السبت 28 سبتمبر 2024 الموافق لـ 24 ربيع الأول 1446
Accueil Top Pub

أمام الإعصار التكنولوجي: هل لا تزال الجامعات مراكز لصناعة الوعي؟

على مر التاريخ والأزمان، كانت الجامعات هي مراكز العِلم والمعرفة، وإلى جانب هذا كانت بشكلٍ كبير مراكز لصناعة الوعي وتطويره. لكن في زمن باتت فيه التكنولوجيا تُهيمنُ على مُختلف القطاعات، تُطرح تساؤلات حول دور الجامعات التقليدي في صناعة الوعي. فهل لا تزال الجامعات مراكز لصناعة الوعي وتطويره؟، وهل لا تزال قادرة على الاِضطلاع بدورها التقليدي، أم أنّ العصر الرقمي والتوجه الرأسمالي غيّر كلّ شيء؟ وفي المقابل هل العصر الرقمي له ارباكاته واكراهاته التي حالت/أو تحول دون أن تبقى الجامعات تضطلع بدورها التقليدي، ألا وهو صناعة وتطوير الوعي؟، وهل هناك وعي آخر تصنعه التكنولوجيا مُغاير للوعي الّذي تصنعه الجامعات؟ أم كما قال البروفيسور عبد السلام فيلالي "التكنولوجيا اليوم تضعنا أمام قضية جديدة تتعلق بدور الجامعة في بناء الوعي وتطويره". حول هذا الموضوع "الجامعة وصناعة الوعي"، أو "صناعة الوعي بين الجامعة والتكنولوجيا". كان ملف هذا العدد من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الباحثين الأكاديميين المختصين في العلوم السياسية والاِجتماعية، والذين تناولوا المسألة كلٌ من زاويته وحسب وجهات نظر مختلفة ومتباينة، لكنها تلتقي وتتقاطع في الكثير من النقاط.

أعدت الملف: نـوّارة لــحرش

 

* أستاذ عِلم الاِجتماع السياسي عبد السلام فيلالي
يجب رسم استراتيجية جديدة لدور الجامعة
يؤكد أستاذ علم الاجتماعي السياسي، بجامعة عنابة، الدكتور عبد السلام فيلالي، أن اِنتشار الإنترنت وما يتيحهُ من تداول واسع النطاق وبشكلٍ أيسر (يوماً بعد يوم) للمعارف والمعلومات والرسائل والمهام، "يجعل الفرد يُؤمِّن اِستقلالية كبيرة فيما يتعلق بتحصيلها واستيعابها، فالمعلومة أمامه بمجرّد أن يسأل بالصوت في الحين، ويستطيع الحصول عليها بأي لغة ومن أي مكان".
وواصل قائلاً: "إنّني كمستعمل للأنترنت منذ سنة 1996، وبالمُقارنة مع ما كُنا نتجشمه كطلبة وكباحثين من عناء في سبيل تحصيل المادة المعرفية أو الإخبارية أو الخدمات المُتصلة بمجال البحث، بوسعي أن أقول إنّنا بلغنا اليوم مستوىً من التحصيل والاِستفادة يصل حد الكمال. ورغم ما يبدو أنّه نوع من القيد بالنسبة للاِرتباط بالعالم الرقمي ومقتضياته إلاّ أنّه سمحَ لنا بأن نحصل ونُنجز أعمالنا في فترة قصيرة كانت تتطلب سنوات".صاحب "الجزائر: الدولة والمجتمع"، أضاف: "إنّ ربط هذا الإدراك بأهمية الكم الهائل من المعارف والمعلومات التي يمكن تحصيلها، يضعنا أمام قضية جديدة فيما يتعلق بدور الجامعة وبناء التمثلات، أو ما قد نُسميه بتطوير الوعي. صحيح أنّ العامل البشري يظل جد هام في عصر التكنولوجيا وما بلغته مع التطور السريع والمُستمر للذكاء الاِصطناعي وبالتالي من يقفون وراء هذا التطوير بالتحكم والتوجيه، لكن ينبغي إعادة تقييم دور وأداء الجامعة، فلم يعد الوضع التقليدي للمُلقَن والملقِن قائمًا، لقد زال. وبحسب خبرتي، تظل العلاقة قائمة وحاسمة فيما يتعلق ببناء التمثلات، شرط أن يتم وضع آليات جديدة لهذه العلاقة، فإنّه وعلى سبيل المثال، التوصية بالتعليم عن بُعد غير مجدٍ بالنسبة لجامعة لا تفرض رسوماً على طلبتها ولا تملك السلطة المادية والمعنوية لضبط سلوكات المنتمين إليها، أتحدث هنا بالنسبة لوضع الجامعة الجزائرية الّذي يظل دورها الاِجتماعي له الأولوية على الجانب التكويني والأكاديمي".
