* النقد فعل حماية وصيانة للأدب من التشويه والتردي
يؤكد الناقد والأكاديمي الدكتور محمّد الأمين بحري، ان ما يثار حول الصراع بين الناقد والكاتب، فكرة تقوم على مشكلة وهمية رَوَّجَ لها بعض الكُتّاب الذين ظنوا بأنّ نقد أعمالهم هو إساءة لشخوصهم، فشنوا هجوماً على كلّ من اِنتقد أعمالهم، أو أشار إلى مُغالطات وسقطات في متونها، مروّجين للرأي العام بأنّ نقد أعمالهم خط أحمر، أو هي من قبيل المُقدساتالتي يحرم نقدها. ومن سياق هذا الوهم النرجسي حوّلوا مسار النقد من النصي إلى الشخصي.
حوار: نوّارة لحـرش
من المُغالطات المُضلّلة عدم التمييز بين الدراسة النقدية وبين الرأي الاِنطباعي
يبدو أنّ قيّم ومُعطيات ومرجعيات النقد الأدبي قد تغيّرت، إذ أصبحَ الكثير من هذا النقد يتناول شخص الكاتب بعيداً عن النص كمتن إبداعي قابل للنقد البنّاء والموضوعي. لماذا برأيك وصل حال النقد إلى هذا المستوى؟
- محمد الأمين بحري: في اِعتقادي السبب الجوهري لهذه المُغالطات حول مُهمة الناقد هو غياب الوعي بالنقد في الساحة الثّقافيّة. وهذا الغياب ناتج عن ضُعف شامل يبدأ من النص لينتقل إلى بقية المُمارسات اللاحقة له ومن بينها النقد، مِمَّا نتجت عنه مُغالطات عِدة زجت بممارسات مختلفة في خانة النقد وهو بريء منها، أبرزها: شيوع الظن بأنّ النقد هو إظهار عيوب للنصوص والحط من قيمة أصحابها، مِمَّا يُوهم النّاس بأنّ هذه المُمارسة تشتغل فقط بالمساوئ والسقطات، وهُنا يبرز الوهم في عدم التفريق بين النقد والاِنتقاد. حتّى أضحت هذه الكلمة مشبوهة كسلاح مُوجه ضدّ المُبدعين للنيل منهم. وهو اِعتقادٌ مُضلل وبعيد عن واقع النقد مفهوماً ووظيفة.
ومن المُغالطات المُضللة عدم التمييز بين الدراسة النقدية وبين الرأي الاِنطباعي حول عملٍ ما (سواء بالإعجاب أو عدمه) الّذي يمكن أن يصدر عن أي قارئ عادي وليس عن الناقد فقط. بينما يتحدّد النقد في أبسط تعاريفه بأنه «معرفة النص»، والمعرفة تعني تحليل مواد المنجم النصي، وبحث مستوياته الفكريّة وأبعاده المعرفيّة، ومحمولاته الشكلية والضمنية، فضلاً عن الجانب التقييمي الّذي يُبرز ما يُقدمه النص لجنسه من ثروات تبنيه، أو ما يشوبه من سقطات تشوه جنسه وتهدمه. وفي كِلا الحالين، يبرز النقد كفعل حماية وصيانة للأدب من التشويه والتردي، وهو في النهاية تغذية راجعة للنص ولم يحدث يوماً أن كان في غير مصلحته. فالمشكلة لم تكن يوماً في النقد بل في فهمنا وممارستنا له. وحين يغيب هذا الفهم والوعي. علينا توقع اِنحراف مساره من محاورة النصوص إلى مهاترة بين الشخوص.
كيف تُفسر ما يحدث؟ يعني: النقد الّذي يتناول بعض الأعمال الأدبيّة لبعض الكُتّاب والكاتبات. هل يعقل أن يترك الناقد النص جانبًا ليتفرغ لشخص الكاتب؟
- يحتمل هذا الطرح تهمة باطلة، تفترض بأنّ الناقد حامل لسيف التجريح والتنكيل بالكُتّاب، دون وازع أو رادع. وهي صورة مشوهة تتنافى وأخلاقيات المُثقف، بل وتاريخه، فالنقد بنى عبر تاريخه حضارات وصحح في الثقافة مسارات، ولم يحدثنا التاريخ بأنّه خرب بنياناً، أو حط من قيمة فلان. فما بالنا نريد أن ننحرف جانباً عن مسار النقد ومُنجزاته في العالم، نحن لسنا في جزيرة معزولة، بل إنّ النقد في الجزائر جزء لا يتجزأ من الحراك الثقافي العربي والعالمي بمنجزاته ومساهماته في مختلف التظاهرات الثقافيّة المحلية والدولية.
