ظهرت في السنوات الأخيرة على سطح المشهد الثقافي الجزائري ظاهرة «موسم الدخول الأدبي الجديد»، ومعها بدأ الكُتاب يتسارعون كلّ عام لإصدار كتبهم تزامنا مع هذا الموسم للدخول الأدبي من أجل تسجيل بعض الحضور ليس إلاّ، حتى وإن كان حضورا بمعناه الرمزي أو الاستعراضي لا أكثر.
إستطلاع/ نــوّارة لحـــرش
في هذا العدد الجديد من «كراس الثقافة» نحاول جس أراء بعض الكُتاب والمهتمين بشأن الكِتاب، لمعرفة نظرتهم/رؤيتهم لـــ»موسم الدخول الأدبي»، وهل عندنا حقا تقاليد خاصة بالدخول الأدبي حسب مقاييس ومعايير الدخول الأدبي في بقية البلدان الأخرى المعروفة بتقاليدها الراسخة في هذا الشأن. أم أنّ «الدخول الأدبي» بمعناه الحقيقي غير موجود، ولا يعدو أن يكون مجرّد فرقعات إعلامية من أجل ملأ بعض الفضاء الإعلامي، وفضاء المشهد الأدبي/الثقافي عموما. أيضا هل اجترار الإصدارات القديمة في طبعات جديدة يمكن أن يُشكل حقا خصوصية وثراء موسم الدخول الأدبي الّذي يتحدثون عنه ويحتفون به، والّذي يرتبط غالبا بالدخول الاجتماعي، رغم أنّ المواسم الأدبية كما هو شائع عالميًا تخص أكثر تقديم الإبداعات الجديدة والاحتفاء بها. وهذا ما يشكل عندها حدثا ثقافيا، ودخولا أدبيا حقيقيا، تجتهد من أجل موسمه طوال العام.
هذه أسئلة مهمومة ومشغولة بما يُسمى «موسم الدخول الأدبي» في الجزائر. وفي هذا الملف، كُتاب وأدباء يتحدثون عن الظاهرة، كلّ حسب مفهومه وقناعاته ووجهة نظره.
الحبيب السايح/ روائي
الدخـول الأدبـي في الجزائـر لا حـدث
أشعر بقليل من الخجل وبكثير جدا من المرارة إذ أتحدث عن الدخول الأدبي في الجزائر. إنّه كان ولا يزال اللاحدث. ـ رياضة كرة القدم العرجاء والرقص والحفلات الممولة من الخزينة العمومية هي التي تظل مستأثرة بالاهتمام إليها، لأنّها أقوى وسيلة للتلهية عن المشاغل الحضارية، التي يعتبر الدخول الأدبي واحدا من أهم عناصر الحركية الثقافية والجمالية، في الدول التي تحترم ثقافتها وتدافع عن خصوصيتها وتحمي وجودها.
المتتبعون للشأن الثقافي والأدبي من الإعلاميين الجزائريين، وهم في غالبيتهم كُتاب، يملكون كثيرا من المؤشرات على ما تطرحه دور النشر الجزائرية في سوق الكتاب العلمي والفكري والأدبي، الروائي منه خاصة. فقد يكون الأمر مفيدا جدا لو أنّهم يكشفون بالأرقام ذلك، لتظهر الحقيقة التي تثير الغصص.
أمّا ما تعلق بتصور الكِتاب وبإخراجه كما في ترقيته وفي توزيعه فأكثر إثارة للحزن، برغم الإمكانات الجزائرية، لأنّ سوق النشر، كما كثير من الأسواق الأخرى دخلها من ليس أهلا لها، إلاّ قليلا من الدور التي لها تقاليد مطبعية ونشرية موروثة الرسوخ.
وكيف يمكن الحديث أيضا عن دخول أدبي في ضعف مزمن لشبكة التوزيع على مستوى التراب الجزائري كلّه وانعدام آليات الترقية في الصحافة المكتوبة وفي القنوات الإذاعية والتلفزية الجزائرية وتورّط دور النشر في عملية ترقية الكِتاب والكاتب؟. ثمّ إنّ المتتبعين من الإعلاميين للشأن يستطيعون أن يحسبوا، ولكن على أصابع أيديهم، عدد كُتاب الرواية الجزائريين باللّغة العربية وبالفرنسية معاً المقيمين في الجزائر الناشرين في دورها. أعتبر ذلك أحد المعايير التي يمكن أخذهما في النقاش إذا ما أردنا أن نتحدث عن نوايا دخول أدبي كما يتم في البلدان المطلة علينا من الضفة الأخرى. فسنونوة واحدة لا تصنع دخولا أدبياـ كما هي لا تصنع ربيعاـ.