ثم أردف قائلاً: "وهذا الأمر أستطيع تقديره بسبعين بالمائة، حيثُ نُلاحظ حالة الاِنفصال السريعة بين الطالب الجديد والبيئة الجامعية، وذلك لسببين الأوّل يتعلق باِنهيار قيمة الشهادة الجامعية أمام الوضعيات الجديدة لسوق العمل الّذي صار يعتمد بشكلٍ أكبر على التكوين السريع والمُحدّد للمتطلبات المهنية. وتبقى نسبة الثلاثين بالمائة المُتبقية مرتبطة ومُتصلة بالمهام الجامعية فيما يخص إنتاج النُّخب والكفاءات وما يتعين تحصيله من وسائل تعليمية جديدة تخصُ أساسًا المُتابعة والتقييم من أجل تأطير بعدُ الاِستقلالية الّذي تُتِيحهُ التكنولوجيا".ومعنى هذا -حسب الدكتور فيلالي-، أنّه ينبغي إعادة تحديد المهام والعمليات الجديدة فيما يتعلق بدور الجامعة على المستوى الفردي والمجتمعي، أي القيام بضبط الأهداف الجديدة للمجتمع وتوجيه الوسائل بحيثُ تتناسب معها، فتمضي العملية بالنسبة لهذه التمثلات إلى حيثُ يتم تلقين مُختلف المعارف والتدريب وفقها.
في هذا الاِتجاه، أضاف موضحاً: "إنّني أقصد أن تستعيد الجامعة تعريفها الأولي بالنسبة إلى تكوين النُخب وليس تحصيل الشهادات، فإنّ عملية (التكميم) هي مهمة وسائط ومؤسسات أخرى، ومن ثم ما أسميناه بصناعة الوعي. ففي وضع الاِستقلالية التي تحدثنا عنها، ينبغي رسم مسارات واضحة من حيثُ البداية والغاية تكون مرتبطة بالأهداف المجتمعية فتضبط الدافعية وفقها وما يتحدّد من تحفيزات".
وخَلُصَ إلى القول: "إنّ هذه المهمة مرتبطة بالقدرة على رسم استراتيجية جديدة لدور الجامعة ومخرجاتها بالنسبة للمتطلبات الوطنية الحيوية، نرى أنّ الدول المتقدمة في مجال التكنولوجيا قد أدركتها بشكلٍ جيد وحاسم بالنسبة لبرامج التنمية والاِنسجام بين مُختلف مكونات المجتمع. فالأمر، بالتالي، يخصُ تفكيراً استراتيجياً جديداً لأداء مُختلف مؤسسات المجتمع والدولة".

* الباحث السوسيولوجي ناجح مخلوف
التوجهات الرأسمالية العالمية حوّلت الجامعات إلى مؤسسات تجارية
قال الباحث السوسيولوجي ورئيس فرقة بحث (ريادة الأعمال الاِجتماعية في الجزائر: الفُرص والتحديات)، البروفيسور ناجح مخلوف، من جامعة المسيلة، إن الجامعات كانت مراكز لنقل المعرفة وتعزيز الفكر النقدي. من خلال الفصول الدراسية والنقاشات الأكاديمية، حيثُ ساهمت الجامعات في تشكيل عقول الأجيال الجديدة، مُتيحةً للطلبة فرصة التفاعل الاِجتماعي والثقافي العميق. في الجامعة اِكتساب تجارب اِجتماعية من خلفيات متنوعة، فالطلبة يتبادلون الأفكار ويكتسبون كيفية التفكير بشكلٍ نقدي ومستقل". وفي ذات السياق واصل قائلاً: "إلاّ أنّه مع ظهور الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة، أصبح الوصول إلى المعلومات أكثر يسراً من أي وقتٍ مضى. من خلال المنصات التعليمية والتي أتاحت للطلبة تَعَلُم مواد مُتقدمة من أفضل الجامعات العالمية دون الحاجة لمغادرة منازلهم، بالإضافة إلى ذلك، ساعدت التكنولوجيا في تسهيل التعاون البحثي الدولي، مِمَّا جعل المعلومات تتدفق عبر الحدود بلا قيود".
