هل كفّت قسنطينة عن العزف؟
يعيش الفن القسنطيني الأصيل في السنوات الأخيرة حالة من الركود، بعدما طلق حضن المقاهي والفنادق القديمة، ليتأبط ذراع الرعاية الرسمية، فصار يعزف أمام كراس فارغة في قاعات لا يملؤها سوى مغنيي الراي و الطبوع الصاخبة الدخيلة، كما وصفها فنانون و مختصون، تأسفوا للوضع و أرجعوه لعوامل تتعلق بالهجرة العكسية لسكان المدينة نحو الضواحي، و تغير بنيتها الديموغرافية، و ما انجر عنه من تغير في الذوق العام، فضلا عن تراجع دور الجمعيات الموسيقية بعد غياب مشايخها و آخرهم الحاج محمد الطاهر الفرقاني، ناهيك عن هيمنة المنطق التجاري و الاتكالية المطلقة على الدولة، التي طوّقت بدورها الفن داخل جدران الإدارة.
«قسنطينة تفنى قبل البلدان بـ 40 سنة»
يتذكر الفنان العربي غزال بحسرة كبيرة مقولة قديمة لسكان سيرتا جاء فيها ما معناه « قسنطينة تفنى قبل البلدان بـ 40 سنة»، وهي عبارة قال بأنه لم يكن يفهم فحواها قبل الآن، و لطالما اعتقد أن القصد هنا، هو العمران و البنايات، نظرا لقدم المدينة تاريخيا و تمركزها فوق صخرة، لكن الواقع أنهى اللبس، حسبه، فالقصد نهاية المدينة ثقافيا وفنيا قبل غيرها، بدليل أن الذاكرة الجماعية لسكانها بدأت تنسى المالوف و تستغرب النوبة، بينما لا يزال هذا الفن حيا في مدن أخرى كسكيكدة و عنابة.
مقهى القفلة و فندق سيدي قسومة.. هنا كانت النوبة تعزف وتلقن
أبناء المدينة من الفنانين الذين ما زالوا حريصين على تنشيط المشهد الثقافي، بفضل مشاريع واستثمارات خاصة كمقهى الحوزي و بيت المالوف، تأسفوا لحالة الاغتراب التي تعيشها الموسيقى القسنطينية اليوم، خصوصا وأن الجهل بها أصبح عميقا، بعدما كف الرجال عن عزف النوبة، وتوقفت النساء عن رقص الزندالي، في مدينة كانت تتنفس هذا الفن قبل الاستقلال وبعده.
نور الهدى طابي
يقول الفنان محمد عزيزي، بأن المدينة كانت نشطة موسيقيا في الفنادق و المقاهي، على غرار قهوة النجمة، أو» القفلة»، نسبة لصاحبها علاوة القفلة، و التي ظلت لسنوات منارة فنية تحتضن روح المالوف و مكانا للقاء المثقفين منذ تأسيها سنة 1928، قبل أن تتدخل يد الإنسان بحجة الترميم سنة 2015 ، في إطار تظاهرة عاصمة الثقافة العربية، لتحولها إلى خراب، و هكذا أغلق المقهى الذي كان يجتمع فيه شيوخ المالوف من أمثال عبد القادر التومي و قدور الدرسوني و محمد الطاهر الفرقاني و عبد المومن بن طوبال، و ضاع آخر مكان للقاء و النقاش الفني الثقافي، خصوصا بعدما انهارت الفنادق القديمة بحي السويقة، كفندقي سيدي قسومة بالشط، و لوادفل برحبة الصوف، أين كان الشيوخ و تلاميذهم يتدربون، محاطين بعشاق النوبة و القصيد من نزلاء الفنادق التي لم تكن فقط محطات للمبيت، بل كانت أيضا مستقرا للحشاشين و مقارعي الخمر و الزنادقة ، كما أضاف من جهته، الفنان العربي غزال.
يقول محدثنا « بعد اندثار فضاءات المشايخ و الأساتذة، لجأ الجيل الثاني من الفنانين مثله ومثل كمال بودة وعمار بن قجة، حسان برمكي و حسين بن رحمة و آخرين، إلى بدائل للقاء و التدريب ، منها المقر الكشفي لفوج الإرشاد و الفتح وكذا المعهد البلدي للموسيقى، أين كان أساتذة كالشيخ ريبوح بوعزيز و إبراهيم العموشي يدرسان.
