ألهب تتويج الملاكمة الجزائرية إيمان خليف بالميدالية الذهبية في أولمبياد باريس 2024، سهرة الجمعة، مواقع التواصل الاجتماعي، و تفاعل الملايين من مختلف أنحاء العالم مع فوزها بالميدالية الذهبية،بعد أن تابعوا قضيتها من البداية وحتى رقصة الانتصار الأخيرة، لينقلب السحر على الساحر وتتحول أشرس حملة تنمر إلكتروني إلى سلاح ضربت به من حاولوا الانقاص من أنوثتها ليزيد توهجها وتخرج منتصرة حاملة لقبا أولمبيا وصفة البطلة الخارقة.
إيناس كبير
وبالرغم من الظروف غير العادية التي دارت فيها المنافسة، حيث كان من خلفها عالم يضج بين من ينتظر تتويجها، ومن يكيدون المكائد لإيقاعها في فخ الفشل، غير أن طموحها وإصرارها على العودة بالذهب جعلاها تستغل كل الادعاءات لشحذ عزيمتها والمضي قدما صوب بريق الذهب، لتتوج بميدالية الشرف منتصرة لكرامتها، وكاشفة عن إرادة فولاذية أعطت من خلالها درسا قاسيا للغرب و نسجت خيوط قصة من نوع آخر لامرأة استثنائية وبطلة تعد بالكثير.
استفادت إيمان خليف و دون أن تخطط لذلك، من غباء من نسجوا خيوط الحملة الشرسة التي أثارت زوبعتها شخصيات معروفة وصحف عالمية، محولة الهجمات الموجهة ضدها إلى مصدر قوة ضربت به مثالية الغرب المزعومة، وكشفت ازدواجية معاييره، فهو الذي لطالما ادعى مساندته للمرأة القوية، لكنه لم يتقبل أن تخرج من غير رحمه محاربة شرسة لا تبغٍ غير التتويج وتحقيق طموح تلك الفتاة الصغيرة التي جاءت في يوم ما إلى قاعة التدريب معدمة من كل شيء إلا حلم يتوهج بداخلها، كما أعادت المنشورات والتعليقات السلبية مشكلة التنمر الإلكتروني إلى الواجهة وكشفت عن الوجه المظلم الذي عانى منه الكثير من الرياضيين والرياضيات.
تحدت الصعاب لحمل الذهب
في الثاني من ماي سنة 1999ولدت البطلة إيمان خليف بولاية الأغواط، لتنتقل بعد مدة للعيش بتيارت، الولاية الشاهدة على قصة نجاح الفتاة ، التي كانت معروفة في وسطها المدرسي بإمكانياتها الرياضية، بعد أن لفتت انتباه أستاذها و زملاءها لتصل إلى مدربها الحالي محمد شعوة الذي وضع خطواتها الأولى في عالم الملاكمة بعد أن وجه لها دعوة للتدريب، متنبئا لها بمستقبل حافل، قائلا لها «سوف تصبحين بطلة أولمبية»، ما غذى شغفها ودفعها للاجتهاد أكثر والتغلب على الظروف الاجتماعية، متحملة قطع مسافات طويلة من منزلها إلى قاعة التدريب المتواجدة بقرية مجاورة، ثم عقبات عديدة أرادت أن تحول بينها وبين ممارسة «الفن النبيل»، الذي أكسبها خصال تفوق سنها من الانضباط إلى القدرة على الإدارة والتسيير، لتوفير دنانير معدودات تتنقل بها يوميا إلى التدريبات غير أنها لم تكن تدري بأنه يخبئ لها الذهب وسوف يلمع اسمها في سماء المتوجين عالميا، لتتذوق طعم التتويج في أول بطولة وطنية شاركت فيها بولاية تلمسان، أين واجهت بطلة المنتخب الوطني وفازت عليها ومنذ ذلك اليوم اشتهر اسمها، لتتوالى التتويجات في سجل إيمان الرياضي.
لكن قصة إيمان مع التجارب الصعبة لم تنته، فقد وُجهت لها في مارس سنة 2023 ضربة موجعة بعد أن استبعدها الاتحاد الدولي للملاكمة قبل فترة وجيزة من مباراة الميدالية الذهبية في بطولة الاتحاد الدولي للملاكمة للسيدات، ليأتي ردها قويا في أولمبياد باريس 2024 وتُخرس كل الأفواه رافعة الذهب وعلم بلدها.