واستجابت الجامعات -كما يقول- للتحديات التكنولوجية من خلال تحديث مناهجها وتبني أدوات تعليمية حديثة. كالمختبرات والمنصات الاِفتراضية والمكتبات الرقمية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من العملية التعليمية والبحثية حتّى تُعزّز من تجارب الطلبة وتُوفر لهم موارد قيمة.ومن هُنا -يُضيف المُتحدث- "نطرح التساؤل المُهم حول أهمية الحيز المُخصص للتفاعل الشخصي والحقل الثقافي والفكر النقدي في ظل هيمنة التكنولوجيا؟"
ثُمَ أردفَ قائلاً: "أعتقد أنّه لم تكن التكنولوجيا وحدها العامل المُؤثر، فجذر الشر، إن صحَّ التعبير، يكمنُ في التوجهات الرأسمالية العالمية والنظر في ما وراء مجال التبادل (المقر الخفي) للإنتاج، والتي لعبت دوراً كبيراً في تحويل الجامعات إلى مؤسسات تجارية، وباتت الجامعات تسعى لجذب المزيد من الطُلاب من خلال إستراتيجيات تسويقية مُكثّفة، كما أصبحت الجامعات تُركز على الربحية كمفهوم مركزي مِمَّا قد يُؤثر على جودة التعليم والبحث الأكاديمي، حتّى إنّ هذه الديناميكية تدفعُ الجامعات أحياناً إلى تكييف مناهجها لتلبية متطلبات السوق بدلاً من التركيز على تنمية الفكر النقدي".المُتحدث واصل في ذات المعطى، مؤكداً: "على الرغم من الفوائد العديدة التي جلبتها التكنولوجيا، إلاّ أنّها لم تخلو من التحديات. كالفجوة الرقمية بين الطلبة، حيثُ لا يمتلك الجميع الوصول إلى الإنترنت أو الأجهزة الحديثة، أيضاً تشتت الاِنتباه، مِمَّا يُؤثر سلباً على التركيز والفهم العميق. علاوةً على ذلك، الضغوط الرأسمالية قد تدفع الجامعات إلى إهمال الجوانب الثّقافيّة والنقديّة في التعليم والبحث لصالح برامج تدريبية تقنيّة سريعة العائد".
بعدها أضاف: "أعتقد أنّ التكنولوجيا لن تحل محل الجامعات كلياً في تشكيل وعي مختلف، بل ستكملها من خلال تكامل التعليم التقليدي مع الأدوات التكنولوجية الحديثة والتحوّل في نهج الجامعات للتكيف مع متطلبات السوق دون إهمال الجوانب النقدية والثّقافيّة، بهكذا تَوجه يمكن للجامعات أن تستمر في دورها الحيوي في صناعة الوعي وتطوير الأجيال القادمة".
واختتم حديثه بالقول: "إنّ مستقبل التعليم يبدو مشرقاً، إذا ما تمكنا من الاِستفادة القصوى من كِلاَ العالمين: العالم التقليدي والعالم الرقمي، مع مراعاة التوازن بين الجوانب الأكاديمية والضغوط الرأسمالية".

* أستاذ العلوم السياسية محمّد لخضر حرزالله
قد تُصبح التكنولوجيا رافداً آخر لصناعة الوعي
يعتقد الدكتور محمّد لخضر حرزالله، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بسكرة، أنّ أنظمة التعليم الجامعي على مستوى العالم تشهدُ تحوّلات عميقة خاصةً مع حركية التطوّر التقني وسرعته، وتعدّد وتقدم أنظمة الاِتصال والمعلومات، وظهور صيغ حديثة للتعامل الإلكتروني وسيادة اللّغة والمُمارسة الرقمية، وتعاظم مظاهر التثاقف المعرفي بين الشعوب والحضارات، بفعل الاِنكشاف والاِندماج الكوني بين الأُمم كأحد تجليات العولمة المعرفية والاِتصالية.
