قبل 160 عاما نحت فنان عالمي شهير يدعى ميشال بوليت تمثالا جميلا وسط مدينة وادي الزناتي، ثاني أكبر مدن ولاية قالمة، مستوحى من أسطورة يونانية قديمة تتحدث عن فتاة تدعى "إلوة" أخت الملائكة أو ملاك الرحمة المتشكل من دموع المسيح، متأثرا بقصيدة ألفها الشاعر "ألفريد دو فنجي" تروي قصة الفتاة الجميلة، التي تعرضت للمكيدة ومحاولات الخطف، و منذ ذلك الحين ظل التمثال الجميل مصدرا للقصص المتوارثة جيلا بعد جيل، و معلما تاريخيا من معالم المدينة العريقة التي تعاقبت عليها حضارات كثيرة ومجتمعات زراعية نهلت من أرضها الخصبة الخير الكثير.
واشتهر الملاك الجميل "إلوة" بخطاف لعرايس لدى السكان المحليين، وصارت الساحة الكبرى التي تتوسط وادي الزناتي، تحمل اسم خطاف لعرايس إلى اليوم يقصدها الزوار من كل مكان، لرؤية "إلوة" الجميل الذي ظل صامدا متحديا متغيرات الطبيعة والزمن، ليبقى إحدى أبرز معالم وادي الزناتي القديمة، التي ظلت تجمع بين التاريخ والعلم و الزراعة والقصص، حيث لم يعد "إلوة" وحده بالساحة الكبرى، فقد برزت إلى جواره معالم الحركة الوطنية وعلوم الدين والنصب المخلدة لشهداء الثورة المقدسة، بينهم خليفة ختلة أحد أبطال معركة مرمورة الخالدة التي جرت في شهر ماي 1958، و صارت الساحة تحمله اسمه اليوم، لكن سكان المدينة مازالوا يحنون إلى زمن الأسطورة متخذين من "إلوة" رمزا للجمال و إبرازا لمكانة العروس في المجتمع المحلي، مكانة تستدعي الحماية والدفاع عن الشرف حتى لا تتعرض العروس للاختطاف ليلة الزفاف.
"رود الحواس" و نهج الحدائق.. معقل التجارة
و تعد ساحة خليفة ختلة أو خطاف لعرايس، القلب النابض لمدينة وادي الزناتي، ومع حلول كل صيف يصير المكان مقصدا للسكان وزوار المدينة القادمين من المدن و القرى المجاورة ومن ولايات أخرى للتسوق وعقد الصفقات التجارية، وزيارة المعالم والنصب التاريخية، وشراء زلابية بومنجل الشهيرة والتجول في "رود الحواس" و نهج الحدائق، معقل التجارة منذ عقود طويلة.
سوق للقمح ومقصد الزناتية في الليل والنهار
تحت سقيفة مغطاة بالصفائح المعدنية وسط مدينة وادي الزناتي قبالة تمثال إلوة يجلس رجال بعضهم ممن تقدم بهم العمر، ويبدون من السكان القدامى بالمدينة، على حافة قاعدة خرسانية تظللها السقيفة وتحجب عنها أشعة الشمس الحارة في هذا اليوم الصيفي، وعلى الجانب الآخر من الشارع الرئيسي العابر للمدينة تمتلئ الحديقة الجديدة بالناس في حركة دؤوبة تعرفها ساحة خليفة ختلة كل صباح، حيث تعود سكان المدينة على النهوض مبكرا والتوجه إلى الساحة الشهيرة للتلاقي وشرب القهوة والتسوق وتبادل أخبار الزراعة بنهاية موسم الحصاد، والاستمتاع بنسمات الصباح المنعشة قبل أن تشتد شمس الصيف الحارة، و تطرد الجميع من الفضاءات المكشوفة إلى السقيفة الشهيرة، حيث الظلال الوارفة التي تحجب الشمس ساعات طويلة، حتى أن بعض الباعة المتجولين وتجار "الكابة" عادة ما يتخذونها مكانا للنشاط في الصيف عندما تشتد الحرارة، وفي الشتاء عندما تشتد البرودة، ويطبق الصقيع القطبي على السهل الزراعي الشهير.
وفي ليالي الصيف لا تكاد الحركة تنقطع بالساحة الشهيرة، حيث يقضي السكان ساعات السمر، تنعشهم المقاهي والمطاعم المجاورة بما لذ من الأطباق والمشروبات والمثلجات.
و تعود بنا الناشطة الجمعوية، و المهتمة بشؤون مدينة وادي الزناتي، غنية بوشامة إلى سنوات طويلة مضت، عندما كانت السقيفة سوقا للقمح والبقول الجافة، أو ما يعرف برحبة الزرع، مؤكدة بأن للمكان دلالة تاريخية واقتصادية، وهو ملتقى رجال المدينة من كبار السن الذين مازالوا يحنون إلى ماضي المدينة وتاريخها كقلعة من قلاع الحركة الوطنية ومركز تجاري هام.
يقول عبد الرحمان قنيفي، أحد تجار المدينة متحدثا للنصر، بأنه إذا لم تزر ساحة خطاف لعرايس، وتجلس في مقاهيها وتقف أمام تمثال "إلوة" وتأخذ صورة تذكارية معه، وتتجول في "رود" الحواس و نهج الحدائق، فإنك لم تزر وادي الزناتي القديمة حيث التاريخ ومعالم الحركة الوطنية، والتي فقدت بعضا من سمعتها ومكانتها التجارية في السنوات الأخيرة، بعد أن ظلت مقصدا للتجار من كل مكان، معتقدا بأن ما تعرفه المدينة القديمة اليوم من عمليات للتهيئة والتطوير قد يعيد لها بعضا من المجد الضائع.