كما عرفت قسنطينة خلال خمسينيات و ستينيات القرن الماضي، تأسيس مقاه أخرى ذات طابع ثقافي جامع، كمقهى « شانطة» أو « كافي ريش»، ومقهى « البوسفور»، فكانا قبلة للفنانين و المبدعين، قبل أن يبدأ المشهد الثقافي في الانحصار مع مرور السنوات، ليصل إلى حالة الركود التي نعيشها حاليا.
قائد الجوق الجهوي للموسيقى الأندلسية سمير بوكريديرة
انهيار عمران المدينة القديمة أنتج الفراغ الفني
يرى الموسيقار ورئيس الجوقين الجهوي و الوطني للموسيقى الأندلسية سمير بوكريديرة، بأن حالة الركود الفني بدأت مع انهيار المدينة القديمة وسقوط منازلها، فاضطر أبناؤها للرحيل و دفن فضاءات اللقاء الفنية تحت الأنقاض، كما هو حال الفنادق القديمة التي كانت ملتقى الشيوخ و تلاميذهم، و حضنا لعشاق موسيقى المدينة، فوضعية السويقة انعكست سلبا على واقع الفن الأصيل الذي لم يعد قادرا على إيجاد وعاء يحتويه، إذا ما علمنا أن أزقتها و حاراتها كانت في وقت سابق، رحما أنجب خيرة فناني المالوف القسنطيني، أمثال كمال بودة و العربي غزال و عمار بن قجة و غيرهم.
يبرز هذا التأثير أيضا، في جانب آخر، هو خروج أبناء قسنطينة و فنانيها من وسط المدينة، و استقرارهم في الضواحي كعلي منجلي، و بالمقابل انفتحت المدينة على القادمين من ولايات أخرى، ما خلق تنوعا في الأذواق تراجعت بسببه هيمنة المالوف كطابع غالب.
أضاف الموسيقار، بأن تراجع نشاط الجمعيات الموسيقية التي أسسها مشايخ المالوف، و نقص عددها بشكل ملحوظ، مقارنة بالعاصمة، أثر بدوره على المناخ الموسيقي في المدينة، خصوصا بعد إلغاء الوزارة للمهرجان الوطني للمالوف، لحساب المهرجان الدولي، رغم أن الأول يعد أكثر أهمية بالنسبة للفنانين المحليين، كما أوضح ، وذلك بوصفه فرصة للنشاط بالنسبة للجمعيات و مناسبة للتدريب و للتنافس، فالمهرجان ومنذ تأسيسه، خلق حركية فنية و كسر هدوء المدينة و سمح ببروز أسماء ناجحة من أمثال عباس ريغي.
يأتي أيضا تراجع دور الأسرة كسبب وراء جهل الجيل الجديد بالموسيقى القسنطينة ونفوره منها، فنمط الحياة المتسارع أثر على مكانة الفن عند الأسرة التي أصبحت تصنفه في خانة الكماليات و لا تهتم بتهذيب أذواق أبنائها و تربيتهم موسيقيا، « شخصيا أجد صعوبة في دفع أبنائي للاهتمام بالمالوف»، أكد المتحدث، لذلك فالجيل الحالي لا يعرف عن هذا الفن شيئا، مع أن المالوف ولد وتربى في حضن عائلات قسنطينة كبيرة احتضنته و رعته لسنوات حتى خلال الاستعمار، قبل أن يتغير الوضع الآن، بعد أن تخلى أبناء المدينة عنها تدريجيا و غادروها ليحل محلهم من قدموا إليها من هنا وهناك .
و تعتبر المدرسة بدورها مقصرة بشكل كبير، حسبه، فالمناهج «تعلم أبناءنا أصول الموسيقى العالمية كالسولفاج، لكنها تتجاهل موسيقى المدينة بشكل كلي، رغم أن النوبة تعد موسيقى عارفة ، لها قواعد وليست مجرد طابع فلكلوري».
عراقيل مادية وراء توقف بيت العود و الاستثمار الخاص هو الحل
بالنسبة لمشروع فرع «بيت العود» بقسنطينة، الذي أطلقه العازف العراقي العالمي نصير شمة سنة 2010، و الذي توقف بعد أقل من ثلاث سنوات عن انطلاق نشاطه سنة 2015 ،رغم الآمال الكبيرة التي بنيت عليه لإعادة بعث الحركية و ترسيخ ثقافة تعلم الموسيقى، فقد أوضح الموسيقار، بأن المشروع توقف لأسباب مادية بحتة، تتعلق أولا بعدم وجود مقر دائم، فضلا عن انسحاب المستثمرين الخواص الذين التزموا في البداية بدعم الفكرة، مع ذلك يبقى الحل الوحيد لإعادة بعث الحركية الفنية و إحياء الموسيقى الأصيلة، حسبه، هو الاستثمار الخاص، خصوصا بعدما أعلنت الدولة عن ضرورة انتهاج هذا الطرح كبديل، بسبب التقشف الذي أعادنا إلى الوراء بعشر خطوات، كما عبر.