كلّ هذه التحوّلات -حسب الدكتور حرزالله- "مثلت تحديات فرضت منطقاً جديداً ومعايير مُستحدثة لجودة التعليم الجامعي وتنافسية البحث العلمي، ودفعت بالحكومات في الدول الرائدة لتبني إستراتيجيات متقدمة لتحديث وتطوير نظام الجودة الأكاديمية والتعليمية، عبر الاِرتقاء بمستوى منظومتها الجامعية، أين حُظيَ الأستاذ والباحث فيها بالأولوية في التكوين والمكانة والتمكين".
وفي المُقابل -يُضيف المتحدث- "لا تزال الأساليب التلقينية والطرائق التقليدية تسودُ أغلب المؤسسات الجامعية عندنا، فلم يشهد نظام التعليم تحوّلات ملموسة موازاة مع التطورات التكنولوجية وتوسع مخرجات البيئة الرقمية، وقد أثرت هذه الطريقة التعليمية على مستوى الوعي وسلوك المتعلمين وطريقة تفكيرهم، فأفرزت نمطاً من التفكير السلبي يمتاز بالتحليل السطحي والملمح التنظيري في تصوراته وأبعاده، نمطٌ يفتقر للبُعد التطبيقي وللروح العلمية الناقدة والخيال العلمي والفني المتَّقد، الّذي يبعثُ على تطوير المهارات وتوسيع المدارك وتفتق العبقرية الفكرية".
صاحب كتاب "تحديات الفجوة الرقمية والمعلوماتية. أردف مُوضحاً: "إنّ من أسوأ ما طفحت به الثقافة الرقمية المعاصرة فاكتسحت به ساحاتنا الجامعية، ما يمكن أن نصطلح على تسميته بظاهرة (الاِنتفاخ المعرفي) أو (التضخم المعرفي)، وهو مصطلحٌ يُشيرُ إلى غلبة (المعرفة السطحية) وطغيان داء التعالم، في وقت تتراجع فيه (المعرفة التأصيلية) والتحقيق والرسوخ العلمي، مِمَّا أفضى بكثير من أبناء الجيل الرقمي إلى حالة من الوهم بمعرفة كلّ شيء، دون إدراك أي شيء".
ومُؤكداً في ذات المعطى: "إنّ الاِنتفاخ المعرفي هو توهم المعرفة دون التمكن من أدواتها ومنهجياتها ومقارباتها العلمية، أو هو تذوقٌ للمعرفة يُشعر صاحبه بنوع من النشوة والغرور، يجعلانه يعتقد أنّه أهلٌ لخوض غمار الجدل ومناطحة العلماء دون تأصيل معرفي دقيق، أو اِتكاء على منهج علمي وثيق، وأمثال هؤلاء يكتفون من العِلم بأوائله، ويأخذون من المعرفة بأطرافها، ولا يُكابدون عناء التحقيق والتتبع، والتحري والاِستشكال والتحليل والتفكيك والاِستنتاج وصولاً إلى (معرفة رصينة مؤسَّسَة)".
واختتم بقوله: "إنّ التعليم الجامعي بحاجة عاجلة إلى ثورة عميقة تجعلُ من الكفاءة عنوانها المُقدس، وتمحِّصه من رواسب الاِرتجال والقرارات الشعبوية والتجارب الخاطئة التي جنت على أجيال بأكملها، حتى تستعيد الجامعة سموها وعنفوانها وحضورها المتألق في حياض المعرفة والريادة والإبداع، ولتصبح نعمة التكنولوجيا رافداً آخر لصناعة الوعي، ورافدا آخر نحو تحقيق غاية الجودة والكفاءة، وليست وسيلة لتفريغ العقول وإزهاق الروح العلمية".

* الباحث لطفي دهينة
الجامعة اليوم تجد مُنَافسة في صناعة الوعي وتكوين الأفكار من الفضاءات الرقمية المُتعدّدة
يقول الأستاذ والباحث في العلوم السياسية الدكتور لطفي دهينة من جامعة قسنطينة3، من جهته: "الجامعة فضاء يجمع روّاد العِلم والفكر، ومكانٌ لتلاقح الأفكار وتدارس العلوم والمعارف وصناعة الوعي، أو هكذا كانت، لطالما ساهمت في تكوين التيارات الفكرية التي تنتج بفِعل حالة النقاش والمُرافعة للرأي ومنها تنشأ المدارس الفكرية المُختلفة التي تُثري الساحة وتجعل من الجامعة مكاناً يعجُ بالحركية وينبض بالحياة".