أمّا محاولات تشويهه بالزج به في الصراعات الشخصية البينية، فأعتقد بأنّ هذا مُؤشر على اِنحطاط عام في مستوى الخطاب الثقافي لمن يُروِج أو يعتقد بهذا الطرح الّذي يمكن لأي شخص أن يلمس بطلانه إن هو أجاب عن السؤال التالي: ماذا سيستفيد الناقد من الطعن في شخص ما؟؟ يبدو الأمر في غاية السخافة والاِبتذال حينما نربط مُمارسة نقدية لعمل أدبي ما، بالتهجم على صاحب العمل، كأنّ الكاتب قد اِرتكب جريمة حين رفع القلم وأبدع نصاً، وهذه فكرة غير منطقية أستغرب من يضعها في ذهنه ويتبناها. لكن إن ظن شخصٌ ما أو اِدعى بأنّ النقد يحتوى على شيء من التهجم فما عليه إلاّ أن يُتابع المسألة، وصدقيني أنّه حين يستمع عن قرب للطرفين، أو يُطالع النص النقدي سيصل إلى نفي فرضية التهجم الشخصي التي اِنطلق منها، وسيصل في النهاية إلى حقيقتين لا ثالثة لهما: الأولى أن يكون أحد الطرفين (الناقد والمنقود) شخصية ثقافية مُزيفة لا تنتمي لهذا الحقل، ومن هنا ستخرج المسألة تلقائياً من حقل النقاش الثقافي ويتم تجاوزها لعدم التأسيس. والحقيقة الثانيّة أنّ كِلاَ الطرفين (ناقد ومنقود) من أهل المشهد الثقافي وفاعليه، وهنا سيقود الاِطلاع على موضوع السجال إلى بطلان هذه التهمة عنهما.
وعلى جميع شركاء المشهد الثقافي أن يتأكدوا بأنّ حدوث مثل هذا الاِنحراف ناتج بالأساس عن غياب النقد الموضوعي الأصيل، مِمَّا فتح الباب للإساءات والمُلاسنات الغوغائية. ولو نهض نقُادنا من سباتهم ووقفوا بشيء من الشجاعة في وجه هذه المُمارسات بالدراسات الأصيلة والموضوعية للمتون، مُميزين فيها بين الغث والسمين، لظهر في الأدب كما في النقد العمل الحقيقي وافتضح زور الزائف المدعي. ولما كان لهذه الفئة الطفيلية المُزيفة من مجال لاِنتهاك أخلاقيات العمل الثقافي على الإطلاق.
لكن الظاهرة اِستفحلت أكثـر وبشكل يدعو -ربّما- للقلق في الوسط الأدبي الجزائري، أنت من موقعك كناقد ما الّذي يمكن أن تقوله في هذا الموضوع؟
- صحيح، لقد شهدت السنوات الفارطة، سِجالات من هذا القبيل نزلت إلى أحط المستويات اِبتذالاً، على صفحات الجرائد لكن الجميع يذكر (مع حفظ الأسماء) أنّها كانت بين مبدعين وليست بين كُتّاب ونُقاد.
أمّا عن سؤالك المُتعلق بالضجة الحاصلة اليوم بين الناقد والكاتب، وتجربتي الشخصية في ذلك، فأعتقد بأنّ هذه الفكرة في حد ذاتها تقوم على مشكلة وهمية رَوَّجَ لها بعض الكُتّاب الذين ظنوا بأنّ نقد أعمالهم هو إساءة لشخوصهم، فشنوا هجوماً على كلّ من اِنتقد أعمالهم، أو أشار إلى مغالطات وسقطات في متونها، مروجين للرأي العام بأنّ نقد أعمالهم خط أحمر، أو هي من قبيل المقدسات التي يحرم نقدها. وواضح من سياق هذا الوهم النرجسي إرادة تحويل مسار النقد من النصي إلى الشخصي.