الفنان محمد عزيزي صاحب مشروع «مقهى الحوزي»
حضر المال فغاب الفن
يختصر الفنان محمد عزيزي صاحب مقهى الحوزي بقسنطينة، و عضو مؤسس لجمعية المستقبل الفني القسنطينية، مشكلة الحراك الثقافي في المدينة، في كلمة واحدة و هي» المال»، فطغيان المادة و السعي وراء الربح، جرد الفن من محتواه، كما قال، وتسبب في اندثار معظم الجمعيات الفنية الموسيقية التي كانت ترعى المالوف، والتي كبلتها الاعتمادات، بعدما صادرها أفراد طمعا في الإعانات المادية، لتحيد بذلك عن طبيعتها و تذعن هي الأخرى للمناسباتية ، بعد أن كانت ناشطة على مدار السنة.
هذه الجمعيات الفنية التي تعتبر، حسبه، روح الموسيقى القسنطينية و الوعاء الذي احتواها لسنوات و أنجب أسماء فنية معروفة، على غرار المستقبل الفني القسنطيني و البسطانجية و الفرقانية و جمعية محبي الفن، لم تعد تنشط كسابق عهدها، لأسباب مختلفة أبرزها وفاة مؤسسيها من مشايخ المالوف وانسحاب آخرين من الساحة، فضلا عن غياب المقرات، رغم إقبال القسنطينيين وحتى غير القسنطينيين من إطارات و موظفين، على إلحاق أبنائهم بها لتعليمهم أصول الموسيقى الأندلسية.
وفي الوقت الذي لا يزال بعض الأساتذة يقدمون دروسا في دار الثقافة مالك حداد، توقف الكثيرون عن أداء واجبهم الفني، لأسباب مادية محضة، كما أوضح المتحدث، مشيرا إلى أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية أجبرت فنانين و أساتذة على الانسحاب و الانشغال بوظائف توفر لهم دخلا كريما ، بعدما بات مسؤولون عن الثقافة يصفون مشاركات فناني المالوف في المناسبات ب» قفة رمضان» و يكرمون الدخلاء على الفن، بينما يتركون «الفتات» لأبناء « الآلة».
«من جهة ثانية، يمكن القول بأن مشروع حماية التراث الثقافي الفني لقسنطينة، و الذي أطلقته بداية الوزيرة السابقة خليدة تومي، قبل أن يعاد بعثه سنة 2015، خلال تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، كان بمثابة نقمة على المالوف»، فرائحة المال، على حد تعبيره، جرت الكثير من الدخلاء الذين صادروا المشروع ، وشوهوا العمل الذي قام به مشايخ من أمثال قدور الدرسوني و محمد الطاهر الفرقاني قبل سنوات، عندما جمعوا نوبات المالوف وعددها 10 ، و قاموا بتسجيلها و حفظها لدى ديوان حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.
وهنا أوضح المتحدث: « أنا لا أقصد السيدة حليمة علي خوجة مباشرة، ولكنني أشير إلى من كانوا يحيطون بها، هؤلاء وجدوا في أموال عاصمة الثقافة فرصة للثراء ، فسطوا على مشروع حفظ التراث الفني و أدخلوا تعديلات خاطئة على عمل مشايخ المالوف، لدرجة أنهم شوهوا طبيعة هذا الفن، و جعلوه صاخبا رغم أن أصله هادئ ورصين».
ويواصل حديثه « اليوم كثيرا ما يأتي جمهور المالوف لسماعه في الحفلات، فلا يتعرفون عليه، وكل هذا بسبب المال، الفنانون تخلوا عن المبادرة الفردية، و أصبحوا لا يحركون ريشة عودهم، إلا بعد الاتفاق حول الأجر ، وحتى العيساوة جردت من محتواها، فبعدما كانت طريقة صوفية تعطف على الفقراء و تطعمهم و تزوج الضعيف منهم، أصبحت لونا فنيا تجاريا، كيف يعقل أن نحصر العيساوة في الأعراس و نحولها لموسيقى راقصة؟، من غير المقبول أيضا أن نضيف الكلمات إلى الهدوة ،لأنها موسيقى صامتة في الأصل».