ففي غياب إستراتيجية نشر مدعمة بتحفيزات ضريبية لصالح الناشرين المحترفين فعلا، الذين يغامرون بطبع النصوص الأدبية، للتخفيف عنهم من أعباء الكلفة حسب دفاتر تحملات واضحة، لا يمكن الحديث أيضا عن دخول أدبي. فلن يبلغ دخول أدبي في الجزائر، كونه حدثا سنويا، من غير إنشاء جوائز رمزية التقدير لأحسن الأعمال الروائية والشّعرية والقصصية في الإضافة النوعية للمتن الجزائري. بذلك ينتشر الكتاب وتتطور الكتابة، ومن ثمّة تتوسع دائرة المقروئية لإحداث شغف انتظار الدخول الأدبي كلّ عام.
نصيرة محمدي/ شاعرة
لم نبلغ بعـد ما يُسـمى “ الدخــول الأدبـي ”
مازلتُ عند رأيي الأوّل، وهو أنّنا لم نبلغ بعد ما يُسمى «الدخول الأدبي» كما يحدث في الدول المُتطورة التي تُهيئ لهذه المناسبة كلّ الوسائل، وتُجند شبكة عمل مُنظمة ومتوازنة من دور نشر ومكتبات، ووسائل إعلام، ووسائط معاصرة كالمواقع الاجتماعية التي تروج للكتب والجوائز الأدبية. وتعمل الصحافة على تتبع أهم الإصدارات الجديدة، والتعريف بكُتابها، وخلق أجواء من التنافس والحيوية في المشهد الأدبي والثقافي.
مازالت مؤسساتنا غير احترافية في بلورة هذه العملية، واستقطاب الأعمال الجديدة، والاهتمام بالأسماء الجديدة، واكتشافها في حقل الأدب والإبداع، ومن ثمّ خلق التميّز والسبق في إثارة السِجالات الأدبية العالية، وتتبع القُراء والنُقاد لِمَا يولد من روايات وبحوث أدبية وشِعر. ولو أنّنا نشاهد انسحاب الشِّعر لصالح الرّواية التي باتت تتصدر المشهد والسوق. وتركيز عالم الميديا على الرّواية ورصد أهم الجوائز لهذا الجنس الّذي يظل الأقوى تأثيرا وانتشارا وإقبالا من كافة القراء، بمختلف تخصصاتهم. لذلك لا يمكن الحديث عن تقاليد راسخة وحقيقية في الجزائر عن الدخول الأدبي، والخروج من دائرة الرداءة والفوضى التي نعيشها على كافة المستويات.
وفي ظل هيمنة جماعة منغلقة على حسابات ومصالح ضيقة تتحكم في أهم حدث ثقافي وأدبي في الجزائر، وهو معرض الكتاب الّذي يظل فرصة الجزائريين الوحيدة للاطلاع على جديد عالم النشر واقتناء الكُتب، ولقاء الكُتاب، وتتبع عمل الصحافة والإعلام في خدمة الكِتاب والترويج للأعمال الأدبية باحترافية وموضوعية.
كما يجب التركيز على الجديد وليس إعادة نشر واجترار أعمال سابقة، وإتاحة فُرص النشر للشباب. لأنّ الأسماء المُكرسة تُحظى بالرعاية دائما. ورغم هذا علينا أن نتفاءل بأنّ المستقبل يقتضي الأفضل كما أؤمن دائما بامتلاك الشجاعة والإرادة من الدولة والقِوى الحية الفاعلة للتفكير في مشروع ثقافي حداثي ووطني تُشارك فيه جميع الأطراف والحساسيات وتجسيده في الواقع واستمرار المؤسسات في دعمه والانفتاح على التجارب الكُبرى في العالم والاستفادة منها للخروج من هذا التخلف وترسيخ تقاليد ثقافية وأدبية عالية.