مُضيفاً: "إنّ اِختزال دور الجامعة في التعليم والتلقين هو نظرة قاصرة تحيدُ بها عمَّا وُجِدت من أجله، فهي جزء أصيل في منظومة مُتكاملة وعضو فعّال في محيطها تُؤثر فيه وتتأثر بمكوناته المُختلفة، وتربطها علاقات متينة وأواصر قوية مع المجتمع بوصفها شريكاً مهماً في تطويره وتنميته وفي صناعة الوعي بين أفراده".
وهنا أردف مواصلاً فكرته: "كما أنّه من الضروري على الجامعة لتنجح في أداء الدور المنوط بها أن تتفاعل مع متطلبات العصر وتُحْسِن التكيف مع تطوراته وعليها التعامل بشكلٍ جيد مع إكراهاته المختلفة، لذلك نجد أنّها لم تشذ عن تفاعل عديد القطاعات مع متطلبات العصر الرقمي وخصوصياته، بل بالعكس وجدت نفسها مُطالبة بأن تقود القاطرة في هذا المجال على اِعتبار أنّها المكان الطبيعي لإجراء الدراسات وتطبيق نتائجها على أرض الواقع، والمحضن الطبيعي الّذي تولد فيه الأفكار والاِبتكارات وتنمو وتتطوّر في مجال الذكاء الاِصطناعي وبحوثه".
الجامعة اليوم -يُضيف المُتحدث-: "تجد مُنَافسة في صناعة الوعي وتكوين الأفكار من الفضاءات الرقمية المُتعدّدة، التي أصبحت جزءاً من يوميات البشر ومكونات الأسرة الجامعية على الخصوص، على اِعتبار أنهم من أكثر الشرائح تعاطياً مع هذه الفضاءات التي تتسم بسهولة نشر المواد المُختلفة بها وسهولة الوصول إليها، كما أنّ زخمها والكم الهائل من البيانات والمعلومات –التي لا يُتاح لنا التأكد من صحتها- يُوَّلِد حالة من الإرباك وخصوصية في تشكيل الوعي لدى روّادها، تتسم بالهشّاشة وعدم اليقين واهتزاز الثّقة في الأفكار والمُعتقدات، مِمّا يجعل عملية صناعة الوعي صعبة بل ومُعقدة، وتتطلب عمليات إفراغ ثم تكوين وتطوير وحماية".
ذات المُتحدث، يُؤكد على أنّ "الجامعة اليوم مطالبة بمواكبة التطورات والتفاعل مع المجتمع لتقوم بالدور المنوط بها، بوصفها تضمُ نخبة المجتمع الذين يمتلكون زمام العلوم، وبإمكانهم -لو توّفر لهم المناخ الجيد للعمل- تقديم الإضافة اللازمة لصناعة الوعي والمساهمة في تنمية المجتمع، وتزويده بالأفكار والدراسات النظرية لتطبيقها على أرض الواقع والاِستفادة من آخر ما توصل إليه البحث والعِلم، وفْقَ رُؤىً معرفية ومنهجية علمية مدروسة".
وهي مطالبة كذلك -حسب رأيه دائماً- بالاِنتقال بالعملية التعليمية من الطريقة التقليدية، إلى الاِنفتاح أكثر على الفضاءات والتطبيقات الرقمية، التي لا جرم أنّ لها بعض الأوجه الإيجابية يمكن تطبيقها والاِستفادة من مميزاتها وخصائصها، التي تسهم في جعل البحث العلمي أكثر دقة ومرونة وربحاً للوقت والجهد والتكلفة، شريطة عدم الاِنغماس فيها والاِنتقال إليها بطريقة غير مدروسة وغير فعّالة، حتى لا نُفاقم المشكلات التي تعاني منها الجامعة أصلاً ونُفرغها من محتواها.


* أستاذ العلوم السياسية فؤاد منصوري
الوعي الحقيقي للجامعة في مواجهة الوعي الزائف لتأثيرات التكنولوجيا
يؤكد الباحث وأستاذ العلوم السياسية، بجامعة عنابة، الدكتور فؤاد منصوري، أن "الدول المُتطورة هي بالضرورة تلك الدول التي تمتلك جامعات قوية بإشعاعها العلمي والتكنولوجي حيثُ تلعب دوراً محورياً في اِقتصاديات تلك الدول بل محركها الأساس نحو التنمية بأبعادها المختلفة. لذلك عمدت الدول إلى تشييد جامعاتها منارة الفكر والعلوم مدركة أنّ مصيرها مرتبط عضويًا بكينونتها".