كل هذه العوامل ،حسب الفنان، دفعت بأبناء المالوف للانسحاب من الساحة الفنية تدريجيا، خصوصا و أن المدينة لم تحظ يوما بإطار ثقافي ناجع، مع ذلك يبقى مقهاه الذي تأسس قبل 15 سنة، كما قال، مكانا للقاء و العزف دون مقابل، فلطالما كان محطة غنى فيها محمد الطاهر الفرقاني و ابنه سليم، حمدي بناني و كمال بودة و سليم العايب و آخرون، حيث يجتمع فيه الفنانون يوميا بعد صلاة المغرب، يتحدثون عن قسنطينة و يعزفون موسيقاها، التي لم تعد تسمع في قلب المدينة بسبب « حفلات الريف»، كما عبر، مشيرا إلى أن كل هذه التغيرات التي عرفتها المدينة ستكون مذكورة في كتابه الذي سيصدر قريبا عن دار نشر « ميديا بلوس» بعنوان « أنا قسنطينة».
الفنان حمداني حمادي مؤسس الجمعية الفنية البسطانجية
المناخ العام دفعنا للانسحاب
يقول الدكتور الفنان حمداني حمادي، رجل ثقافة و عضو مؤسس للجمعية الموسيقية البسطانجية ورئيسها، بأن المناخ الثقافي في المدينة أصبح غير صحي، وهو ما دفعه للانسحاب من المشهد العام بمعية أسماء فنية أخرى، و هناك أسباب تتعلق بهيمنة التنظيم الإداري على النشاط الثقافي، و ضعف الاهتمام بالجمعيات الفنية، فجمعيته لم تملك يوما مقرا دائما، منذ جرى تأسيسها في عيادة الدكتور بن شريف سنة 1983 ، قبل أن تتحول للنشاط في عيادته الخاصة بوصفه جراح أسنان، بالرغم من أنها جمعية تربوية تعليمة ذات طابع غير ربحي.
و أضاف الدكتور حمداني، بأن غياب المبادرة و الاعتماد على دعم الدولة و الاستسلام للمناسباتية، من الأسباب التي أدت لتراجع الحركية الثقافية و الفنية في المدينة،» فالجو الثقافي كان أكثر نشاطا قبل الاستقلال و بعده بسنوات، حيث أن الفرق الموسيقية كانت صاحبة المبادرة و كانت تنشط بحرية خارج الإطار الرسمي».
و أكد المتحدث» قبل الاستقلال أسسنا أنا و محمد براشي و شرواط بادادي أوركسترا فنية، وكنا ننشط داخل قسنطينة وخارجها ، و كان يرافقنا الفنان المسرحي قاسي القسنطيني، اعتمدنا دائما على إمكانياتنا الخاصة لتمويل حفلاتنا، كنا نؤجر المسرح من البلدية، وندفع تكلفة تأمين الحفل لمصالح الشرطة والحماية المدينة، نقتطع قيمة الضرائب من إيرادات الحفل ونستعين بالخواص للإشهار، أتذكر أننا كنا نحصل على الملصقات الإعلانية من مؤسسة « باسطوش» سابقا، شركة التبغ حاليا،و لم ننتظر يوما دعم الدولة».
و يعتبر الفنان بأن المبادرة الفنية الفردية ، بدأت تنحسر نوعا ما، بعدما أصبح الفنانون و الجمعيات، يعتمدون على دعم الدولة للنشاط مقابل مجانية العروض، وذلك عقب تأسيس الولاية لما عرف بلجنة الدوائر الثقافية، سنة 1963، بغية دعم الحركة الثقافية المحلية.
على صعيد آخر أوضح المتحدث، بأن الموسيقى كانت تحيا في قسنطينة عندما كانت ترعاها عائلات كبيرة، ربت أبناءها، كما قال، على حب المالوف و أورثته إليهم ليؤدوه وليعلموه، الوضع الذي اختلف اليوم بعد رحيل الكثير من الأسماء الفنية و انسحاب آخرين من الحياة العامة، و ضرب مثلا بشخصه، قائلا بأن سنه و مكانته، لا يسمحان له بالتملق للحصول على مقر لجمعيته الثقافية، التي تنشط اليوم بشكل محدود، حالها حال جمعيات ثقافية أخرى، منها من لا تزال تقاوم ومنها من توقفت نهائيا عن العزف.