هذه القصة بكل فصولها ظلت حبيسة قلب تحدوه الإرادة في التميز ولا يعرف تفاصيلها إلا الأقارب ووسائل إعلام محلية، إلا أنها وبعد الحملة التي تعرضت لها أصبحت قصة نجاح يتداول فصولها مغردون من كل أنحاء العالم وبكل اللغات، ويستلهمون من أسمى صور الصبر و الاجتهاد حيث نشر مؤثرون من أمريكا وأوروبا وآسيا ودول عربية مأساة تلك الفتاة القروية التي تداول اسمها ترامب وإيلون ماسك وشخصيات أخرى وتحاملت عليها وسائل إعلام كبرى واستخدمها سياسيون في حروبهم محاولين جرها إلى مستنقع تحركه عقدة التفوق وازدواجية المعايير في غرب لا يتوقف عن لعب دور الرقيب على كل هو خارج قوالبه.
لبؤة جزائرية تزأر في وجه التنمر
كل أنظار الجزائريين كانت موجهة ليلة الجمعة نحو باريس، داخل المنازل وخارجها، أمام شاشات عملاقة عُلقت وسط الشوارع جمهور يُشجع إيمان وآخرون يتلون صلوات من أجل فوزها، تدخل البطلة بحركات رياضية تحيي قاعة ممتلئة، وسط هتافات تشجيعية باسمها، ثابتة بعيون ثاقبة تتفحص خصمها الصينية «ليو يانغ»، تبحث عن الضربة القاضية التي تنهي النِزال، بخطوات حذرة، وحركات رشيقة تبادر خليف مسددة لكمات نحو وجه ورأس منافستها ما منحها التفوق على وقع «وان.. تو.. ثري.. فيفا لالجيري» لتخرج منتصرة من معركتها، محتفلة برقصة النصر، التي تداولها الملايين، لتصبح أول ملاكمة جزائرية، وعربية، وإفريقية تفوز بميدالية أولمبية ذهبية في ملاكمة السيدات.إن الإنجاز الذي حققته إيمان لم يشبع طموحها فحسب، بل كان لكمة قوية أخرصت بها كل من تطاول عليها خلال الأيام الماضية خصوصا الاتحاد الدولي لرياضة الملاكمة، وأيضا شخصيات رياضية وسياسية مشهورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى صحف عالمية، وبينت من جهة أخرى أن الشعب الجزائري فردا واحدا. كما أعادت قوة إيمان وصمودها فوق الحلبة إلى الأذهان صورة المجاهدة والثائرة الجزائرية، حيث تداول مستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي عبارات من قبيل «المرأة الجزائرية معروفة بقوتها منذ زمن الثورة»، «أمر عادي أن تكون سليلة لالة فاطمة نسومر، حسيبة بن بوعلي بهذه القوة»، فيما عبر آخرون «هكذا هي المرأة الجزائرية تجمع الليونة والصلابة في الوقت نفسه».
مشاهير يتفاعلون مع التتويج بالذهبية
فيما شارك مشاهير، رياضيون وإعلاميون ومتابعون للحدث الأولمبي البطلة الجزائرية فرحتها وكذا رياضيون الذين افتخروا بالتتويج الذي حققته، واعتبروه انتصارا لشخصها أولا وإسكات لصوت الباطل، فإيمان حسبهم لم تكن ملاكمة فوق الحلبة فحسب بل نقلت لهم دروسا أيضا، وأجبرت العالم الذي شن عليها حملة شرسة بالأمس على الوقوف لتهنئتها بالنجاح.
وكذلك الحال مع رواد مختلف مواقع التواصل الاجتماعي الذين انهالت تعليقاتهم التشجيعية والمفتخرة بتتويج خليف، حيث جاء في تعليق لإحدى المستخدمات من دولة عربية «قصة إيمان عميقة هي لم تهزم خصم في الحلبة فقط، بل هزمت كل شخص ضعيف لم يقاتل من أجل حلمه»، متابعة أخرى توجهت بالشكر لها قائلا «شكرا إيمان تعلمنا منك روح المقاومة واللا انهزام، تحيا الجزائر وتحيا نساء الجزائر ورجالها»، أما على تويتر غرد متابع «قسما تدوي في باريس، بعدما هزمت العالم.. البطلة الذهبية إيمان خليف ترفع العلم الوطني عاليا في باريس، أنت الفخر والمجد».