كمثال على ذلك عشتُ في وقتٍ سابق حالة غريبة أكدت لي هذا الاِنهيار المهول على مستوى الوعي بالسجال النقدي في الجزائر. وأعتقد بأنّ لهذه المشكلة المصطنعة سبب متعلق بالطرف المنقود، والعِلة في رأيي تكمن في التدخل الشخصي للكاتب للرد عن نُقاد نصه (وهو خطأ جسيم من شأنه تحويل السجال من موضوع بين النُقاد إلى صراع بين كاتب وناقد.. فتتشوه الصورة وينحط المستوى)، وذلك حينما ينتفض الكاتب واهماً بأنّ الاِنتقاد يتقصد شخصه وينال من قيمته كأديب، وينبري للرد بكلّ الوسائل على قراءة نقدية (للنص) لا تعبر في النهاية سوى عن منظور صاحبها. وهذا أكبر خطأ يمكن أن يقوم به الكاتب حينما يتحوّل إلى قارئ مُناصر ومُنافح عن نصه، وهو ما يخرجنا من القراءة النّصيّة إلى الصراعات الشخصية المُبتذلة، أي من أدبيات الثقافة إلى الغوغائية والسخافة. ولم يكن هذا ليحدث لو ترك الكاتب جمهور القُرّاء والنُقاد يختلفون حول أطروحاته ونصوصه التي تكتسي أهمية بِمَا تُثيره في الساحة من سجال واختلاف، فتظهر قيمة النص ويشد إليها فضول القُرّاء مُتسائلين عن سر هذا العمل الّذي جَلَبَ إليه كلّ هذا النقاش النقدي الواسع. لكن بمجرّد التدخل الشخصي للكاتب في ثوب مُناصر لنصه، ويعمد إلى الرد على كلّ مُنتقديه، فسيخرب السجال الثقافي بأسره وينحرف النقاش المُفترض بين النُقاد، إلى ملاسنة مُبتذلة بينه وبين من اِنتقد نصه. وقد حدث هذا الأمر بكلّ أسف بيني وبين أحد الكُتّاب الذين حرموا نصوصهم من سجالات فكرية ونقدية راقية، بتدخله المُباشر والمُفاجئ على منابر الإعلام، حين قام هذا الأخير بوصف مناقشتي الناقدة لبعض نصوصه، بالحقد والمؤامرة التي تستهدف النيل من شخصه...الخ. وبالوصول إلى هذا المستوى تراجع العديد من النُقاد الذين كانوا متحمسين للرد على قراءتي النقدية لنصوصه، وهذا ما أخبروني به بكلّ أسف، جراء التدخل المُفاجئ للكاتب الّذي حوّلَ المسألة إلى صراع شخصي مُعتمداً على تعاليق جرائد وبعيد كلّ البُعد عن جوهر الموضوع المدروس. لذلك أعتقد بأنّ أي تدخل دفاعي من الكاتب بعد نشر نصه بين القُرّاء، سيشوّه قيمته وقيمة النقاش الدائر حوله. وما أجمل أن ينسحب الكاتب من معارك الاِختلاف النقدي حول نصوصه. ليترك النُقاد يختلفون والآراء تتضارب حولها، مِمَّا يرفع نسبة مقروئيتها والاِهتمام بها في الأوساط الثقافية.
وشخصياً أحترم كلّ الأدباء الذين تناولتُ أعمالهم في دراساتي النقدية، لأنّ تلك الأعمال المهمة استفزت قلمي وصنعت قريحتي، ووجهت منظوري، وقام عليها تصوري للمشهد الأدبي في الجزائر.
أستغرب الهدف من الإساءة للأشخاص باِسم النقد
هل من الأخلاق أن يتحوّل بعض النقد إلى إساءات وتصفية حسابات؟
- في الحقيقة أستغرب الهدف من الإساءة للأشخاص باِسم النقد، ولا أعرف لحد الآن الإجابة عن أسئلة محيرة: -ما الّذي ستجنيه كمثقف من وراء تشويهك أو إساءتك لمثقف آخر باِسم النقد؟ ولماذا نكرس جهودنا وأقلامنا لأذية بعضنا، وأين الأدب في الخروج عن النص واستهداف الشخص؟ بل لماذا يعتقد الأديب بأنّ نقد نصه هو تشويه لشخصه؟ هل هناك نصوص فوق النقد؟.