وحسب رأيه، "يتحدّد الفاعلون في الجامعة في ثلاثية الأستاذ، الطالب والموظف في الحقل الجامعي. ونجاح العملية التعليمية والبيداغوجية مرتبط بهذا الثلاثي من خلال فعّالية مساهمة كلّ طرف في هذا التفاعل".
مُعتبرا، أنّ وظيفة الجامعة تتمثل في التكوين، البحث العلمي والاِنفتاح على حاجيات المحيط السوسيو اِقتصادي بغاية تنمية وتطوير المجتمع.
وهنا أردفَ مُوضحاً: "بخصوص التكوين المنوط بالجامعة الّذي يجمع بين النظري والتطبيقي -في تصميم البرامج- يهدف إلى تخريج طالب قابل للتوظيف في سوق العمل بمعنى ضرورة الحرص على تناغم المعادلة: التكوين/التشغيل وهذا يستوجب علاقة تفاعلية بين الجامعة والمؤسسات المُتعدّدة: الاِقتصاديّة، الإداريّة، الثّقافيّة.. أي علاقة تواصل بين الجامعة ومحيطها السوسيو اِقتصادي ويُوكل للجامعة أيضاً مهمة البحث العلمي بأنواعه النظري، التطبيقي والتطويري (الاِبتكاري)".
وفي ذات النقطة أضاف: "تُعد الجامعة فضاءً اِجتماعياً وعلمياً لها مهمة إستراتيجية في المجتمع بمختلف مؤسساته السوسيو- اِقتصادية والتي تُؤثر كما تتأثر به. وكلما كانت هذه الجدلية فاعلة وناجعة كلما اِنعكس ذلك إيجابًا على مآل ومصير مؤسسات المجتمع المُتعدّدة".
أي أنّ الجامعة -كما يُواصل ذات المتحدث- "تعمل على إيجاد وعي حقيقي مبني على الفكر وقيم الهوية الوطنية لتنوير الفرد بأهم الرهانات والإشكاليّات التي تُواجه مجتمعه في ظل التحديات والاكراهات المُتزايدة التي من بينها تأثيرات التكنولوجيا في عصر رقمي باِمتياز: وسائط التواصل الرقمية كالوسائط الاِجتماعية المُختلفة من خلال ما يُسمى بالمؤثرين مثلاً التي أصبحت مُؤثرة وتعمل على إيجاد وعي من شاكلةٍ أخرى جزء كبير منه غير مبني على فكر المجتمع الحقيقي وقيمه المركزية، بل أحياناً مُهَدِّداً للمجتمع ذاته من خلال التركيز خاصةً على فئة الشباب".
هذا يدفعنا -حسب الدكتور منصوري- إلى التساؤل عن دور الجامعة وكلّ المؤسسات الاِجتماعية والفكرية والرّوحيّة في هذا التجاذب؟
و-حسب جوابه على هذا التساؤل-: "لا يمكن إنكار تأثير تلك الوسائط الرقمية على المجتمع ولاسيما على فئة الشباب في ظل تراجع المؤسسات الفكرية والروحية في لعب دورها في مسألة إيجاد أشكال الوعي الحقيقي التي تدفع بالمجتمع نحو مراتب أسمى ولا تترك مكاناً لأشكال الوعي الزائف بل تجعله يمر دون تأثيرٍ واضح".
وخلُص في الأخير، إلى أنّ نشر الثّقافة والفكر الّذي ينبع من هوية المُجتمع ومخاطب لثقافات غيره وتثمين الجامعة كمركز رئيسي للعلوم والمعارف باِستخدام وتوظيف تكنولوجيا العصر والاِعتماد على وسائل إعلام ثقيلة أو خفيفة ترتقي بالذوق العام للمجتمع من شأنه الحد من تأثير الثقافة "التافهة" المبنية على وعي زائف مُضلِل ينشر ثقافة سطحية ومُبتذلة أحياناً تعتمد على التباهي والتفاخر ضمن ثقافة "الشو" والّذي يُبعدنا عن أهداف مجتمعنا وتطلعه إلى تفعيل قيمه المركزية التي ستضمنُ له مُستقبلاً أكيداً بين الأُمم والشعوب.