بشير مفتي/ روائي
تسمية لا تنطبق كثيرا على وضعيتنا
يرتبط ما نسميه بالدخول الأدبي عندنا بمعرض الكتاب الدولي للكتاب وهو بالفعل فرصة للالتفاف حول الكُتب الجديدة، حيث يقبل القُراء من كلّ ربوع الوطن ومُختلف مناطقه لاقتناء آخر الإصدارات. وتيمنـا بما يُسمى في فرنسا بالدخول الأدبي قبلنا هذه التسمية التي طبعا لا تنطبق على وضعيتنا، ولكن لا أجد مُشكلا في أن نحرص على هذا التقليد الّذي مهما كان نقصه فهو شيء جيّد على العموم، إلى جانب ذلك يلعب الإعلام المرئي والمكتوب دورا في تسليط الضوء على جديد الكُتاب، وهذا في حد ذاته شيءٌ جيّد في ظل غياب المعطى الأدبي على الصحافة الجزائرية عمومًا.
لكن لا يجب تغطية الشمس بالغربال كما يُقال لأنّ هنالك مشاكل عديدة يُعاني منها الكِتاب الأدبي اليوم: سوء توزيع، قِلة مكتبات، جامعات مشلولة، غياب مجلات أدبية وثقافية تساهم ولو بالقليل في الرفع من معنويات الكاتب الجزائري، وهي مشاكل واقعية ملموسة نجرها منذ عهود وبح صوتنا تنديدا بها لكن يبدو أنّ لا أحد يستمع إلى صوتنا الضعيف الأثر..
للأسف لم تفعل المؤسسة الرسمية شيئا يُذكر لحل هذه المشاكل، أمّا الخواص الذين اغتنوا من الريع المالي في سنوات البحبوحة فلقد انسحبوا الآن، ولكن أثرهم السيئ على الكُتب ما يزال مُؤثرا، لقد خسرنا فرصة نهوض ثقافي حقيقي في تلك الفترة، وها نحن نعود إلى نقطة البدء حتى لا أقول الصفر.
لا متشائم ولا متفائل، فقط في منطقة من الحيرة والقلق والسؤال والإحساس بالخسارة، كان يمكن فعل الكثير، وربّما لم يذهب الوقت بعد لفعل هذا الكثير، ولكن لا أظن هنالك رغبة في الذهاب إلى العمق ولهذا السطحية والرداءة تقتل فينا كلّ يوم حس المقاومة وتسقطنا في شلل الانتظار..
صراحةً توجد خيبة كبيرة رغم أنّ الظاهر يُوحي بتحقق أشياء كثيرة لكن يظل ما نتمناه مفقودا وواقعنا الثقافي بائسا والدخول الأدبي كوهم جميل مُرحب به طبعاً.
الخير شوار/ قاص وروائي
أقرب إلى “ الإشاعة ” منه إلى الحقيقة!
الأمر متعلق أساسا بسوق حقيقية للآداب، ومن هذا المنطلق فإنّ مصطلح «الدخول الأدبي» عندنا أقرب إلى «الإشاعة» منه إلى الحقيقة، وصادف أن جاء تنظيم الصالون الدولي للكتاب منذ سنة 2000 مع الدخول الاجتماعي وتحوّل من خلاله «الدخول الأدبي» إلى مصطلح إعلامي لا يعبّر بدقة عن المضمون المعروف في الدول التي تعرف صناعة حقيقية للكتاب بأنواعه، وتعرف أيضا سوقا منظمة لهذه النوعية من السِلع الاقتصادية.
لقد دأبت وسائل الإعلام عندنا على استعمال هذا المصطلح المأخوذ في الأصل من الصحافة الأجنبية للتعبير عن ظاهرة غير موجودة. ورغم جهود بعض الناشرين في نشر الكِتاب وتسويقه بوسائل مختلفة إلاّ أنّ الصالون الدولي للكتاب الّذي أصبح بمرور السنين المعيار الأوّل (والأخير) لهذا الدخول المزعوم، يشهد في كلّ مرّة مشاركة الناشرين بكُتب قديمة عادة ما تكون طُبعت في وقت سابق ويُعاد تسويقها وكأنّها طُبعت الآن، إضافة إلى كُتب لناشرين أجانب مر على طبع الكثير منها سنين عديدة، ولو تمّ تخصيص صالون للكِتاب المحلي في بداية الدخول الاجتماعي لكانت الصورة أوضح ولا تحتاج إلى أي تعليق، والأمر مُتعلق في كثير من الإصدارات الأدبية بكتب مدعومة من الخزينة العمومية دون أن يجد لها القارئ أثرا في السوق بسبب كارثة التوزيع التي تحتاج إلى حديث آخر.
