أول احتفال بالمولد في الجزائر احتضنته تلمسان
قال الدكتور إسماعيل سامعي، أستاذ التاريخ بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، في لقائه بالنصر، أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف موسم نبت في بلاد المغرب، بعد أن ينع في المشرق، انطلاقا من بلاد صلاح الدين الأيوبي، بلاد الأكراد في كردستان العراق، و لم يتم الاحتفال به على امتداد السبعة قرون الأولى للهجرة، إبان فترة الازدهار الحضاري الإسلامي، زمن قيادة المسلمين لأمم الأرض، و ظهر كعيد بعد أن دخلوا مرحلة الانحطاط.
احتفال نبت في المغرب و ينع في المشرق و برز بتلمسان
المتحدث قال بأن الاحتفال بالمولد الجزائر انطلق من تلمسان، حاضرة الزيانيين، تأثرا بما ظهر في المغرب الأقصى عند المرينيين، جراء الاحتكاك المباشر بين البلدين، وحركة السكان و العلماء، إضافة إلى الوجود المريني بتلمسان و بلاد المغرب الأوسط ، خاصة خلال حصارهم لها ( 699 ـ 706ه الموافق ل 1299 ـ 1307م)، فأسسوا مدينة المنصورة و مسجدها، وتعود أولى مواسم إحياء المولد حسبه إلى عهد السلطان أبي حمو موسى بن يوسف الزياني، (723 ـ 791 ه الموافق ل1399 ـ 1389 م)، فكان يدعو إليه الناس، و خاصة أعيان و رجال دولة و فقهاء و شعراء، و يتم إعداد الموائد التي تزينها المباخر والشموع و تٌسمع فيها المدائح الدينية بشتى الألحان وتنشد رفقة الآلات الموسيقية، وكان الشعراء يتبارون في تأليف المدائح، منهم ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب الذي كان يوجه إليه بالأمداح و من أحسن ما وجه له قصيدة سينية فائقة البلاغة.
و أكد أحمد بن عمار في نص له ( 1206ه الموافق لـ 1791م) « إذا دخل ربيع الأول أنبرى أدباؤها وشعراؤها، إلى نظم القصائد المدحيات يلحنونها على الموسيقى بألحان عجيبة ويصدعون بها في المحافل والمجامع والمكاتب والمزارات وهم في أكمل زينة، تعظيما لهذا الموسم و احتفالا بمولده عليه الصلاة والسلام «.
و يضيف الباحث أنه و في القرن 20 الميلادي، جف نبع المديح الفصيح و ظهر الملحون الدارج بين الناس في تونس والجزائر على الأخص، لأن شعراء الفصحى لم يعد لهم وجود و ما ظهر منهم لا يكاد يذكر، و منهم ابن عمار سيدي أحمد بن العباس من أهل مدينة الجزائر، وله قصائد في مدح الرسول، ومن آثاره «رحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب» و تعرف بالرحلة الحجازية.
العثمانيون فشلوا في نقل مظاهر الاحتفال إلى الجزائر
و حاول العثمانيون من جهتهم، وفق محدثنا نقل مظاهر الاحتفال من بلادهم إلى بلاد المغرب والجزائر خصوصا، و هي مستمدة من عادات وتقاليد مقتبسة من عادات الشعوب التي استولوا على أراضيها في المشرق العربي و في شرق أوروبا كشعوب البلقان واليونان و كذا أعياد النصارى والتي لم تتمكن من التوغل داخل المجتمع المغربي، حيث أن الأتراك جنودا أو قادة لم يختلطوا بالفئات الشعبية ، فظلوا منعزلين، وكانت العلاقة بين الحكام الأتراك و المحكومين الجزائريين علاقات ضعيفة و أحيانا واهية، مما جعل التأثير التركي يكاد يكون منعدما.
علما بأن أول احتفال رسمي قي تركيا بالمولد النبوي ، كان في عصر السلطان مراد الثالث 696 هجري 1595م و شاع فيه تزيين المآذن بالقناديل ، وقد أوقف كمال أتاتورك سنة 1923 كل الاحتفالات الإسلامية، لكن الاحتفاء بالمولد لم يتوقف شعبيا منذ أول احتفال في عهد الملك مظفر الدين التركماني الذي حكم ولاية إربيل بالعراق بعد سقوط الدولة السلجوقية، حيث أقام الاحتفال الأول بالمولد النبوي عام 586 ه الموافق ل 1190 م ، وفق التقويم الميلادي الذي يوافق 20 أفريل من كل سنة، اليوم الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لمدة أسبوع كامل، وبذلك فهو تاريخ ثابت في تركيا ، خلافا لأغلب الدول الإسلامية التي تحتفل به في 12 ربيع الأول من السنة الهجرية.
