطقة بني ورتيلان بسطيف، ابتداء من سنة 1956، أين كان لهم تنسيق مع ضباط قادمين من منطقة أقبو،ومسؤول الناحية لتشكيل خلايا بالقرى ومسبلين، وهو ما شرع فيه أفراد العائلة، إلى غاية سنة 1957، أين تعرضوا للأسر ونقلوا حسب ما قال إلى إحدى الثكنات بعين تاغروت، وبعدها إلى سجن برج بوعريريج، مصورا ظروف الأسر( لقد ذقنا العذاب الأليم ولكن صمدنا صمود الأشداء، ولم تزعجنا الحواجز مهما تجلت ولم تضعفنا الكوارث، بل كنا نقابلها بعزم ثابت ورباطة جأش وايمان قوي)، مضيفا ( بعدما ذقنا فصولا من العذاب والضرب المبرح، جاؤوا بوالدي وكان حينها ضعيف البنية، وضعوا له أنبوبا من المياه في فمه واذاقوه شر العذاب في محاولة لاستنطاقه، وبعدها نقلوني لوالدي وهو في وضعية كارثية،أرادوا اللعب على عواطفي، ودفعي إلى التصريح بما لدي من معلومات حول النشاط الثوري، فصرخت في ردة فعل عفوية لهول ما شاهدت من تعذيب صرخة مدوية)، وقلت لهم (أنتم وحوش هل تفعلون بشيخ طاعن في السن هذا المنكر، أنتم عديمو الإنسانية)، و كان من بين المشرفين على عمليات التعذيب من يتقن الحديث باللغة العربية، فرد أحدهم على غضبي بالقول( مادمتم تتحفظون وتكتمون أسرار النشاط المسلح، و تمتنعون عن مدنا بالمعلومات لكشف خطط الثوار بالتي هي أحسن،لجأنا إلى استعمال أسلوب التعذيب والترهيب)، حينها تحدث إلى والدي وقال لي ( لن أسامحك لو منحت لهم فرصة الحصول على معلومة واحدة، حتى ولو قطعوا جسدك إلى أجزاء) و قام بترديد عبارات (نموت شهداء نموت لأجل الوطن).
شجـاعة في كتمان أسرار الثورة وأحكام بالاعدام في حق مساجين
يضيف محدثنا، (بعد نصيحة الوالد، اقتادوني إلى دار السر، كانت مجهزة بطاولة كبيرة عليها سلاح رشاش وسلاح ناري، شاقور و سكين، خيروني بأيها أريد الموت) فأجبت (أنتم القتلة وعليكم اختيار الأداة التي تناسبكم)، حينها قام أحدهم بحمل السلاح الرشاش، وأمرني بالوقوف أمام الباب، فقمت وأشرت إليه بأن يضع الرصاصة في رأسي، فأجاب باستغراب (من أين لكم هذه الشجاعة).
بعدها وفي الصباح اليوم الموالي، سمعت صراخ أسرى أخرين، وأدركت أن والدي تعرض لتعذيب وحشي، وكان يصرخ بكل ما لديه من قوة، إذ أرغم تحت طائل التهديد لاستنطاقه، على طعن بطنه بسكين، حاولت التسلل نحوه فقام أحد العساكر بتوقيفي، كاد أن يموت من همجية التعذيب، وقد تطلب الأمر نقله على جناح السرعة لإجراء عملية دقيقة على يد طبيب فرنسي، كتب له أن ينجوا من الموت، مكثنا قرابة العام بسجن برج بوعريريج، وبعدها نقلنا إلىسجن(لمبيز) سطيف، فكانت ظروف الأسر أقل وحشية عن تلك التي واجهناهافي العام الأول، وكنا نتلقى أخبارا غير سارة عن معاقبة بعض المساجين ممن كانوا معنا، بحكم الاعدام، فمنهم من طبقت عليهم تلك الأحكام، في حين نجا آخرون منها، على غرار المجاهدين خنوف وشليق المسعود، واثنين آخرين من ولاية سطيف، بعدما انخرط أغلب المساجين في وقفة احتجاجية واضراب عن الطعام استمر لمدة ستة أيام سنة 1958، مضيفا كنا حينها نرفع صوت النشيد ليلا و نتغنى بالوطن، و بالأخص أنشودة لمفدي زكريا يقول في مطلعها (أعصفي يا رياح ...).
مواصلة النضال في قطاع التعليم بعد الاستقلال
يواصل المجاهد بلقاسم بن طالبي شهادته عن ظروف الأسر ( مكثنا بسجن سطيف إلى غاية سنة 1959، بعدها أطلق سراحنا و واصلنا الجهاد حتى سنة 1962 أين سطع فجر الاستقلال، ولأن الوالد كان إماما يدرس العربية، خاطبني ذات يوم بعد الاستقلال بأن النضال ما زال مستمرا للحفاظ على الثوابت الوطنية وما خلفه المستدمر من طمس لأهم المعالم والمقومات، بإقامة الكنائس ومدارس للغة الفرنسية، فكان لزاما حسب ما قال مواصلة العمل بالتأسيس لمدرسة النصر بمنطقة بئر قاصد علي، فأغلب السكان لم يتلقوا إبان الثورة تعليما،فضلا عن انتهاج سياسة طمس جميع مقومات الهوية الوطنية، من قبل المستدمر الفرنسي،وكانت الفكرة لإطلاق المشروع بمساهمة من تلامذته المهاجرين،حيث سبق له وأن درس بمنطقة بني ورتيلان لمدة 17 سنة، و نجحت الفكرة إذ افتتحت المدرسة بعد 06 سنوات من الاستقلال، بثلاث أقسام وتوسعت إلى 10أقسام، في ظرف وجيز، كما تم تدعيمها بأساتذة قدموا من مصر العراق سوريا فلسطين وجزائريين، لتدريس التلاميذ في اللغةالعربية الفرنسية والانجليزية، مضيفا أن المدرسة كانت تستقبل تلاميذ من مختلف المناطق والجهات، وكان عدد طلابها حوالي 750 منهم 350 نظام داخلي، وعدد المتخرجين 1227طالبا، فتمكنت بذلك حسب ما أضاف من التأسيس لجيل من الاطارات الذين تقلدوا مناصب مهمة في ما بعد، فمنهم الطبيب والمحامي والقاضي والأستاذ وباحثين وإطارات في مختلف القطاعات .
ع/ بوعبدالله