آسيا علي موسى/ كاتبة ومديرة دار ميم للنشر
يجب الحديث عن مكانة الأدب في حياتنا قبل أن نفتعل له دخولا وموسما
للحديث عن الموسم الأدبي يجب الحديث عن مكانة الأدب أولا في حياتنا وأيّامنا العادية قبل أن نفتعل له دخولا وموسما وموعدا للاحتفاء. هل للأدب حقا فضاء، وحضورا جادا؟ وما رؤية المجتمع له، وما المطلوب من الناشر والكاتب أن يفكرا فيه قبلا، هل: متى أطلق الكتاب الفلاني أو هل سأطلق الكتاب الفلاني أو لمن سأطلق الكتاب الفلاني؟. وهل الأدب مواسم وهبّات ظرفية أم حياة تُمارس وتُعاش وتُحترم وحاضرة يوميا؟
الدخول الأدبي في البلدان التي لها تقاليد راسخة، تعني أن يطأ المهتمون عتبة البيت الأدبي المتجدّد بما يحمله من تأثيث للمشهد، يتهافت لمتابعة الجديد على مدار السنة ومكافأة المستحقين من خلال الجوائز التي تعد بالمئات، أما عندنا فالموسم أيّام معدودات وحدثٌ يمر، وإلاّ كيف نُعلل ونفسر هبّة الإعلام الآن تحديدا ليسألك: ما رأيك؟ ويغفل أن يسألك على مدار العام ما جديدك؟، سؤال ينبغي أن يُطرح دوريًا وكلّ وقت وتقليد حري به أن يّكرس لصنع القارئ المُتابع، والكاتب المُحفزّ والناشر المُتجددّ. هذا وأمام حيرة الناشر- أتحدث هنا عن الناشر المُتخصص في المجال الأدبي-على قلتهم- كم منهم سيغامر بعدد من العناوين يترقب لها -موسما- وحيدا وهو معرض الجزائر الدولي للكتاب –بات التقليد الثقافي المُترقب من طرف المواطن لأسباب تتباين- ثمّ تتراصف الكُتب بعدها في مكتبات تُخصص لها الرفوف الأضيق ويتكالب عليها الغبار والترقب.
لا أحد يجهل، وإن دلت مظاهر الإقبال على الكِتاب على عكس ذلك، مِما يثير تفاؤلا مغلوطا- دون أن أعني هنا أنّني متشائمة إلى الحد الّذي يقتلني كناشرة اختارت التخصص الأدبي كمغامرة غير مضمونة العواقب حتى لا أقول أسوأ من ذلك. لا أحد يجهل مستوى المقروئية عندنا، أتحدث عن قارئ نوعي يفتش عن الجديد بفضول المُتبصر المُستكشف، أتحدث عن قارئ لم تتوقف ذاكرته عند اسم أو اثنين كرسهما الإعلام واحتاجهما بحث وفرضتهما ضرورة، لا أتحدث عن قارئ يتباهى بكمّ التنوع الّذي تضجُ به مكتبته، بل عن قارئ حقيقي، تعرفه من طريقة تفحصه للكِتاب، كم قارئا من هذا النوع تلقاه من بين الآلاف زائر؟، كلّ شيء يتجدّد في عالمنا كلّ يوم والأرض تضج بالخيرات والمواهب، فلِمَ نهدر ونقتل باللامبالاة وسوء التسيير والتخطيط وضيق الأفق كلّ جديد، لِمَ لا نُنصف ما هو جميل ونقدمه فقط على هذا الأساس دون معايير مصلحجية ورهانات بليدة تعتمد الفرقعة الإعلامية والرواج فحسب على مدار السنة نهبها فرصًا أكبر.