الفنان العربي غزال صاحب مشروع بيت المالوف
تغيّر البنية السكانية لقسنطينة فرض موسيقى « الفيلاج» و الراي
من جهته يرى الفنان العربي غزال، صاحب مشروع « بيت المالوف» الذي تأسس كمقهى فني سنة 1998 ، وكان يحمل في البداية تسمية «بستان الغزال»، قبل أن يتخذ صفته كفضاء فني عائلي منذ سنة 2003، بأن مشكلة الفن القسنطيني، تكمن في انحدار الذوق العام بسبب الغزو الثقافي الناتج عن العولمة، فهذا الجيل، حسبه، لا يفقه الفن الأصيل ولا يملك الصبر لسماعه، ولا الحكمة لفهم معاني القصائد و تذوق جماليتها، بل يبحث عن كل ما هو إيقاعي سريع و صاخب.
أما السبب الثاني و الرئيسي ، فيمكن في الهجرة العكسية في الاتجاهين، والمقصود، كما أوضح، هو هجرة العديد من أبناء قسنطينة نحو الضواحي و التوسعات الحضرية كعين سمارة و علي منجلي و الخروب و غيرها، بعد انهيار المدينة القديمة، و بالمقابل انتقال الكثير من أبناء المدن الأخرى للعيش في قسنطينة، حاملين ثقافتهم و مشبعين بموسيقى مناطقهم، التي فرضت نفسها كمنافس، وحتى كبديل للمالوف. فقبل سنوات كانت العيساوة و غيرها من الطبوع القسنطينة، تشكل فحوى 98 في المئة من الأغاني الخاصة بإحياء الأعراس المحلية ، ولم تكن العائلات تختار بديلا عنها، إلا نادرا، أما اليوم فالقسنطينيين باتوا يفضلون موسيقى الراي و القرى و يختارون» الديسك جوكي « بدل «الآلة» أو الجوق، نظرا لتكلفته المحدودة، يقول « تخيلوا أن الفنان القسنطيني مطلوب لإحياء الأعراس خارج المدينة، أكثر مما هو مرغوب داخلها، و حتى الحفلات ذات الطابع الرسمي، لم تعد تستقطب الجمهور رغم أنها مجانية أحيانا «.
تجدر الإشارة ، كما أضاف،» إلى أن القائمين على التظاهرات الفنية، يفضلون الطبوع الشبابية العصرية، لأنها تملأ القاعات، عكس المالوف فشباب اليوم يتنقلون لكيلومترات لسماع مغني الراي، لكنهم لا يدخلون حفل مالوف مجاني، بالمقابل يجد عشاق هذا اللون الفني الأصيل، صعوبة في التنقل من علي منجلي مثلا، إلى قاعة أحمد باي «زينيت» ليلا لحضور حفل أندلسي، نظرا لموقعها البعيد ، خصوصا بالنسبة لمن لا يملكون وسيلة نقل، وهذا التكاسل إن صح وصفه، ولد خلال العشرية السوداء ، حيث أصبحت المدينة تنام باكرا و تسكن للهدوء بعد الخامسة مساء».
الإجحاف أفرغ الساحة الفنية
هذا الوضع يقول العربي غزال أنه أثر على واقع المالوف، و جعل القائمين على الثقافة يهملونه «فمن الإجحاف أن يتقاضى مغني الراي 80 مليون سنتيم أو أكثر، خلال سهرة واحدة، بينما لا يخصص المنظمون أزيد من 10 ملايين سنتيم لجوق موسيقي متكون من 10 أفراد، خصوصا وأن الموسيقى تعتبر مصدر دخلهم الوحيد، إضافة إلى ذلك، فإن أصحاب المطاعم والفنادق في قسنطينة ، لا يملكون ثقافة التعاقد مع جوق محلي، و إن حدث وفعلوا، فقد يقترحون الطعام كبديل عن الأجر، وهي إهانة كبيرة للفنان و عازفيه، وهو الواقع الذي دفع بالكثيرين للتخلي عن الموسيقى نهائيا».
مع ذلك يرى المتحدث، بأن تحريك المشهد الثقافي و الحفاظ على الإرث الموسيقي، مسوؤلية فناني المدينة و أبنائها، وعليه فإنه يعتزم قريبا تأسيس جمعية ثقافية فنية، بمعية مجموعة من الفنانين والعازفين.