فيما تفاعل متابعون أجانب باللغة الإنجليزية مع الفوز، حيث علق أحدهم قائلا «ألف مبروك لإيمان، لقد تجاوزت كل أشكال القسوة، والتمييز، والتسلط لتتألق كرياضية بارعة، تتمتع بروح رياضية عالية واحترام عميق للآخرين، فيما جاء في تعليق آخر « هذا رائع وقد أسعدني، لقد عملت بجد من أجل هذا النجاح وحققته، برافو لك يا إيمان خليف»، يضيف «هذا الانتصار لمن يملكون الضمير».
« فرحة إيمان علامة مسجلة»
وفضلا عن بنيتها الجسدية القوية، ورقة أحاسيسها التي ترجمتها دموع الفرح ونظرتها الخجولة رغم ما يشع منها من قوة، جذبت إيمان خليف الأنظار إليها أيضا من خلال ذكائها وسرعة بديهتها، بما نقلته من رسائل مشفرة إلى المشككين في قدرتها على تحقيق النجاح، وقد لاقى فيديو «عضة لسانها» أثناء فوزها تفاعلا كبيرا معه وهي حركة تعبر عن التحدي، والقوى لدى الجزائريين وقد أتبعتها تعليقات متنوعة، فيما أكد آخرون ومن بينهم فتيات على أنهم يستخدمونها في منازلهم، يقول محمد في تعليقه «الحقوق محفوظة للجزائر»، مستخدمة أخرى نشرت «الحركة خاصة بالجزائريين فقط». وبعد كل منازلة ينتظر جزائريون رقصة النصر والتحدي التي تميزت بها إيمان فوق الحلبة للتعبير عن فرحها بالانتصار والتي أكدت في حديثها مع قنوات جزائرية بأنها تتشاركها مع لاعب كرة القدم يوسف بلايلي تقول «بينما يؤديها هو فوق المستطيل الأخضر، أؤديها أنا فوق الحلبة»، وقد أسماها نشطاء تداولوا لحظة فرحها بالتتويج بعلامة إيمان المسجلة، كما تفاعلوا مع فيديو يوثق لاتصال مباشر لرئيس الجمهورية الجزائرية السيد عبد المجيد تبون، ببطلة الجزائر، هنأها خلاله بالفوز، وعلقوا على ابتسامتها وهي تحدثه، مثمنين وقوفه إلى جانبها خلال المنافسة ومساهمته الكبيرة في رفع معنوياتها.
أثار تركيز إيمان خليف مع ردات فعلها وسيطرتها على رباطة جأشها رغم ما تعرضت له منذ بداية المنافسة، انتباه متابعين أيضا، قالوا بأنها أخذت من «رياضة الفن النبيل» ضبط النفس» والذكاء في التعامل مع الاستفزازات، كما صنع ظهورها مع المنازلة الصينية صورة جميلة عن الروح الرياضية، وتغلب القيم الإنسانية والاحترام والصداقة على الرغبة في الفوز، وهو ما عبرت عنه صاحبة صفحة عائشة الصينية في منشور لها على «فيسبوك» حول الصورة التي جمعت البطلتين بعد نهاية النِزال، وقد جاء فيه « أحر تهانينا للملاكمتين من الصين والجزائر، أنتما الأفضل هذه الصورة أثرت فيّ كثيرًا، انظروا إلى ابتسامتهما، إنهما أشبه بالصديقتين أكثر من كونهما خصمين شكراً لكما، ليس فقط لأنكما قدمتما لنا مسابقة رائعة، بل لأنكما أظهرتما لنا شيئًا أعمق وأهم من المنافسة».
تصدرت الترند وأعادت الاعتبار للملاكمة النسوية
إيمان خليف تصدرت الترند عبر مختلف المنصات منذ أول نزال وحتى صعودها منصة التتويج، وتداول فيديوهاتها مئات الملايين من المتابعين في العالم، وقد كانت في البداية ضحية حملة شرسة لكنها سرعان ما سرقت الأضواء من نجوم آخرين، بل وحولت الأنظار إلى الملاكمة النسوية التي لم يكن لها جمهور واسع قبل الحالة الاستثنائية التي صنعتها جزائرية رفضت التخلي عن حلمها ،أدارت ظهرها للمتنمرين والمتآمرين وآثرت الصمت مفضلة الرد باللكمات قبل أن تسقط الكل وتخرج منتصرة شامخة من معركة غير متكافئة، وحتى عندما تكلمت اكتشف العالم «مسددة» جيدة تتحكم في الكلمات و اللغات والانفعالات، مرورها في أولمبياد باريس سيظل محفورا في الذاكرة الرياضية و الإنسانية. إ ك