نعم هناك الكثير من المجهودات في انتظارنا إن أردنا -جميعا وعلى كلّ المستويات- أن نُغير الكثير من الذهنيات والسلوكات لنرقى إلى مصاف الدول التي تحترم ذاتها باحترام مكانة الثقافة –فعلاً وجديًا- بإرساء عادات وتقاليد لا تنفصل عن واقع الحال بل تمسك بخيوطه. المواسم الأدبية لا تنبع من محاكاة بلدان أخرى بل من تغيير كامل وواعي للمشهد وإعادة القراءة إلى مكانتها ودعم الناشر الجاد والكِتاب الجيد، فلا أمة ترقى من غير رقي فعلي للأدب في حياتها وكما يقال: أكثر المُدن بلادة لا تخلو من الشّعر.
دار «ميم للنشر» تنتظر كما الجميع معرض الجزائر الدولي لتقدم جديدها –تغامر الدار بتقديم الجديد أدبيًا والجاد- ولكن ماذا بعد؟. على المسؤولين على الحقل الثقافي السعي لتكثيف التقاليد الثقافية على مستوى كلّ مُدن الوطن وألا يبقى الحدث حِكرا على العاصمة فقط، وعلى الإعلام أن يلعب دورا أكبر وأكثر جدية، وعلى دور النشر أن تتجرأ أكثر بدلا من ركوب موجة الاستهلاك والحسابات التجارية فقط.
النشر رسالة ثقافية قبل كلّ شيء. أتحدث هنا من موقعي كناشرة والكتابة روح الأمم، أتحدث بروح القلم الّذي زجني في هذا العالم، وعلى الكل تحمل مسؤولياته. لنكن جادين قليلا ولنتوقف عن تنميق الحقائق.
بوداود عميّر/ كاتب ومترجم
عندما يصبح الصالون الدولي للكتاب بديلاً عن الدخول الأدبي
هل يحق لنا أن نطلق وصف «الدخول الأدبي» على واقعنا الثقافي وفي علاقتنا مع الكِتاب، نشرا ورواجًا وتوزيعًا، مثلما هو الشأن في الغرب؟ وهل نملك حقًا إمكانيات وآليات تجسيد ذلك؟ الدخول الأدبي عندهم، عبارة عن منظومة مُتكاملة، تستمد أسباب نجاحها بفضل تقاليد راسخة وآليات عمل مُرتبة، يُساهم الجميع بتظافرهم، في بلورتها وتجسيد عناصرها على أرض الواقع: دور النشر، الكُتّاب، وسائل الإعلام المكتوبة، المسموعة والمرئية، وسائط التواصل الاجتماعي، الجوائز الأدبية، المقروئية، معارض الكُتب... هكذا تبدو الهُوة شاسعة، عندما نقوم بمقارنة بسيطة، لا يبدو هناك بالتالي جدوى، من محاولة تقليد تجربتهم ولو شكليًا، أمامنا أولويات كثيرة، تبدو أساسية وجوهرية، قبل الوصول إلى هذه المرحلة، بل لا يمكننا بلوغ العتبات الأولى لهذه المرحلة من دون السعي إلى تحقيق أسبابها، وتحضير الأرضية المناسبة لبلورتها: الغياب التام للمجلات الثقافية والأدبية، انعدام الاهتمام بالجانب الثقافي والأدبي تحديدا، في مختلف وسائل الإعلام، قلة البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تُعنى بشؤون الكتاب والأدب، الخلل في عمليات نشر وتوزيع الكِتاب، ظاهرة تراجع المقروئية، المكانة المتدنية للأعمال الأدبية الجزائرية في المناهج المدرسية وفي الجامعات...
ولأمر ما، يبدو موعد الصالون الدولي للكتاب في الجزائر، ما يشبه البديل عندنا، لما يطلق عليه «الدخول الأدبي»، الّذي اتضح بما لا يدع مجالا للشك، أنّه بعيد المنال، المناسبة تلك، صارت تشكل الفضاء الوحيد في بلدنا، الّذي يلتقي فيه الكتّاب من كلّ أنحاء الوطن، ويُحظى بإقبال كبير من القُراء من جميع جهات الوطن، ولعلّه المناسبة الوحيدة التي يُعلى فيها شأن الكتاب، بفضل التغطية الإعلامية التي يحظى بها، والفرصة الثمينة التي تتسابق فيه دور النشر لترويج أعمالها الجديدة.
