يتأكد يوماً بعد يوم الدور الفعاّل للمرأة المبدعة في مجال السينما، وعملها المتواصل لئلا تبقى مجرّد صورة على الشاشة. ويصبح ذلك ضرورياً من خلال جرأة الطرح في معالجة قضايا إنسانية بأبعاد عميقة تتجاوز النظرة السطحية للمرأة، وتغوص عميقاً في مقاربة ظاهرة العنف والظلم المجتمعي للنساء، من خلال أفلام أنتجتها وأخرجتها نساء. دون إغفال الانفتاح على التجارب المغايِرة في تناول قضايا الكتابة السينمائية والبحث في المواضيع المتعلقة بالمساواة، والحقوق المدنية، ومحاربة التحرش الجنسي، التأكيد على القيم الإنسانية وكيفية تفاعلها مع تطورات الصناعة السينمائية.
«لوموناد»... أبواب الحلم الأمريكي شبه الموصدة
مارا أمٌّ عازبة، ثلاثينية من أصل روماني، تنتقل للعيش في أمريكا بفيزا مؤقتة، وبحكم عملها كممرضة، ترتبط بدانيال أحد مرضاها، أسابيع قليلة قبل انتهاء صلاحية الفيزا؛ لتشرع بعدها في إجراءات طلب بطاقة الإقامة الدائمة. الأمر الّذي يشجعها على جلب ابنها دراغوس ذي التسع سنوات للعيش معها، وكذلك بيع بيتها في رومانيا، حتى تتمكن من الاستقرار مع ابنها وزوجها الجديد، كلُّ هذا يمرُّ في البداية بهدوء تام، وفي أجواء من القلق الخفي، تعكسه نظراتُ بطلة الفيلم التي تبدو خاوية، وبعينين على وشك البكاء دائماً، ما من أضواء وبهرج لوني هنا، المشاهد الباهتة للبنايات والسّماء الرمادية والشوارع الواسعة؛ طغت على زمن الفيلم الّذي يحكي تفاصيل أيامٍ قليلة في ساعة و28 دقيقة.
شيئاً فشيئاً، يتبدَّد الحلم الأمريكي أمام المشاكل الإدارية، والاجتماعية، والاستغلال البشع لامرأة هشَّة، لا أوراق لها، مهدَّدة بالطرد في أي لحظة، وهي التي تبحث عن سبيل للاستقرار وتحسين ظروف حياتها. وجه آخر لأمريكا، باهتْ ومُعتم، تعكسه برودة المكاتب، والحقيقة التي تقول: هنا، أنت في أمريكا وكلّ شيء بثمن. تتعرَّض مارا للمساومة الجنسية وهو ما يتجلى في مشهدٍ حواري مطوَّل مع موظَّف مصلحة الإقامة الّذي يهدّدها برفض ملفها، خاصة وأنّ زوجها عاجز عن أداء واجباته الزوجية كرجل عادي. هذا الأخير الّذي ينقلب إلى وحشٍ حينما تخبره بما تعرَّضت له من مساومات واستغلال، مروراً بالمحامي المغترب، الّذي بدوره يستغل قضيتها لتحقيق الربح والترويج لعمله.
نقلت المخرجة إيوانا أوريكارو صورة أخرى لأمريكا الحلم، صورة تجعل المشاهد لفيلم «لوموناد» يندمج مع نفسية البطلة (مالينا مانوفيتشي)، ويتتبع مصيرها في مواجهة مشاكلها بإصرار رغم المعاناة. هذا ما يظهر منذ البداية عندما تركت ابنها مع صديقتها، لكن هذه الأخيرة اضطرت لتركه في البيت وحيداً وهو ما استدعى حضور الشرطة لأنّ الأمر مخالف للقانون خاصة وأنّ الولد قاصر. حالاتٌ كثيرة تؤكد الصراع الداخلي بين ثقافتين متباعدتين، ومحاولات تبدو فاشلة في الإجابة عن سؤال عميق: هل كلُّ هذا يستحق؟
«ألف فتاة تشبهني» ... قصة «خاطرة» التي كسرت حاجز الصمت والخوف
خاطرة امرأة في ربيعها الثالث والعشرين، حامل ولديها ابنة. تظهرُ في بداية الفيلم الوثائقي «ألف فتاة تشبهني» للمخرجة صهرا ماني، متردّدة في كسر حاجز الخوف لكنّها قرَّرت كشف الحقيقة والحديث إلى التليفزيون، كفكفت دموعها وحزمت أمرها بأن تتحدَّث، أن ترفع صوتها القادم من قرية صغيرة في أعالي جبال ثلجية باردة، تبعد 7000 كلم عن العاصمة الأفغانية كابول.