* الأستاذ فؤاد جدو
دور الجامعة هو خلق مسارات من الوعي الجماعي
يقول الأستاذ والباحث بقسم العلوم السياسية والإعلام بجامعة بسكرة الدكتور فؤاد جدو، في ذات الشأن: "لا تعتبر الجامعة مكانًا لتخريج الطلبة والكفاءات بِمَا يحتاجه سوق العمل والمجتمع بل الجامعة سُميت جامعة لأنّها تجمع كلّ الأطياف والاِتجاهات والعلوم والمعارف لخلق مسارات من الوعي الجماعي الّذي يهدف إلى خلق توازنات بينها وتوافقات تؤسس لبناء مجتمع متوازن وقوي يمكن أن يُحدّد الهوية السليمة، إلاّ أنّ التحوّلات الراهنة من تقدم تكنولوجي وتزايد اِستخدام مواقع التواصل الاِجتماعي ورقمنة كلّ القطاعات أصبحت درجات الاِنكشافية الإعلامية والمجتمعية عالية وكبيرة مِمَّا زاد من إمكانية الاِختراق وتهديد الأمن المجتمعي والهوياتي عاليًا".
وهنا -حسب الدكتور جدو- "تظهر أهمية الجامعة كفضاء رئيسي في بناء هذه القاعدة الصلبة التي تُؤسس لخلق الأمن الإعلامي والهوياتي والمجتمعي والفكري في إطار ما يُعرف بمنطق الأمننة والّذي يصبُ في إناءٍ واحد ألا وهو بناء الوعي وتحقيق مرجعية قويّة تستند لعامل التاريخ والهوية والفكر وبدونها لا يمكن أن تقوم للمجتمع قائمة بدون هذه الأُسس الفعلية".
فالجامعات في كلّ دول العالم -كما يضيف- كانت منطلقًا للتحسيس بالقضايا المُشتركة على غرار ما حدث في الستينات والسبعينات من القرن الماضي بخوص الحروب والحرب الباردة وقضايا السلام وكما يحدث الآن مع القضية الفلسطينية في كلّ الجامعات العالمية والجزائرية أيضاً وكما كان للطلبة الجزائريين أثناء الثورة التحريرية عبر مشاركتهم في تحرير الجزائر.
فالجامعة -حسب ذات المُتحدث- يمكن أن تتخذ من الطُرق التقليدية عبر التواصل الكلاسيكي القائم على ما تبنيه العلاقة بين الأستاذ والطالب في المدرجات والأقسام كجزء أساسي من العملية التعليمية والتكوينية وبالتالي بناء الأفكار والقيم الأساسية لأي مجتمع في العالم.
من جانبٍ آخر -يقول المُتحدث- يمكن أن تلعب الجامعة دوراً أساسياً في بناء المجتمع والطلبة من خلق مرجعيات للوعي الجماعي والمجتمعي عن طريق وضع خزان من المعلومات والكُتُب والدراسات وكلّ ما يحتاجه المجتمع من مادة علمية لها أثر في بناء الوعي.
وعلى مستوىً آخر تستطيع الجامعة -حسب قوله- أن تتخذ من التكنولوجيا الحديثة مجالاً لبناء الوعي عبر تطوير أساليبها كخلق الجامعات الاِفتراضية التي تسمحُ للأفراد والمجتمع من التواصل والتعلُم وكسب المعرفة.
وفي ذات السياق، أضاف قائلاً: "وأيضاً يمكن أن تقوم باِستغلال مواقع التواصل الاِجتماعي لتقديم الحلول للمشكلات المجتمعية وإعطاء تصورات ونشر القيم السليمة عبر هذه الوسائط، وبالتالي الخروج من النظرة التقليدية للمجتمع للجامعة على أنّها مكان للتخرج وأخذ شهادة وفقط، بل يمكنها أن تستغل أدوات الذكاء الاِصطناعي وتوليد وصناعة الإنتاج المعرفي والوعي بِمَا يتلاءم مع القيم الحضارية للمجتمع".
وفي الأخير خَلُصَ إلى أنّ الجامعة تبقى كعنصر متحرك لابدّ أن يُواكب التحوّلات الراهنة بشكل اِستباقي يكون عبر اِستغلال التكنولوجيا بكلّ مكوناتها حتى تُقدم ما يمكن من حلول عملية وتُساهم في رفع درجات الوعي ووضع مضامين علمية وعملية تُمَكِن من الحفاظ على الأمن المجتمعي في ظل تزايد الاِنكشافية الإعلامية.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com