كيف يمكن، والحال كذلك، استغلال هذا الحماس والإقبال والتنافس والجدية في التنظيم والتغطية الإعلامية، والرعاية الحكومية، التي يشهدها الصالون الدولي للكتاب، وكيف يمكن تعميمها لنخلق بدل صالون واحد، ينظم في توقيتٍ محدّد، ومكانٍ مُحدّد، إلى مجموعة من الصالونات في جميع الولايات أو أغلبها، بتوقيت مُختلف وأماكن مختلفة، ذلك فيما يظهر، هو الرهان الحقيقي الّذي يبدو في متناولنا، لتحقيق الحد الأدنى من «دخول أدبي» ينسجم مع قدراتنا وإمكانياتنا التي ليست بالضرورة مادية.
توفيق ومان/ مدير دار فيسيرا للنشر
الصالون الدولي للكتاب موسم الدخول الأدبي
لا توجد في الجزائر تقاليد تسمى بالدخول الأدبي أو الثقافي، فالدخول الاجتماعي هو الأساس والطاغي على كلّ المشاهد الأخرى سواء الحياتية منها أو الأدبية، فالدخول الاجتماعي في الجزائر أصبح رزمة تنطوي تحت ظلها كلّ النشطات الأخرى ولكن قبل سنوات ومنذ عودة الصالون الدولي للكتاب وتسجيله في الأجندة العالمية بأن يكون بين شهري أكتوبر ونوفمبر، أراده القائمون عليه بأن يكون بمثابة الدخول الأدبي والثقافي في الجزائر وهذا لا يعني أنّ للجزائر «دخول أدبي» تنتظره الهيئات والأدباء والمثقفين لطرح جديدهم وإصداراتهم وتخصيص ندوات أدبية وفكرية، فصار الصالون كمركب تجاري تُباع فيه الكُتب كسلعة للأسف، لأنّه لا توجد استمرارية النشطات والندوات بعد انقضاءه مباشرة.
أمّا فيما يخص النشطات الأخرى التي تُقام هنا وهناك فهي نشطات أسميها بالموسمية أو بالأحرى مناسباتية، أمّا فيما يخص إعادة النشر بحجة نفاذ الكمية هذا لا يعني رواج هذا العمل أو ذاك، فإعادة النشر لأنّ الكميات التي تمّ طبعها هزيلٌ جدا فأصبح الناشر أو الكاتب يقوم بطبع 500 نسخة والـ1000 نسخة إلى من استطاع إليها سبيلا، فصارت عملية الاجترار الأدبي وطبعا لا يوجد إبداع متجانس مع نسبة تزايد الفرد الجزائري، حتى وإن وُجِدَ إنتاج إبداعي فهو مقتصر على مجموعة معينة من الذين يهيمنون على الساحة الأدبية وتكرست إعلاميًا مع أنّه توجد أقلامٌ شابة مُهيمن عليها ولا تستطيع الظهور أو النشر إلاّ من ساعفته الأقدار. زد على ذلك خصوصا هذا العام أين شاهدنا غلاء سعر الطبع مع ارتفاع سعر الورق والألواح مِمَا زاد في أزمة النشر، خاصة بعد تراجع عنصر الدعم وهذا بسبب سياسة التقشف. للأسف هنا نرى تردي الوضع الثقافي عموما في الجزائر.
أبو بكر زمال/ كاتب ورئيس جمعية البيت للثقافة والفنون
نفتقد إلى تقاليد والنشر في الجزائر مجرد تجارة
من خلال ما نلاحظه بشكل عام، المشهد الجزائري يفتقد لتقاليد الدخول الأدبي، لأنّ هذا الأمر يتطلب صناعة مُواكِبة وطويلة للكِتاب وتقاليد تترسخ في المشهد كلّ يوم أكثر، والدول المعروفة بموسم الدخول الأدبي لها تاريخٌ عريق يخص الكِتاب، صناعةً وحِرفةً ودعامات أخرى كثيرة مُتصلة بهذا الشأن من نشر ودعاية وإشهار وإستراتيجية تسويقية، أمّا في الجزائر للأسف نفتقر إلى كلّ هذا، حتى تاريخ النشر عندنا حديث العهد، ربّما ليس له أكثر من 40 سنة، حيث كانت دور النشر تُعد على أصابع اليد الواحدة، لكن في السنوات الأخيرة وخاصة بعد فتح مجال الدعم من طرف الدولة (قبل أن يتوقف أو يتقلص الدعم) ظهرت على مشهد الطبع الكثير من دور النشر وهي تحاول الاستفادة من هذا الدعم الّذي تقدمه الدولة.