صدمة جنسية يصعب التعايش معها، ما تعرضت له خاطرة لسنوات: الضرب والاغتصاب من طرف أبيها. تعنيف طال أمّها التي بدت كامرأة لا حول لها ولا قوة، أمام واقع يحمل المرارة كلّها، لهذه الشابة التي لديها ابنة من والدها وهي مع بداية الفيلم تبدو حاملاً بولد ثانٍ من أبيها. لم ينفعها رجال الدين الذين لجأت إليهم، الثالث عشر منهم نصحها بالحديث إلى التليفزيون وكشف قضيتها للرأي العام، مع تحمّل تبعات ذلك، خاصة بعد حجز والدها في انتظار كشف اختبار الـ ADN والدخول في مواجهة نظام قانوني هشّ ومتخلِّف، لا يوفّر الحماية الكافية للنساء، لا سيما حالات شائكة مثل حالة خاطرة. في ظلِّ تهديد أعمامها لها ولأسرتها: ولداها، أمها وأخوَاها الذيْن يلومانها دائماً بجلب العار للعائلة، وهي التي احتفظت بطفلين غير شرعيين، في حالة خروج والدها من السجن. رحلة الانتقال من بيت إلى بيت، والتردّد على مكتب المحامية والمحكمة، ووسائل الإعلام، هي مسارات الفيلم في تتبعه لمعركة خاطرة التي رغم كلِّ التهديدات والمخاطر لم تستسلم.
تفكر خاطرة في قتل نفسها وابنتها، وأحياناً أخرى تصبح طفلة وهي تلاعب ابنيها، بعد مجيء الولد الثاني. لحظات مؤلمة استطاعت المخرجة الأفغانية صهرا ماني، في 76 دقيقة، أن تقبض فيها على الألم وكيف يمكن ترويضه في طريق البحث عن حق مسلوب. الفيلم يُشاهَد بنفَسٍ شبه مقطوع بين جدران بيوتٍ مؤقتة، لكنَّه في الأخير ينتصر لا لصوت خاطِرة لوحدها، بل لألف فتاة تشبهها، ظلَّت صامتة، ولم تستطع التحدث والقول ولو همساً: «لا». في مجتمعات ذكورية، السلطة الوحيدة فيها للرجل وللعادات المتخلفة والبائدة.
****
في الأخير، توِّج فيلم «لوموناد» للمخرجة الرومانية إيوانا أوريكارو بالجائزة الكبرى في المسابقة الرسمية للفيلم الروائي الطويل، في الدورة 12 للمهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا المغربية. الفيلم إنتاج مشترك بين كل من رومانيا، ألمانيا، السويد، وكندا، سنة 2018. وللمخرجة فيلم آخر بعنوان «حكايات العصر الذهبي»، 2009. في حين توِّج فيلم «ألف فتاة تشبهني» للمخرجة صهرا ماني، والّذي استغرق انتاجه أربع سنوات منذ 2014، بالجائزة الأولى عن مسابقة الفيلم الوثائقي الطويل للمهرجان.
المهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا، شكَّل من خلال برنامجٍ مكثَّف لعروض الأفلام الروائية الطويلة، والتي عُرض منها 11 فيلماً حصرياً في المغرب، من بين الـ 12 فيلماً مشاركاً في المسابقة، شكَّلَ منصة للحوار والمقاربات الإبداعية في زمن وُصف بالعنف والتعصّب، كما كان للأنشطة الموازية دورٌ فعّال وهام في تبادل التجارب وترسيخ الثقافة السينمائية خصوصاً لدى الشباب. المرأة في هذا المهرجان النسوي حاضرة كقضية وكصانعة للسينما، قصد تعميق النقاش حول موضوعات أفلام المرأة بين مخرجات وفنانات يمثّلن القارات الخمس، والمشاركين من شخصيات إعلامية وفنية وجمهور.
خالد بن صالح