ذهب حسين خمري إلى الموت بكتابين كان يريد مطالعتهما إذا طال العلاجُ قليلاً، لم يطل العلاج لأنّ الموت جاء سريعاً. لم يعد إلى البيت. لم يعد إلى الحياة الهادئة التي عبرها على عجلٍ ونام في خميسٍ باردٍ وحزين بمقبرة زواغي غريباً، كما يليق برجلٍ خجولٍ وغير مبالٍ بالترتيبات التي تقتضيها الأحوال.
لم ينتبه إلى قلّة من الأصدقاء وقفوا في انتظاره بباب الجبّانة. لم يلوّح لهم بيده ولم يلوّحوا. كانوا يستعيدون حياته القليلة ويقيسون الخسارة من مختلف الزّوايا، وكان يستعجل هجعةً بعد ليلة "بيضاء" قضاها في مستشفى ذهب إليه لقراءة كتابين واستنشاق ما يكفي من أوكسيجين للذّهاب إلى اليوم الموالي.
توارى بلا ضجيج أو جنازة، كما عاش في حياته "السّريّة" مستسلماً لهدير نصّها من دون مقاومة وهو رجل العقل والمنهج. حماه الحياءُ الجليل ممّا أصاب غيره من الذين يسرفون في الإشارة إلى الذّات أو الذين تحوّلوا إلى "مستشرقين" لمجرّد أنّهم درسوا لأشهرٍ معدودات في جامعاتٍ غربيّة أو الذين لا يكفّون عن هجاء الجغرافيا والشكوى من وجودهم في مكان لا يجري فيه تقدير حمولاتهم على النّحو الصّحيح.
ظلّ وفياً للبساطة وبعيداً عن الأضواء إلى درجة أنّ صوّره غير موجودة في الفضاء الأزرق الذي يعجّ بالصوّر والثرثرة، وحين يرسل مقالاته للنّشر، مثلاً، فإنّه يصفها بالمحاولات التي يترك للمرسل إليه أمر نشرها أو إهمالها في سلوك نادر في عالم الكتابة.
والغريب أنّ الرّجل المدجّج بأسلحة السيميولوجيا لم يتخلّص من دهشة الطّفل والشّاعر، إذ يجيبك بعبارته الأثيرة: "آيّا برْكانا" عندما تخبره بأمرٍ بسيط، كأنّه يدربّك من حيث لا تدري ولا يدري على تسبيق الشكّ على اليقين، و ظلّ يخفي خلف الوجه الصّارم الذي يتحدّث عنه طلبته وجهاً مرحاً يعرفه أصدقاؤه، وربما كانت تنقصه، كغيره من العلماء المنصرفين إلى علومهم، الحيلة الضروريّة للعيش في زماننا وفي فضاء جامعيّ له مقاييس غير مُنصفة في التقدير، ولعلّ ذلك ما جعل اختفاءه حدثاً عادياً لا يثير الاهتمام في جامعة قسنطينة.
حسناً، لن نصدّق غيّابك، مثلما لم تصدّقه طفلتك وهي تستوقف الطائرات على الضّفة الأخرى للمتوسّط لعلّها تلحق برائحتك، ولن نجد أبلغ من لغتك في الردّ على الغياب وخبره وعليك في هجعتك: آيّا برْكانا !
سليم بوفنداسة