الأكيد أنّ الدخول الأدبي عندنا مُجرّد تناول إعلامي يكثر ويتكثف مع كلّ طبعة جديدة من معرض الجزائر الدولي للكِتاب، فنجد في هذه الفترة الإعلام مُنشغل بالحديث عن هذا الدخول، ومعه الوسط الأدبي والثقافي الّذي ينشغل بوتيرة لا تهدأ وكأنّ هناك حقا دخولا أدبيًا يُشكل حدثــا ما. في الحقيقية عندما نتحدث عن هذا الدخول الأدبي، نقف على حقيقة راسخة، هي أنّ الناشر الجزائري مُرتبط بكل ما هو تجاري، ولهذا فهو يُركز أكثر على الدخول المدرسي وعلى الكِتاب المدرسي الّذي يكثر عليه الإقبال مع كلّ موسم دراسي، وبالتالي الدخول المدرسي يضمن للناشر المكسب التجاري والربح الكبير في حين لن يُحقق هذا المكسب في الدخول الأدبي، طبعا من حقه أن يُفكر من زاوية الربح والمكسب، لكن هذا لا يمنع أن يهتم أكثر بالكِتاب الأدبي.
طبعا دور النشر في الجزائر القديمة والجديدة تهتم أكثر بالكِتاب المدرسي لأنّه مُربح أكثر، ومع هذا حدثت طفرة في نشر الكِتاب الأدبي، ففي الأعوام الأخيرة ظهر في الجزائر الناشر الّذي يهتم بالجانب الأدبي وبالكِتاب الأدبي وأصبحت عندنا دور نشر تهتم بطبع الكِتاب الأدبي، هذه الدور أحدثت طفرة في مشهد النشر الجديد، لكن للأسف لا تعتمد على إستراتيجية واضحة في هذا الجانب ومنها الاستثمار في الكِتاب والكاتب، الناشر عندنا لا يعمل بالتقاليد المعروفة في سوق استثمار الكِتاب، كالدعاية والإشهار وتقديم الكَاتب وعمله إلى الإعلام وتسويقه وغيرها من الملتزمات، إنّه لا يفعل هذا من أجل الكاتب والكِتاب، وأكثر ما يمكن أن يفعله حفلة بيع بالتوقيع كي يضمن بعض المبيعات. وهذا ما نلاحظه في كلّ طبعة من صالون الكِتاب والّذي يُدرج ويُلصق بما يُسمى موسم الدخول الأدبي. وهذا الدخول يكون مُرتبطا بالرّواية بشكل عام، فالروايات هي التي تشكل الدخول الأدبي في الجزائر لأنّ الناشر الجزائري يُراهن على الرّواية من ناحية الكسب، لكن للأسف لا توجد في ذهنه نية/ورغبة الاستثمار في هذا الجانب، لأنّ هذا لم يترسخ بعد لا في ذهنه ولا في مشروعه كتقليد، لأنّ عقليته تجارية بالأساس. في حين الكِتاب هو حِرفة وهو جهد لبناء عقل، والحقيقة أنّ الناشر لا يهمه الدخول الأدبي بقدر ما يهمه الدخول المدرسي، ودور النشر سواء العريقة أو الجديدة تستثمر في الكتاب المدرسي أكثر من الكتاب الأدبي وحتى الآن مازالت العلاقة بين الناشر والكاتب مرتبكة وبلا تقاليد في التعاملات والتواصل ولا تخرج عن الإطار التجاري.
الناشر لا يسعى ولا يجتهد في صناعة الكِتاب الأدبي كما هو حاصل في معظم الدول، لا يستثمر فيه ولا يرقى به ولا يوفر ولا يقدم كلّ ملتزمات الكتاب التي تخصه كصناعة وحرفة وجودة وكأنّ الناشر مكتفي بما هو موجود، ولا يغامر ولا يراهن على شيء، لا على عنوان ما ولا على كاتب ما.
أيضا هناك بعض الكُتاب نراهم يُعيدون طبع أعمالهم كي يتزامن صدروها مع معرض الكِتاب رغم أنّ نسخهم الأولى ما تزال مكدسة وفي حالة كساد، ربّما هذا كنوع من الالتفات حول تجربتهم، أو كنوع من وهم الحضور والتواجد في ما يُسمى موسم الدخول الأدبي.