موطن القمح البليوني الشهير
ويعمل شباب وادي الزناتي على الترويج لمعالم المدينة، من خلال مواقع التواصل و المنتديات، والمناسبات التاريخية التي تذكر ببعض رموز الحركة الوطنية والنهضة الدينية والعلمية بالمنطقة، من أمثال عبد الرحمان بلعقون وعبد الحميد مهري وصالح بوبندير، المدعو صالح صوت العرب، والعلامة الشيخ عمار ابن أحمد مهري العطوي، وغيرهم من رموز المدينة التي قاومت الغزاة وأمدت الحركة الوطنية و الثورة المسلحة بخيرة الأبطال و القادة.
عندما تدخل ساحة خليفة ختلة و تجلس تحت سقيفتها، و تزور حديقة ملاك الرحمة "إلوة" وتقف أمام معالمها القديمة، تدرك أن وادي الزناتي كانت مدينة عريقة تضاهي كبرى مدن الشرق الجزائري، لكنها لم تتطور بما يكفي، وفسحت المجال للأقطاب العمرانية الجديدة التي تكاد تسرق بعضا من شهرتها، حيث صار الشارع المزدوج رزاقي بالضاحية الغربية مقصدا للعائلات الراغبة في التسوق والاستمتاع بصيفيات وادي الزناتي، موطن التاريخ والقصص والقمح البليوني الشهير.
رموز و معالم تاريخية خالدة
خطاف لعرايس، خليفة ختلة و"إلوة" تسميات متعددة لمكان واحد هو الساحة الشهيرة قلب مدينة وادي الزناتي النابض، حيث التجارة والمطاعم والرموز المخلدة للعلم والحركة الوطنية والتاريخ، وليس "إلوة" ملاك الرحمة وحده من يصنع بهجة المكان ويغري بالزيارة والاستكشاف، فهناك المسجد العتيق، أقدم مسجد بالمدينة وبجانبه مدرسة التهذيب للتعليم الحر التي قاومت الاستعمار ولعبت دورا كبيرا في الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية للأمة الجزائرية.
وقرب المسجد العتيق الذي يحمل اسم العلامة عمار مهري، ينتصب معلم يخلد شهداء المنطقة الذي سقطوا في معارك جيش التحرير خلال الثورة المقدسة، حيث تحمل اللوحة الرخامية ما لا يقل عن 600 شهيد، بينهم خليفة ختلة الذي تسمى الساحة الشهيرة باسمه اليوم، ورغم ذلك مازال سكان المدينة يحنون إلى الأسطورة والتاريخ العريق، ولم يتخلوا عن خطاف لعرايس الذي ظلت قصصه تروى من بيت إلى بيت، حتى كادت الأسطورة أن تتحول الى حقيقة تفرض رقابة مشددة على العروس في ليلة الزفاف.
تطوير مواقع التنزه و المساحات الخضراء ضرورة
تعاني مدينة وادي الزناتي من نقص كبير في المساحات الخضراء ومواقع التنزه بالوسط الحضري، وكان سكان المدينة ينظرون إلى ضفاف الواد كفضاء مناسب لإقامة مساحات خضراء، لكن المهندسين كان لهم رأي آخر عندما قرروا بناء قناة مفتوحة من الخرسانة المسلحة، لعزل مجرى الوادي عن السكان وحمايتهم من خطر الفيضان، وحرمت المدينة بذلك من فرصة سانحة لإقامة متنزه على ضفتي الوادي، وبناء معابر كثيرة تربط بين شطري المدينة، وتسهل حركة السكان الذين عزلتهم القناة وحالت بينهم وبين المدينة القديمة، حيث توجد ثلاث معابر فقط للسيارات والراجلين، على طول مجرى الوادي الذي يقسم المدينة الى نصفين، مدينة قديمة، وضواحي سكنية جديدة آخذة في التوسع رغم الحصار الذي تفرضه الأراضي الزراعية الخصبة من كل الجهات. يقول جمال علوي العضو بالمجلس الشعبي البلدي، بأن المدينة في حاجة إلى مزيد من أموال الجباية المحلية لتهيئة وتطوير المزيد من المساحات الخضراء، مضيفا بأن المصادر المغذية لخزينة البلدية شحيحة ولا تكفي للاستثمار في مجال الترفيه وتحسين إطار الحياة العامة والرفاه الاجتماعي، حيث تعتمد وادي الزناتي على موارد مالية قليلة، من كراء الممتلكات العقارية كالمحلات التجارية والسوق الأسبوعي، وهي موارد لا تكفي لبعث المزيد من المشاريع الخاصة بالمساحات الخضراء. و يعلق سكان مدينة وادي الزناتي أمالا كبيرة على منتجع جبل عربية، معتقدين بأنه سيكون مستقبل السياحة بالمنطقة عندما يدخل مرحلة الاستغلال ويتم تعبيد الطريق الذي يربطه بمدينة وادي الزناتي على مسافة 3 كلم.
و في انتظار منح الامتياز على المتنزه الطبيعي جبل عربية، تبقى ساحة وحدائق خليفة ختلة و غابات جبل العنصل، الملاذ الوحيد للباحثين عن الراحة و الهدوء وقضاء ليالي الصيف بوادي الزناتي، المدينة التاريخية العريقة التي تبقى في حاجة إلى مزيد من الجهد والمال حتى تستعيد بعضا من شهرتها المفقودة.
فريد.غ