الأمير عبد القادر أحياه باستعراضات عسكرية
احتفل الأمير عبد القادر بالمولد النبوي الشريف، وفق ما أفاد به الأستاذ سامعي بإقامة الولائم على منوال الصوفية باعتباره منهم، وعلى منوال الزيانيين، لأنه كان في حاجة ماسة إلى حشد الجماهير إلى جانبه في مقاومة الغزو الفرنسي للجزائر، فيخرج مع أمراء جيشه إلى بطحة واسعة، ليشهدوا استعراضا عسكريا، تشارك فيه كل الوحدات ، فيتشكل العسكر في شكل قلعة تحتوي على ما يحتاجه الجنود، و يقومون بافتعال هجوم و رده، وهو ما كان يفعله الأمير في كل الأعياد بعد الصلاة.
وعلى نفس النهج احتفل الشهيد باجي مختار وهو من مجموعة 22 المفجرة للثورة، و يقول الدكتور سامعي بهذا الخصوص « لقد خطط للهجوم على قاعدة منجم حمام النبايل شرق مدينة قالمة يوم 7 نوفمبر 1954 ، و قبل انطلاقه لتنفيذ العملية، احتفل بالمولد في منزل المجاهد عبد الله نواورية بقرية وادي الشحم، و أنشد و هو فوجه المديح المعروف
زاد النبي وافرحنا به صلى الله عليه.»
يا عاشقين رسول الله صلى الله عليه»
جمعية العلماء المسلمين استعملت الفنون للإحتفال
اتخذت جمعية العلماء من المناسبة وسيلة تحرك من خلالها مشاعر المسلمين الجزائريين، لربط الأمة الجزائرية بماضيها ومحيطها، وهو منهج الجمعية في التربية والتعليم، ومن ثمة العمل السياسي كأسلوب لمقاومة خطة محو الشخصية الجزائرية من طرف فرنسا، وكانت وسيلتها في الاحتفال بالمناسبة الصحافة والشعر والقصة، بقلم كل من محمد العيد وجلول بدوي والربيع بوشامة ومبارك جلواح وعبد الكريم العقون، كما قامت بقية الفنون الأخرى كالمسرح والقصة والرواية بدور هام في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فألف العديد من الأدباء مسرحيات وقصص وروايات مثلت على خشبة مسارح المدارس العربية من هؤلاء الأستاذ محمد الصالح رمضان في مسرحية « مواقف الطفولة في الهجرة النبوية «، في سبعة مشاهد، تناولت حوارا بين أبو بكر الصديق و أبنائه وخادمه عامر و تنتهي بنشيد يتكون من 16 بيتا، كما ألف الأستاذ محمد الصالح رمضان، قصة أخرى بالمناسبة تحمل عنوان « الولد السعيد».
الشهاب نددت و البصائر تجاهلت
الاتجاه الإيديولوجي والسياسي والفكري خلال فترة الاستعمار، جعل الجرائد الوطنية والعربية تهتم بالمناسبة، حسب اتجاه كل نشرية، لتعميق وجودها وسط قراء و أنصار كل عنوان، فالشهاب منذ نشأتها كانت تهتم بالحدث لكن بصفة محتشمة، تقتصر على تهنئة الأمة وتشيد بعظمة الذكرى، أين نشرت مقالا سنة 1926 تحدثت فيه عن وضعية المسلمين وما يعانونه في العيد من بدع يستحي منها الرسول صلى الله غليه و سلم، وفي عدد سنة 1934 يتطور الاهتمام بذكرى المولد تخصيص صفحتين للمناسبة بعنوان «على ذكرى المولد النبوي الشريف ـ التجدد في كل مولد» عالج فيه ما ألصق به من بدع لدى العامة والخاصة، فعالج ذلك بحكمة ومنهج علمي مع إقرار بشرعيته.و في مقال آخر لمحمد العابد الجيلالي بعنوان « الاحتفالات المولودية « بعدد آخر استنكر فيه بسخرية ما يصاحبها من عادات سيئة، رافضا تلك «الزرد» التي تقام على الأضرحة و المنتشية بالمدائح الدينية، وأعمال تسيء إلى المناسبة العظيمة.أما الاحتفال في مدرسة الشبيبة في نادي الترقي بالجزائر، فيتضمن تلاوة السيرة النبوية، وإلقاء القصائد وعرض المسرحيات، مع التذكير بأيام أبي حمو الزناتي الذي كان يحتفل وبجانبه ساعة عجيبة، دليلا على النهضة و الإصلاح، التي كانت تزين الاحتفالات الرسمية.
أما جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فإن اهتمامها هامشي بالمناسبة، و ذلك بتهنئة المسلمين بالمناسبة وحثهم على إتباع الرسول في شمائله، ولم تعر اهتماما للاحتفالات الشعبية وطقوسها.