فمن أراد ألا يُنقَد فعليه ببساطة ألا يكتب وينشر عمله للقُرّاء، وأعتقد بأنّ أي نقاش حول نصٍ ما هو في مصلحة النص ودافعٌ فكري لثقافة الاِختلاف التي تسمو بها ثقافات الأُمم.
الاِنحراف عن سكة النقد آتٍ من الفراغ الّذي تركه اِنسحاب أهله
هل يمكن القول إنّ النقد اِنحرف عن مهمته ورسالته وسكته؟ أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد عينات قليلة لا يمكنها أن تشوّش على واقع ومشهد النقد في الجزائر؟
- أعتقد بأنّ الاِنحراف عن سكة النقد آتٍ من الفراغ الّذي تركه اِنسحاب أهله، وهذا الاِنسحاب فسح المجال ليركبه من ليس له بأهل. وطبيعي أن ترى الأدعياء يصولون ويجولون باِسم المثقفين ولا نعدم وجودهم في ساحة النقد. وفي الجزائر، وهنا لا أقول بأنّ الناقد غائب كما يظن البعض بل أقول بأنّه متقاعس ومُتنازل عن مهمته نظراً لإحباط أو يأس من محيطه الثقافي المُتهالك. وشخصياً أُعارض هذا الفكر، فيجب في حالات الاِنهيار والاِنحطاط أن تظهر مقاومة للرداءة ولو بصورة فردية سيتم الاِعتداء عليها باِسم الشذوذ والجنون والسباحة ضدّ التيار...الخ. لكن أقول للناقد الحصيف لا تتخلَّ عمّا يستفز قريحتك من نصوص، فالقُرّاء والكُتّاب والثقافة بحاجتك. فحينما تجد بأنّ ما يُقارب 80 %، من النصوص الإبداعية لا تتعرض لأي نوع من النقد أو حتّى القراءة التقديمية الدعائية في وسائل الإعلام، فيجب أن نفهم بأنّ النقد في حد ذاته صار ظاهرة شاذة ونادرة في أدبنا، إلى درجة أضحى النقد الجاد أمراً صاعقاً للرأي العام، ويتم اِستقباله باِستغراب وصدمة، لذلك يتم تأويله عادةً بطرق تخرج عن طبيعة الأدب، وتنحصر في زاوية التشخيص المقيتة، وهو وضع ينم عن الاِغتراب الّذي صار يحياه النقد والناقد عندنا.
في الأخير: كيف تتصوّر مستوى ومستقبل النقد، وهل يمكن أن يعود إلى سكته كي يُواصل مسيرته ودوره في مواكبة الأدب؟
- في النهاية النقد أكثر من كونه أخلاقيات ومبادئ، هو تقاليد عريقة، ومعرفة علمية وفنية عميقة تتأسس على النصوص والمُدونات الأصيلة، وبعيداً عن الأوهام والمُغالطات هو صنو الأدب، إبداعاً وموهبة، يحمل رؤية ومنظوراً واستراتيجية، باِعتباره تغذية راجعة للأدب، ولدينا في الجزائر جيل شاب، ينهل من آخر تحديثات الفكر والفلسفة والنقد في العالم، جيلٌ صاعد يسير بلا آلهة أو أسماء كبيرة تحجب عنه ضوء الشمس، وأقولها بكلّ تفاؤل، برغم كلّ التشويهات التي تُحاول النيل من الجهود النقدية هنا وهناك، انتظروا في السنوات القليلة القادمة اِعتلاء النقد الجزائري منابر الريادة عربياً وعالمياً، بناءً على ما أراه من جهود وأنشطة جادة يعكف عليها حالياً جيلٌ صاعد من الأكاديميين والنُقاد والمُفكرين الشباب الذين بدأت بوادر منجزاتهم الرصينة في شق طريقها بخطى ثابتة.