المستعمر الفرنسي شارك في احتفالات عنابة
وبالموازاة مع ذلك، قال الأستاذ سامعي أن جريدة النجاح اليومية الإخبارية الوطنية الحرة، و التجارية غير واضحة الخط، كانت تهادن الاستعمار و بعض الزوايا والطرق، فلم تضايقها السلطات فقال عنها الطيب العقبي أنها « مسيرة غير مخيرة «، فنقلت الاحتفال بصورة أخرى غير التي نقلتها الشهاب والبصائر.
طلب أحد الأعيان من وزارة الحرب الفرنسية رخصة خصوصية في 1349 ه الموافق ل 1930 م ، من أجل إقامة الاحتفال في مسجد سيدي أبي مروان فحصل عليها، ونقلت الصحيفة الخبر كما يلي» جرى الاحتفال بصحن المسجد وحضره من الجانب الفرنسي عدد من الضباط ، منهم العقيد لا نونو والنقيب م فشانق و جيرو وفرقة من العساكر المسلمين و من الجزائريين الحاج السعيد المحامي بقسنطينة و مفتي عنابة».
أسبوع للاحتفال بالمولد النبوي في قسنطينة
«كان الاحتفال بقسنطينة ينطلق ابتداء من 11 ربيع الأول إلى 17 منه، وهذا ما يدل على ما يوليه سكانها من اهتمام بالمناسبة، فتنتشر في المساجد و دور العبادة حلقات الذكر وتمجيد خصال النبي ، في زوايا بن عبد الرحمن وسيدي راشد اللتين كانتا قبلة لشيوخ المنطقة، و تنظم بالمساجد مسابقات حفظ القرآن.
و بالموازاة مع ذلك تستعد العائلات القسنطينية للاحتفال بالذكرى، حيث تحضر النساء الأطباق المفضلة في هذه المناسبة، و بكمية كبيرة جدا،على غرار الثريد و الشخشوخة و الكسكسي لأهل الدار والتصدق، إذ تنقل العائلات قصعا منها، تزينها بقطع اللحم إلى المساجد أو تضعها أمام عتبات الدار، حتى يتمكن الفقراء وعابري السبيل من الأكل منها» .
مواليد «المولد» يحملون اسمه و فريق لكرة القدم تيمنا به
ووفق الباحث يبدأ التحضير للمناسبة بتنظيف البيوت التي يتم تعطيرها بما طاب من البخور و المسك وارتداء النسوة والأطفال ملابس جديدة، استعدادا لسهرة المولد التي تكون الحناء ملكتها، فتزين بها الأيادي، كما تشعل الشموع و تدق الطبول وتؤدى المدائح الدينية في جو من البهجة يفوح بعبق البخور، على غرار « زاد النبي وفرحنا به صلى الله عليه «.ومن العادات التي كانت سائدة في هذه المناسبة بقسنطينة، التقدم لخطبة الفتيات وتقديم الهدايا و يعرف ذلك ب» التيرزي « وهي مناسبة تجتمع خلالها العائلتان لتحديد موعد العرس و بعض شروط إتمامه.
أما العائلات التي ترزق بأبناء في أيام المولد فتطلق عليهم أسماء ترمز إلى المناسبة ،على غرار المولدي أو ميلود أو مولود، حتى أن أقدم فرق كرة القدم التي تم تشكيلها في مدينة قسنطينة ، اشتق اسمه من المولد ، فسمي «مولودية قسنطينة «، حسب الأستاذ سامعي .
مناسبة للخطوبة و الختان
في صبيحة المولد كانت ربات البيوت بقسنطينة تحضرن حلوى الزرير أو الطمينة المحشوة باللوز ،أو العصيدة أو البغرير «القرصة» و القريوش و غيرها، و تتم قراءة السيرة النبوية .
وخلال السهرة كانت الجدات تسردن القصص التي تدور حول سيرة نبينا داخل البيوت، أو ختان الأطفال بالنسبة لبعض العائلات، و إقامة السهرات وقرع الطبول و أداء مدائح فرق العيساوة.اللافت كما خلص إليه المتحدث هو أن المجتمع اتجه نحو الانعزالية، فلم يعد لتلك التجمعات والسهرات وجود في المنزل الواحد، فتحول المولد إلى عطلة مدفوعة الأجر ، يخلد فيها الكثيرون إلى الراحة، و تكتفي العديد من الأسر بتحضير عشاء تقليدي و شراء المفرقعات أو متابعة الحفل الديني الذي يقيمه مسجد الحي، كما قال الأستاذ سامعي الذي أصدر كتابا يعد الوحيد ، حسبه، في الجزائر حول «تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في العالم الإسلامي و الجزائر، دراسة وصفية ونقدية»، صدر عن دار الفجر بقسنطينة سنة 2016 .
ص. رضوان